يقول الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا: “الأدب هو أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التَّعاسة”، فيما يشير الفيلسوف هايدغر: “يجب ألّا نمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد”. من خلال هذا الفهم، فإن الفلسفة لن يكون تأصيلها إلا من خلال الأدب، نزوحًا إلى استخدامه في إيصال المحتوى بشكل يُمارس بين متعة التَّأمل ومعرفيَّة التَّفكير.
وقد اختلف كثير من المفكِّرين والفلاسفة في أهليَّة إذكاء الأدب والفلسفة بالمعنى القائم على إكسابه رؤيةً فنِّيةً بعيدًا عن التَّصوُّرات الفلسفية المعقَّدة، والأطروحات المرهقة ضمن المناهج الفلسفية، وهذا يدخلنا في مسار “أدبيَّة الفلسفة” بما يوفِّر فكرة فلسفيَّة بأسلوبٍ فنِّيٍّ.
والقول بـ “أدبية الفلسفة” يعني أن الفلسفة قائمةٌ على اجتذاب نوع من المتأمِّلين أو المفكِّرين لتقبُّل إرهاصاتها، ومن هذا نتبين أن الفلسفة ليست شعبيةً بالمعنى المتداول، لكنها نخبويٌّة يُراد لها، من خلال ممارسة الفلاسفة لها، أمران: تأطير تنظيرها وفق محدداتٍ قد لا تتَّفق مع المجتمع، إلا أن لها أصولًا واقعيَّةً وفق نهجٍ ومسارٍ تعبيريَّين عن الفهم والتفاعل مع أنماطٍ سلوكيَّةٍ، والآخر إكساب هذا التَّنظير بُعدًا فاهمًا ومفهومًا للعوام، وهذا الأمر يُحتِّم عرض الفكرة الأدبيَّة بشكلٍ مبسَّطٍ، كما في كتابات تولستوي مثلًا.
ولأن لكل علمٍ أو فكرٍ وظيفةٌ وجوديَّةٌ، فإن تمازج الأدب بالفلسفة والعكس؛ مكوُّن طليعيٌّ أشبه بإنتاج ألوانٍ مركَّبةٍ للوحةٍ فنيَّةٍ مدهشةٍ، وهذا ما نسمِّيه “الإبداع المُركَّب أو التَّركيبي”، وفي هذا التَّفكُّر يَستجدُّ سؤالٌ كبيرٌ: أيُّهما الإبداع البنيويُّ، وأيُّهما الإبداع الوظيفيُّ؟ لمن السَّبق، للأدب أم الفلسفة؟
وللإجابة على هذا السؤال المعقَّد، لا بدَّ من العودة إلى أصل الحياة، أكان هناك أدب أو فلسفة؟ وكيف نبت كلٌّ منهما في التفكير الإنسانيِّ؟
يمكن ألَّا يُطرق السؤال بهذا الشَّكل؛ فالأدب مبنيٌّ على التَّخيل، حتى وإن كانت أحداث عرضه وحوادثه واقعيَّةً إلا أن طريقة سكبها تكون تخييلة وخياليَّة في أحيانٍ كثيرةٍ. والفلسفة مبنيٌّ جوهرها على التَّأمل والإقناع، فهل كانت الفلسفة أسبق في تأمل الحياة أم كان هذا التَّأمل الخياليِّ هو أسُّ الأدب بطريقةٍ فطريةٍ؟
القاسم المشترك في طاقة الأدب وطاقة الفلسفة هو “المُتخيَّل”، وكلا المصطلحين – الأدب والفلسفة – قابلان للتَّحولات الفكريَّة. فمن وجهة نظري، الفلسفة ليست علمًا، الفلسفة معرفةٌ إنسانيَّةٌ تختلف باختلاف المكان والزَّمان. هي ليست علمًا قائمًا على قانونٍ ثابتٍ كالفيزياء والكيمياء مثلًا، بل هي آراء تكتسب المصداقيَّة في حلِّ معضلةٍ ما، في مكانٍ ما، وفي زمنٍ ما، لكنها ليست قابلةً للتَّطبيق في أيِّ زمانٍ أو مكانٍ، والأدب كذلك، فلأن مناهجه مناهجٌ تفكيريَّةٌ، فإن التَّفكير يختلف من زمنٍ لآخرٍ، ومن مكانٍ تختلف فيه أنماط الحياة وما يكون من ممارساتٍ فكريَّةٍ حياتيَّةٍ. ولعل هذا المنحى يَصعب من خلاله إعلان الأسبقيَّة، ألا أنه يمكن الاتفاق على أن كليهما فن.
