خلال أيام قليلة خسرَ النظام السوري سيطرته على مناطق شاسعة من شمال البلد، فيها عشرات القرى والبلدات والمدن، وفيها مدينة حلب بثقلها العمراني والاقتصادي والبشري والرمزي الكبير. وإذا كان ثمة مجاهيلُ كثيرة في هذه الأحداث، بما يجعلُ تحليلها واستشراف نتائجها أمراً عسيراً اليوم، إلا أن هناك حقائق أساسية من المفيد إبقاؤها في البال عند محاولة التفكير والتحليل وتكوين الآراء والمواقف، ثم يمكن استنتاج خلاصات أساسية من هذه الحقائق، أياً يكن الرأي في الفاعلين الأساسيين في هذه الأحداث وأياً تكن مآلاتها في الأيام القادمة.
لعلّ أبرز الحقائق أن النظام كان قد احتفظ ببعض هذه المناطق طوال سنين الحرب ودافعَ عنها بشراسة، وأنه خاض معارك طويلة ومريرة حتى تمكَّنَ من استعادة مساحات واسعة منها، وأنه في معارك الدفاع والاستعادة تلك ضحى بعشرات الآلاف من مقاتليه السوريين ومقاتلي حلفائه التابعين لإيران، واستعان بآلاف الطلعات الجوية الروسية والسورية ومئات آلاف القذائف والصواريخ والبراميل، فضلاً عن عشرات آلاف القتلى من الفصائل المناهضة لحكمه، وعشرات آلاف الضحايا من المدنيين، ودمار واسع تُقدَّرُ أكلافه بمليارات الدولارات. كانت إنجازاته الميدانية تلك، وخاصة منعطفها الأهم في 2016، عندما استعاد أحياء حلب الشرقية، علامة «انتصاره» الأبرز على خصومه، وقد أمكنَ لكل ذلك أن يتبخّرَ خلال أيام.
هذه الواقعة، التي ما كان يمكن تصديق حصولها في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي، ستكون واقعة تأسيسية دون ريب في مجريات الأشهر والسنوات القادمة، وأول ما يمكن استنتاجه منها هو ضعف النظام السوري ورثاثته الشديدة، بما يقوّضُ كل خطاب السنوات القليلة الماضية عن «انتصاره». وسواء كان النظام قد فشل في الدفاع عن هذه المناطق، أو أنه لم يُرِد الدفاع عنها بشكل جدي لأسباب تَكثُر التحليلات والتكهنات بشأنها، فإن النتيجة تبقى واحدة على هذا الصعيد، وهي أن ما جرى يطرح أسئلة صعبة على حلفاء النظام الروس والإيرانيين بشأن الحاجة الدائمة لانخراطهم النَشِط في حمايته، ويطرح أسئلة صعبة أيضاً على المتحمّسين للتطبيع معه ودعم استعادته للشرعية والسيطرة الترابية على كامل البلد.
من الحقائق أيضاً أن هذه المعركة لم تبدأ «فجأة في منطقة مستقرة» كما يَشيعُ الاعتقاد عند من لا يتابعون الأخبار المحلية السورية، بعد أن كفّت وسائل الإعلام العربية والأجنبية لسنوات عن تغطية أخبار الحرب «التي انتهت في سوريا». منذ مطلع العام الجاري، وحتى منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قَتل النظام السوري وحلفاؤه 66 مدنياً في الشمال السوري بينهم 18 طفلاً، فضلاً عن التسبب بإصابة المئات ونزوح عشرات الآلاف. كما أن هناك مئات آلاف المُهجَّرين من أبناء المناطق التي خسرها النظام في الأيام الماضية، كانوا مُبعَدين قسراً عن بيوتهم إلى مناطق سيطرة الفصائل وهم يأملون العودة اليوم، وآلافٌ مؤلفة منهم تعيش منذ سنوات في مخيمات على الحدود السورية التركية. وليس هذا كلّه بلا سياق سياسي، بل إن سياقه هو فشل كل المبادرات السياسية التي تهدف إلى إعادة إنتاج شرعية النظام عبر تغييرات وتفاهمات سياسية صغيرة أو كبيرة، من المبادرة العربية العام الماضي إلى المبادرة التركية هذا العام.
