–
دمشق -“النهار”
تغير الأداء السوري مع وصول المعارك إلى مشارف مدينة حماة. برزت التعزيزات العسكرية، وتوالت بيانات قيادة الجيش حول ما يدور في المنطقة التي تفقدها رئيس هيئة الأركان السورية وهو ما لم يفعله على جبهة حلب، ولم تتوقف الاشتباكات منذ يوم الأحد. وبعد ما تمكن الجيش من استعادة بعض المناطق بعد ساعات فقط من سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) عليها، سرعان ما دخل الريف الحموي بقراه وبلداته المحاذية لمدينتي محردة والسقيلبية، في دوّامة من الكرّ والفرّ، ومحاولات يومية من هيئة تحرير الشام للوصول الى مدينة حماة في ظل مقاومة شرسة من الجيش السوري.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذه الاستماتة من قبل المسلحين ومن قبل قوات الجيش السوري في القتال على ريف حماة، بينما سقطت مدينة حلب بأهميتها الاستراتيجية خلال ساعات قليلة ومن دون اشتباكات تذكر؟.
من جانب الجيش، تؤكد معلومات “النهار” أن الأمر اختلف في حماة نسبياً لعدة أسباب أهمها أن مدينتي محردة والسقيلبية كانت الحد الأخير الذي وصل إليه ما كان يسمى الجيش الحر عام 2015. وقد حاول فصيل “جند الأقصى” إطلاق معركة للتقدم أكثر لكن سائر الفصائل الأخرى وقفت ضده لأنه في ذلك الحين كانت هناك خطوط حمراء دولية تمنع الجيش الحر من التقدم نحو المناطق المحسوبة على الأقليات. ويبدو أن ثمة خشية حقيقية حالياً من أن تكون هذه الخطوط الحمر لم تعد موجودة أو أن هيئة تحرير الشام لأسباب خاصة بها لا تعترف بها.
والسبب الثاني يرجع إلى عودة الرئيس السوري بشار الأسد من زيارة غير معلن عنها إلى موسكو حيث أثار غيابه تساؤلات كثيرة في الشارع السوري، ولا شك في أن صداها تردد بين صفوف الجيش وضباطه. وفور عودته اتخذت إجراءات جديدة سواء على صعيد إرسال التعزيزات العسكرية أو على صعيد التغطية الإعلامية التي كانت غائبة تماماً عما جرى في حلب.
والسبب الثالث هو أن معظم منتسبي الفرقة 25 التي كان يقودها اللواء سهيل الحسن قبل أن يعين قائداً للقوات الخاصة ويحل مكانه اللواء صالح العبدالله، يتحدرون من مدنية حماة وأريافها، وهؤلاء شكلوا منذ عام 2013 الرافعة العسكرية للجيش وتمكنوا من تحقيق انتصارات كبيرة حتى قبل تدخل إيران وحزب الله في الحرب السورية.
أما من جانب هيئة تحرير الشام، فإن الأمر محيّر كثيراً لعدم وجود تفسير يبرر استماتتها في التقدم نحو مناطق من طوائف مختلفة غالبيتها من الأقليات “مسيحيين وإسماعيليين وعلويين” وذلك بعد أن كانت على رأس الفصائل التي أجهضت المعركة التي خطط “جند الأقصى” سابقاً للقيام بها في هذه المناطق، بل قامت الهيئة بعد ذلك بأشهر قليلة بالقتال مع جند الأقصى وإنهائه.
والخشية أن تكون هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمد الجولاني وهما مصنفان على قوائم الاهاب في الأمم المتحدة، التنظيم والشخص، وقعت في فخ “فائض القوة” ولا سيما بعد استيلائها على دبابات ومدفعية وصواريخ وذخائر كثيرة اغتنمتها من مستودعات الجيش في المناطق التي سيطرت عليها، وأصبح لديها اعتقاد أنه لا شيء يمكن أن يقف في وجهها وذلك بعدما كان الهدف الأساسي من معركة “ردع العدوان” إبعاد قوات الجيش السوري عن خطوط التماس لا أكثر، وإذ بها وجدت المناطق تتهاوى أمامها وصولاً إلى حلب ثم إلى ريف حماة وهو ما لم تكن تتوقعه ولا تحلم به.
