هكذا في ثلاث كلمات (she is dead) يأتيك نعي قريب إلى قلبك، بساطة الجملة بدت مفرطةً في القسوة، وإن تلتها كلمات تعزية. كانت هذه أول تجربة لي مع فقد عزيز فجأة.
ما نحن إلا ما نذكر، ولا أظنني سأنسى أبداً متى و أين وكيف أتاني الخبر. تحفر الفجيعة أثرها في عقولنا، فتبقي من غاب حاضراً. يوم الجمعة 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، كنت وصديق جالسين للعشاء بمطعمٍ في حي المعادي القاهري.
جلست إلى يساري حينها امرأة تحادث رفيقها بإنكليزية ركيكة، بينما تصدح موسيقى صاخبة، طلبت من النادل خفضها. خلف صديقي الجالس مقابلي، رجل أظنه أجنبي حليق، كان شكله غريباً وهو يحادث رفيقته الأجنبية أيضاً.
وصلتني رسالة عبر الهاتف من صديقة في الولايات المتحدة، تطلب عادةً مساعدة في الترجمة، لذلك لم أعر الأمر أهمية. لكن حين تكررت الرسائل، خفت أن يكون الأمر عاجلاً. “سامر! هل تقرأ هذه الرسائل؟ هل سمعت عن [صديقتنا] شيريه؟ اتصل بي”.
شيريه طالقاني صديقة مقربة مني لثلاثة عقود، وأستاذة مشاركة في الجامعة نفسها التي تعمل بها صاحبة هذه الرسائل. فشلت في التواصل معها منذ عام تقريباً على رغم محاولاتي المتكررة. أقلقتني الرسائل فاتصلت: “ماذا جرى لشيريه”؟، الإجابة: “لقد ماتت”.
هكذا في ثلاث كلمات (she is dead) يأتيك نعي قريب إلى قلبك، بساطة الجملة بدت مفرطةً في القسوة، وإن تلتها كلمات تعزية. كانت هذه أول تجربة لي مع فقد عزيز فجأة.
مطلع الشهر نفسه، أيلول الماضي، خسرت صديقاً عزيزاً بعد صراع طويل مع السرطان، تشبثنا بالأمل حتى النهاية، لكن كنا نعرف أي وحش يحارب رفيقنا، فيما لا أنا،ولا أي من المقربين منها كما عرفت لاحقاً، كان على علمٍ بمشكلة صحية تهدّد حياة الأكاديمية الواعدة التي لم تتم عامها الواحد والخمسين.
كان هذا قبل أن تنفتح أبواب جهنم على غزة بخمسة عشر يوماً، إذ شهدنا، وما زلنا نشهد مأساةً يومية في بثٍّ حي مستمر. ترى إن فجعني موت مقرب لي على بعد آلاف الأميال لم أره منذ سنين، فكيف بمن عاينوا موت أحبائهم، بل وباؤوا بعذاب الحياة بعدهم؟ إن كنت أنا فجأة رهين ذكريات ظننت أنني نسيتها، تراكمت عبر عقود، فكيف سيحيا من، بين لحظة وأخرى، فقد أهل بيته؟ بدت غزة درساً شديد القسوة في طبيعة الألم ووحشيّته.
الألم كان محور دراسة شيريه طالقاني الأكاديمية، ولهذا تاريخه وتاريخها المرتبطان بركننا التعيس من العالم. كانت إيرانية الأصل من جهة الأب كما ينم الاسم، وكانت وقت وفاتها المفاجئة أستاذة مشاركة في جامعة مدينة نيويورك (City University of New York، اختصاراً CUNY).
أدارت شيريه برنامج الشرق الأوسط وتخصّصت في الأدب العربي، أدب السجن تحديداً، الذي كانت رائدةً فيه كمجال دراسة. تعارفنا في الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 1994، لكن لم تتوطد صداقتنا إلا حين عادت الى القاهرة بعد ذلك بستة أعوام لدراسة اللغة العربية، وكانت آنذاك قد بدأت دراسة الدكتوراه.
بعدها ببضعة أعوام، تقابلنا في بيروت، حيث وُجدت للبحث الميداني المرتبط برسالة الدكتوراه خاصتي، وهي كانت في دمشق تتبحر في دراسة العربية أكثر. أتت بيروت زائرة ومعها ضيفة، وهي إحدى معلماتها. سيدة سورية نسيت اسمها، لكن أذكر اعتقادها بنظريات مؤامرة بالغة السخف (حتى بالمعايير البائسة لهذه الترهات). بعد ذلك بسنوات، أخبرتني شيريه أن الطلاب ساد بينهم اعتقاد بأن السيدة هذه كانت ترسل تقارير دورية عنهم لأجهزة الأمن البعثية (شخصياً أعتقد أنه في بلد كسوريا البعث، هذا أمر بديهي!). وإلى جانب دراسة العربية، كانت شيريه تجمع مادةً عن موضوعها البحثي وتحادث من استطاعت مع مراعاة للحساسية التي قد يثيرها الموضوع.