الخُلاصة هنا أن الكلام عن استحالة الاستقرار في سوريا دون «حل سياسي» يقدّم فيه النظام تنازلات جدية، وهو الكلام الذي كان كثيرون يعتبرونه مجرد «شعار سياسي»، قد ثبتت صحته تماماً. كانت المبادرتان العربية والتركية تحملان للنظام وعوداً بالتطبيع معه ومساعدته في مواجهة العقوبات الغربية، فضلاً عن مساعدته في طيّ صفحة محاسبته على ما ارتكبه، وكان على النظام بالمقابل أن يخلق أوضاعاً سياسية تكفّ معها سوريا عن أن تكون مصدراً لعدم الاستقرار، ويكفُّ معها السوريون عن الخروج من بلدهم لاجئين في كل طريق ممكن، ويستطيع معها قسمٌ من اللاجئين في دول محيط سوريا أن يعودوا بأمان. فضلاً عن هذه المطالب المشتركة بين المبادرتين، كذلك كانت لدى الدول العربية طلبات ذات صلة بالحد من تدفّق الكبتاغون السوري إليها والحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا، ولدى الدولة التركية طلبات تتعلق بتعاون النظام معها في حربها ضد حزب العمال الكردستاني.
باستثناء الطلب التركي المتعلق بالتعاون ضد حزب العمال، الذي يبدو واضحاً أن النظام ما كان ليرفضه لو توفرت الشروط الأخرى للتفاهم مع تركيا، فإن النظام لم يحاول أصلاً أن يُقدّم شيئاً جدياً في أيٍّ من الملفات الأخرى باستثناء الوعود والكلام. وسواء كان لا يستطيع ذلك أم لا يريده، وهو ما تختلف التحليلات بشأنه، فإن النتيجة واحدة، وهي أن ما جرى في الأيام الماضية يُثبتُ أنه لا معنى لتوقُّع الاستقرار في سوريا دون انخراط النظام السوري في عملية سياسية جدية يرفضها بتعنّت وثبات منذ 2011.
كذلك فإن من الحقائق التي يبدو مفيداً تنشيط الذاكرة بشأنها هي تلك المتعلقة بهوية الفصائل التي تُوسِّع سيطرتها في سوريا اليوم، فهذه ليست مجرّد فصائل «جهاديين» كما يحلو لكثيرين أن يقولوا لإراحة أذهانهم من التعقيدات أو لتصليب مواقفهم المُسبَقة، ولا هي فصائل «ثوار الحرية» كما يحلو لآخرين أن يقولو أيضاً للهدف نفسه، أي إراحة أذهانهم من التعقيدات أو تصليب مواقفهم المُسبَقة. تقودُ «هيئةُ تحريرِ الشام» فصائلَ «إدارة العمليات العسكرية»، التي بدأت معركة «ردع العدوان» يوم الأربعاء الماضي في ريفَي إدلب وحلب الغربي، والهيئةُ كما هو معروف هي جبهة النصرة القاعدية سابقاً، أي أنها كانت تنظيماً جهادياً فعلاً، لكنها تُحاول منذ سنين أن تغسل وجهها بقيادة زعيمها الجولاني، فتخلّت عن أغلب خطابها الجهادي وإن لم تتخلَّ عن خطابها الديني المُتشدِّد العام، مع بنائها سلطة مُنظَّمة في إدلب تدير حياة الناس، وتبطش بخصومها وأولهم الجهاديون عندما يعترضون على تحولاتها أو ينازعونها سلطتها، وتمارس التعذيب في السجون، وتقمع المظاهرات ضدها بمزيج العنف الدموي والمناورة كما تفعل الأنظمة الديكتاتورية، وتبذل جهداً ملحوظاً لتسويق نفسها بالابتعاد أكثر عن «الخطاب والسلوك الجهادي» على ما يظهر بوضوح في الأيام الأخيرة. لكنها لا تقاتل وحدها، بل معها آلاف المقاتلين من فصائل أخرى، بعضها ما يزال سلفياً جهادياً فعلاً، لكن أغلبها لم يكن جهادياً في أي يوم، بل هي فصائل محلية متنوعة مُعارِضة للنظام وإسلامية التوجهات في معظمها، وفيها كثيرون ممّن يقاتلون للعودة إلى ديارهم التي هجّرهم النظام منها قسراً، أو دفاعاً عن الحلم برحيل النظام السوري وقيام نظام سياسي جديد أقل طغياناً في البلد.