وهذا الاتفاق جعل المتأمِّل في بحبوحةٍ، فالفنُّ استثمارٌ لقدرة التَّعبير الإنسانيِّ، ويختلف هذا الاستثمار من شخصٍ لشخصٍ آخر، فقد يكون لأحدهم تأمُّلٌ باذخٌ إلا أنه لم يعط القدرة على التَّعبير بشكل حِرفيٍّ، مما يفقده صقل تأمُّله بالشكل الحقيقيِّ الواجب لعرض فكره.
ولعلنا من خلال تعرّضنا لبدء خليقة الأدب والفلسفة؛ ندرك تعقيد المشهد بينهما، وفي هذا الإطار يقول الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو: “كان الحكيم فيما مضى فيلسوفًا وشاعرًا وموسيقيًّا. لقد انحطَّت هذه المواهب بانفصالها بعضها عن بعض، دائرة الفلسفة ضاقت، والشعر افتقد الأفكار، كما افتقدت الأناشيد القوة والعزم، والحكمة التي حُرمت من هذه الأعضاء لم تعد تُسمِع الشعوب بالسِّحر ذاته”.
ومن خلال قول ديدرو يمكن اختصار القول بأن كل علم أو تطبيق ينبغي أن يكون أنيقًا في عرضه وهو ما يوافق عمل الفن.
بيد أن هناك رأيًا آخر ووجهة نظرٍ أخرى؛ كقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “لا توجد علوم جميلة، بل هناك فقط فنون جميلة… إن علمًا يصبو إلى أن يكون جميلًا هو لغوٌ، لأننا إذا سألناه، باعتباره علمًا عن مبادئ وبراهين، فلن نحصل إلا على كلام جميل”، وهو بهذا يعتبر الفن له حدٌّ معين، إن تجاوزه تحوَّل إلى عبء.
لكنني من خلال هذين الرأيين، أرى أن الإبداع ليس قولًا تنظيريًّا، فالمبدع الحقيقيُّ يُحرّك قدراته لسكب الفنِّ في جوهر العلم أو التَّطبيق المعرفيِّ، كالمعلِّم الذي يشرح قانونًا فيزيائيًّا بطريقة مشوِّقة للتَّلاميذ، مبتعدًا عن الطريقة التَّقليديَّة للشرح.
ولنأخذ الشِّعر كأنموذجٍ لاقتراب الفلسفة الأدبيَّة بنمطٍ معلومٍ، فالقصيدة عبارة عن كلماتٍ، فهي إذًا مؤطرةٌ ضمن قالبٍ فكريٍّ، لكن هذه القصيدة بمعناها الحقيقيِّ لا تولد إلَّا من خلال إكسابها عاطفةً إنسانيَّةً، تغلِّف الفكرة بجمالٍ مُلهمٍ للعقل، وبتطوير الكلمات المطعَّمة بالنَّسيج العاطفيِّ إلى تطاولٍ فلسفيٍّ يقيس حساسيَّة المتلقِّي، وبهذا ينتج التَّفاعل المدهش من تزاوج الأدب بالفلسفة وإظهاره بثوبٍ فنيٍّ أو لوحةٍ فنيَّةٍ.
إنني أشبِّه هذا العلاقة بالكتابة في دفترٍ بقلمين أحدهما لونه أحمر والآخر أزرق، فيُرى أناقة في الشَّكل وفي الجوهر الكيانيِّ ما بين معنى اللون الأحمر ومعنى اللون الأزرق، بفعل التَّأمل الفكري، لتوائم الكلمات بين الانتباه والتَّأثير.
ليس سهلًا أن ترى تموُّج البحر ولا تحسَّ بالتقاطاتٍ أدبيَّةٍ أو فلسفيَّةٍ، وسيختلف هذا الإحساس عند ارتطام الأمواج بالصُّخور، سيكون مختلفًا حتمًا عن وصولها المعتاد إلى الشَّاطئ!
وعلى هذا الفهم والشعور يمكن أن نصوِّر المشهد بشكلٍ واضحٍ بدون فواصلٍ، أو نصوِّر المشهد نفسه في قصةٍ متسلسلةٍ مثلًا! وهذا يأخذنا إلى الفرق بين زوايا التَّعبير، فالتَّعبير الفكريُّ يختلف كليَّةً عن التَّعبير العاطفيِّ.
إن سكب الأدب والفلسفة معًا في قالبٍ واحدٍ، ينتج عنه ما أسمِّيه المتعة المعرفيَّة أو معرفيَّة المتعة. وإنني أجزم أن لا فهم للفلسفة إلا بالأدب، ولا فهم للأدب إلَّا بالفلسفة، ولا يُفهم تمازجهما إلا… بالفن.