وضع متظاهرون أكياس جثث بيضاء في مظاهرة رمزية خارج البيت الأبيض، في العاصمة الأميركية واشنطن؛ احتجاجاً على الوفيات في غزة، مع تصاعد اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في القطاع، ووضع المتظاهرون على جوانب الطريق لافتات تقول: “بايدن أوقف الحرب الآن”. لكن الرئيس الأميركي يعاني ضعف السمع والبصر عندما يتعلق الأمر بغزة، برغم أن المجازر الإسرائيلية المروعة بحق الفلسطينيين، أمام العالم، لا تقيم وزنا للشرائع أو القوانين الدولية، وتفتح الباب واسعاً لسيادة قانون الغاب وأشكال جديدة من الحروب المروعة، ونهاية النظام العالمي، كما حددت ملامحه اتفاقية ويستفاليا، وبداية عصر “الاضطراب الدائم”!
حروب نابليون
هنري دونان رجل أعمال سويسري سافر إلى بلدة إيطالية؛ بحثاً عن صفقة تجارية لزيادة ثروته، لكنه فوجئ بنشوب معركة ضخمة بين طرفين، انهالت طلقات الرصاص وسالت الدماء وقطعت رؤوس الجنود مع كل قذيفة، آخر النهار كان قد سقط 30.000 جريح وقتيل، شهد هنري هذا المشهد الفظيع يوم 24 من يونيو 1859 في سولفرينو أثناء حرب الاستقلال الإيطالية بين الإمبراطورية النمساوية من جهة والتحالف الفرنسي – الإيطالي من جهة أخرى، في صراع وحشي لا إنساني؛ ما دفع هنري دونان إلى اتخاذ إجراءات لصالح الجرحى بغض النظر عن معسكرهم، ستؤدي لاحقاً لولادة منظمة “الصليب الأحمر الدولي”، واتفاقيات جنيف وقانون النزاعات المسلحة.
يؤكد الكاتب أونابيلي ميندوكا كاي هيرفي، في دراسة بعنوان “مستقبل الحرب”، أن معركة “سولفرينو” تمثل مفهوم الحرب كما حددتها “معاهدة ويستفاليا” عام 1648، التي ولدت من رحم “حرب الثلاثين عاماً”، وهي تعتبر الحرب اشتباكاً عسكرياً دموياً بين جيوش دولتين أو عدة دول، وفق قواعد يجب على المتحاربين احترامها؛ وإلا فإنهم يرتكبون جرائم حرب. وقبل هذه المعاهدة كان ملاك الأراضي من ذوي النفوذ يتمتعون بسلطة تشكيل الجيوش وخوض الحروب. استمرت “ويستفاليا” أكثر من أربعة قرون وأنشأت نظاماً عالمياً جديداً تعتبر فيه الدول الفاعلين الوحيدين. مع “ويستفاليا” ولدت كلمات مثل سيادة الدول واحتكار العنف المشروع أو القوة وإعلان الحرب. خاض نابليون كل حروبه وفقاً لهذا المفهوم، وإذا ألقينا نظرة على التاريخ الحديث للصراعات، فكل الحروب التي نعرفها تقريباً كانت تقليدية، والحربان العالميتان مثال نموذجي على ذلك.
لكن التطورات التي تشهدها الحروب والصراعات الدولية، في الوقت الراهن، تنذر بتحولات جوهرية في شكل وطبيعة الحرب عما عرفته البشرية في القرون الماضية، وإن ظلت أهداف الحرب كما هي؛ فالحرب هي السياسة بوسائل أخرى، وبالنسبة إلى كلاوزفيتز، هي مجرد استمرار لممارسة السياسة بوسائل أخرى، ويصفها صن تزو بأنها فن ذو أهمية حيوية للدولة.
الكلمة العليا
باتت العلاقات الدولية أرضاً خصبة لنوع جديد من الحروب، يختلف عن الحروب التقليدية، فالنظام العالمي صار أكثر تعقيداً؛ يصعب فهمه ومراقبته والتحكم به. كانت الدول بجيوشها هي صاحبة الكلمة العليا في “عالم ويستفاليا”، وكانت القوانين والتقاليد الدولية هي القاعدة، وكان المجتمع الدولي مسؤولاً عن تطبيق القواعد.
“النظام العالمي” الآن يتخلخل، يهتز ويتغير؛ لأن اختراق قوانينه أصبح ممكناً، يسهل اليوم الهروب من القوانين الدولية، لأن بها العديد من الفراغات، من المرجح أن تظهر جهات فاعلة جديدة، تستغل هذه الفراغات في المستقبل لشن أنواع جديدة من الحروب، وفي هذه الساحة الجديدة التي يسود فيها عدم احترام القانون أو خداع اللوائح التنظيمية، سيواجه العالم في المستقبل عشوائية متزايدة مع ظهور أشكال مستحدثة من الصراعات في كل مكان. لقد بدأ هذا بالفعل، أي ظهور نظام عالمي جديد يسميه شون ماكفيت “الاضطراب الدائم”.