أما «الجيش الوطني»، الذي أعلن لاحقاً معركة أسماها «فجر الحرية» من ريف حلب الشمالي، فتقوده فصائل تابعة لتركيا. وصحيحٌ أن فصائل «إدارة العمليات العسكرية» مدعومة تركيّاً أيضاً بمستويات متفاوتة، لكن الفارق بينها وبين فصائل «الجيش الوطني» هو أن الأخيرة تابعة تماماً لتركيا، وأن معاركها وجهدها العسكري الأساسي منصبٌّ على محاربة «قسد» خدمةً للأمن القومي التركي ومعاركه ضد الكُرد. وطبعاً لا شكّ أن ثمة بين هذه الفصائل من كانوا سابقاً مقاتلين في «الجيش السوري الحر» ضد النظام السوري، وأن كثيرين منهم يقاتلون دفاعاً عن مناطقهم أو للعودة إليها بعد أن تم تهجيرهم منها، لكن السِمة الغالبة هناك هي التبعية التامة لتركيا، وكذلك الفوضى الشديدة والنزاعات الداخلية والانتهاكات والجرائم المتنوعة، ولعلّ العلامة الأبرز في تاريخ «الجيش الوطني» هي مسؤوليته المشتركة مع الدولة التركية عن جريمة عفرين المستمرة بحق الكُرد، التي تشمل التهجير القسري والقتل والسطو على الأرزاق والممتلكات.
نحتاج التذكير بكل هذه التفاصيل من أجل الوصول إلى خُلاصتين أساسيتين؛ أنه من غير الصائب اختصار كل هذه الفصائل بكلمة «جهاديين» ولا بكلمة «أتباع تركيا»، إذ أنه اختزالٌ لا يخدم في شيء سوى في تعزيز عدم الفهم. كذلك لا يمكن بالمقابل الرهان على «استقرار» و«أمان» و«تغيير» يجلبه هذا المزيج المتفجّر الذي لم تتوقف صراعاته البينية يوماً واحداً منذ 2013، كما لم تتوقف جرائم وانتهاكات معظم مكوناته الأساسية يوماً منذ ذلك الوقت.
ثمة حقيقة أخرى حاسمة قد تكون الأهم عند التفكير في مآلات الأيام القادمة، وهي أن ما جرى كان في بدايته على الأقل نتيجة إذنٍ من تركيا للضغط على النظام السوري الرافض لكل مبادرات التفاهم معها، والاستفادة من الفراغ الذي تركه انسحاب حزب الله وتراجع قوة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وأن هناك تفاهمات تركية روسية إيرانية هي التي أنتجت الوضع السابق على هذه المعركة من خلال مسار أستانا، وأن تفاهمات أخرى هي ما سيُنتِجُ الوضع اللاحق لهذه المعركة، هذا ما لم يتم دفن هذا المسار الثلاثي كلياً، بما يعني ذهاب سوريا في منعطف جديد يصعب التكهن به اليوم. سنعرف في الأيام القادمة ما إذا كانت الفصائل المناهضة للنظام قد تحركت ضمن تفاهمات دولية مُعدَّة سلفاً والتزمت بها، أم أنها تقدّمت خارج خطوط التفاهمات من تلقاء نفسها عندما وجدت الفرصة متاحة. في كلا الحالتين، إذا كانت الفصائل قد توسعت إلى هذا الحدّ دون تفاهمات دولية وترتيبات تضمنُ عدم تدمير المناطق السكنية على رؤوس أهلها، كما حصل مع أحياء حلب الشرقية سابقاً، فإن ما فعلته لن يرجع بالفائدة على أحد حتى عليها هي نفسها، وسيكون سبباً في مذبحة رهيبة جديدة على يد النظام وحلفائه، وحماقة يخرج منها النظام أكثر قوة سياسياً رغم رثاثته الشديدة وفشله الميداني.
بانتظار أن تكتمل الصورة، فإن شيئاً واحداً يمكن أن يدفع سوريا إلى أوضاع أقلَّ سوءاً، وهو أن يحدث تغيير داخلي أو خارجي يفرضُ على النظام الذهابَ إلى تفاوض سياسي حقيقي على مستقبل البلد. ليس هناك مؤشرات في هذا الاتجاه حتى اللحظة، وستكشف الأيام القليلة القادمة كثيراً من أجزاء اللوحة الناقصة.
مقالات مشابهة