وتعتقد مصادر مقربة من هيئة تحرير الشام أن النموذج الذي قدمته الهيئة في قرى جبل سماق ومع مسيحيي إدلب على مدار السنتين الماضيتين، وكذلك نموذج التعامل مع الأهالي على اختلاف طوائفهم في حلب، وجه رسالة إلى المجتمع الدولي بأن الهيئة تغيرت ولا تتعامل بناء على عصبيات طائفية. وأكدت المصادر التي تحدثت إلى “النهار” أن قيادة هيئة تحرير الشام إلى جانب بياناتها المعلنة ترسل رسائل عبر قنوات معينة إلى الروس والإيرانيين لطمأنتهم بخصوص أمر واحد وهو طريقة تعاملها مع الأقليات.
ولكن يبدو أن الأمر أبعد من ذلك. وفي هذا السياق تتخوف أوساط سياسية سورية من أن يكون الجولاني في حالة سباق مع الوقت من أجل فرض وقائع على الأرض قبل أن تنجح الاتصالات الدبلوماسية التي تجريها دمشق وبعض الدول العربية بين بعضها بعض في بلورة موقف نهائي من مجرى التطورات في سوريا.
وثمة اعتقاد بأن الجولاني والحلقة الضيقة حوله ليس بمقدورهم التحرر من تجربة تنظيم داعش الذي اكتسح مساحات واسعة من سوريا والعراق قبل أن يجري القضاء عليه بتوافق دولي وإقليمي، وأنه بدا في نهاية التجربة أن بعض الدول استخدمت التنظيم، بعلمه أو من دون علمه، كذريعة لتمرير أجنداتها الخاصة وكان هو الخاسر الأكبر. وعليه فإن الجولاني الذي فوجئ بالمساحات التي سيطر عليها يسعى إلى التقدم من دون توقف لأنه غير متأكد من الموقف الدولي والإقليمي وانعكاسه على الواقع السوري الذي رسمه بيديه. وربما أصبح يميل إلى الاعتقاد بأن السيطرة على حماة مدينة وريفاً من شأنه إعطاءه أوراق قوة يفاوض من خلالها المجتمع الدولي.
وينبغي عدم إغفال نقطة جوهرية وهي أن الجولاني لا يثق بكثير من الفصائل التي تشاركه القتال في “معركة ردع العدوان” وهو يعلم أنه عاجلاً أو آجلاً سيعيد التاريخ نفسه، ويضطر للدخول في صراعات مع بعض هذه الفصائل التي ستحاول منافسته على كعكة السلطة والحكم. كما أن الجولاني وعلى خلاف المتداول إعلامياً، لا تربطه علاقة قوية مع تركيا. صحيح لم تخل علاقتهما من التخادم المتبادل، ولكن الصحيح أيضاً أن بينهما اختلافات جوهرية. وتركيا عملياً لم تخرج عن الإجماع الدولي في تصنيف هيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب لديها. كما أنها قررت معاقبة أكثر من قيادي فيها بتهمة تمويل تنظيم إرهابي. لذلك لا يسع الجولاني أن يضع كل بيضه في السلة التركية مهما كانت المغريات، وهو عارض في السابق توجه تركيا للتطبيع مع دمشق واعتبره طعنة في ظهر “الثورة السورية”.
وبطبيعة الحال فإن الجولاني يتوجس خيفة عندما يسمع الائتلاف السوري المعارض المدعوم من قبل أنقرة يخرج ويتحدث ويوجه الرسائل باسم معركة “درع العدوان” وهو يقرأ هذه الخطوة بأنها جاءت بإيعاز من تركيا التي لا تريد أن يرى العالم أن من سيطر على حلب وريف حماة هو تنظيم إرهابي، بل تريده أن يعتقد أن المعارضة السلمية والثورة الشعبية هي من فعلت ذلك.