و”الاضطراب الدائم” هو الساحة التي ستندلع فيها الحروب المستقبلية، وستظهر صراعات مع فاعلين جدد، باستخدام أساليب وقواعد جديدة، سيتغير فيها مفهوم الفوز، كما سيميز الاضطراب الدائم العلاقات الدولية ويؤثر عليها ويغير وجه حروب المستقبل، فلن تكون الدول هي وحدها الجهات الفاعلة الرئيسية في الحروب المستقبلية. كما أن المجتمع الدولي لن يكون قادرا على حماية الأبرياء، في حالة الاضطراب الدائم، ( في العراق وأوكرانيا وغزة نموذجاً)، وسيشهد المرء تناقص وزن سلطة الدولة. على سبيل المثال، في عام 2014، بعد خروج الولايات المتحدة من العراق، التي تحولت لدولة منهارة، رجح وضع الدولة الضعيف صعود “داعش” في العراق وسوريا. في نهاية المطاف، تم ملء الفراغ في السلطة الذي خلفته الدول المنسحبة من قبل المتمردين، والخلفاء، والشركات، ودول المخدرات، وممالك أمراء الحرب، وأسياد المرتزقة.
وفي سياق فقدان الثقة في “نظام ويستفاليا” وتنامي “الاضطراب الدائم”، ستفقد الدول شرعية العنف المشروع، وتقوم الجهات الفاعلة الجديدة بتوظيف المحاربين أو المرتزقة لشن الحروب نيابة عنها، وأي سبب سيكون جيداً بما يكفي لهؤلاء الفاعلين الجدد لشن الحروب، سواء لكسب المال، والكفاح من أجل المعتقد أو الانتقام ومن أجل هدف ما.
شركات المرتزقة
ومن المرجح أن يظهر في المستقبل “حروب سرية”، حيث ستقاتل الدول دولاً أو جماعات أخرى باستخدام المرتزقة أو الأشخاص المستأجرين، وليس باستخدام جيوشها الدائمة، وسوف تستخدم الشركات العسكرية الخاصة في كثير من الأحيان لتفادي القوانين الدولية وشن الحروب، كما ستقوم البلدان بتوظيف هذه الشركات لمساعدتها على مكافحة التهديدات على أراضيها أو في الخارج.
هكذا يصبح عصر “الاضطراب الدائم” بلا قواعد النظام الويستفالي؛ لن يحترم المتحاربون قوانين النزاعات المسلحة وسيرتكبون فظائع وجرائم حرب، غير أن هذا لن يكون مهماً لأن النموذج لم يعد هو نفسه، وستساعد سياسة الإنكار الدول على شن الحروب وإنكارها، وستكون الدعاية أقوى من القوة النارية، وقد لا يعتمد النصر في المستقبل على أي جيش سيفوز، ولكن على أية قصة ستنتصر. وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، سيستخدم المحاربون المستقبليون المعلومات كسلاح أكثر خطورة من الرؤوس النووية.
في هذه الساحة الجديدة، ستشترك الدول في حق شن الحروب مع الفاعلين من غير الدول، ويلعب المرتزقة أدواراً أساسية، ولن تكون التكنولوجيا ضماناً لتحقيق النصر، يرى خبراء الاستراتيجية أن التكنولوجيا لها دور أساسي في الحروب، لكنها لن تكون وحدها العامل المحدد لنتائجها، ولن يحترم أحد قواعد التسلح؛ سوف يسود والسلام والحرب في آن واحد، وسيصبح الردع النووي من خلال الدمار المؤكد المتبادل من الماضي، وأفضل الأسلحة لن تطلق الرصاص.
إن الأمر عائد للقادة والخبراء الاستراتيجيين اليوم لتوقع بداية عصر العشوائية أو حقبة “الاضطراب الدائم” المظلمة، ولأن يكونوا في أهبة الاستعداد. إن عدم التفكير بشكل استراتيجي في مستقبل الحرب والتكيف معها يشكل تهديداً وجودياً لدول اليوم، ونظراً لتطور الحروب مع الوقت، من الأهمية بمكان فهم الشكل الذي سيبدو عليه مستقبلها؛ حتى نكون على استعداد، فالعرب كالعادة ومعهم شعوب العالم الثالث، ظلوا منذ نظام ويستفاليا ضحايا أو مفعولاً بهم، فكيف يكون حالهم في أتون الاضطراب العظيم؟
إن الظلم الفاحش الذي يعانيه المدنيون في غزة والجرائم المروعة التي تقترف بحقهم تحت بصر العالم وسمعه، زلزال يسهم في دفع النظام العالمي، وفقاً لمعاهدة ويستفاليا، إلى الزوال في المستقبل؛ لأن “القوى الكبرى” تتقدم الصفوف في ظلم الشعوب والهيمنة على مقدراتها وعدم إنصاف أصحاب الحقوق من الشعوب المضطهدة مثل الشعب الفلسطيني؛ المؤسف أن يقوم نظام عالمي بديل أساسه “الاضطراب الدائم” تحت ظلال حروب المستقبل!