البحث كلّف صاحبته الكثير، لا وقتاً وجهداً، فهذا مفروغٌ منه، لكن تعاطفاً وألماً، فالتماهي هنا كان كاملاً ومؤلماً. أكثر من مرة روت لي باكيةً أحاديثها مع ناجين من سجون الأسد (وكان هذا قبل أن تنزلق سوريا إلى حربٍ أهلية)، وقصص عذاباتهم، وتروي في كتابها المنشور، كيف صنع المساجين حبراً من صدأ حديد القضبان وخلطوه، مجازاً أو حرفياً، بدمهم. رأت كيف دارى هدوء بعض من قابلتهم وتماسكهم الندوب الغائرة التي خلفتها تجربة السجن، وهو ما ظهر في كتاباتهم التي درستها .
ربطت شيريه كتابها (المبني على رسالة الدكتوراه) “قراءات في أدب السجن السوري” (نشرته دار نشر جامعة سيراكيوز الأميركية عام 2021، وهو على حد علمي قيد النشر بالعربية) بما جرى في سوريا بعد 2011، و إن كان أساس بحثها سابقاً على ذلك. في ما تلى 2013، تفادت عادة النقاش حول ما يحدث، كأكاديميين آخرين مهتمين بالشأن السوري أعرفهم، آلمها بشدة ما يجري، ومن جملة الحزن أن يتلو رحيلها هجوم شرس من نظام الأسد وحلفائه الروس على إدلب، فأياً ما كان الشر المزعوم في إدلب، نهج آل الأسد و من معهم كفيل بارتكاب، بل وإعادة إنتاج شرور أكبر.
حين تقابلنا في بيروت استغَربَت، بعد أشهرٍ في دمشق، غياب صورة الأسد الابن والأب عن كل حائط وركن وميدان (ربما فاتتها الصورة الكبيرة المهداة من رئيس البرلمان اللبناني التي كانت على واجهة المدينة البحرية وكتب تحتها: “عاشت سوريا وعشت أسدها الحافظ يا بشار”).
ضحكت من “السذاجة الأمنية” التي اختبرتها عند التنقل داخل دمشق بين السكن المخصص لطلاب العربية إلى مكان الدراسة، كانت الحافلة المخصصة للطلاب تأخذ طريقاً مختلفاً كل مرة، فتطول الرحلة وتقصر، حتى لا يُعرف الطريق. كما نعرف جميعاً في منطقتنا: الأصل أن الغباء والقمع صنوان، عدا ذلك، استثناء. لكن الخليط هذا يدعو الى البكاء أكثر مما يدعو الى الضحك.
أول حديث لي أذكره مع شيريه، اتهمتني فيه بالتشاؤم الشديد، لم تكن أول ولا آخر من قال لي ذلك، لكن يبدو الآن أنني لم أكن متشائماً بما فيه الكفاية، لا في رؤيتي لطبيعة البشر ولا مآلات منطقتنا كالحة السواد. “شيريه” كان اسمها كما تكتبه وتنطقه، لكنه في الأصل كان “شريعة” كما سماها والدها المهندس الإيراني، سليل العائلة نفسها التي ينتسب الى أحد فروعها آية الله السيد محمود طالقاني (ت. 1979)، أحد رموز الجمهورية الإسلامية في إيران، والذي وصفه الخميني، حين نعاه، بأنه كان كالصحابي المعروف أبي ذر الغفاري.
علاقة أسرة صديقتي الراحلة بإيران انقطعت بعد الثورة، اللهم إلا من زيارات الأهل الآتين من هناك، ذكرت لي مراراً عداء أبيها للجمهورية الإسلامية (كان الرجل مغرماً بنظريات المؤامرة ، وكانت تسميه تندراً: أبو دسيسة). لماذا سمّى الرجل ابنته “شريعة”؟ لا علم لي، لكن الطريف أنها كانت صاحبة اسمين: رفقة شريعة (Rebecca Shareah) ، ورفقة اسم زوجة اسحق وأم يعقوب. كنت أمازحها، هذا كأن يكون اسم أحدهم كوهين أو بطرس محمد!. لم نتناقش أبداً في معتقدٍ أو دين، لكن سأقتبس منها دوماً ما رددته كثيراً: “إن كان إيمانك يأمرك بقتل غيرك، فرجاء ابدأ بنفسك”.
أهدت كتابها للمعتقلين والمختفين في سوريا، إيران والولايات المتحدة. أذكر هذا حين أرى صور دمار غزة، لا لأن إسرائيل هي من فعلت ذلك، لكن لأن هذا هو بالضبط ما ارتكبه بشار الأسد في سوريا في بيوت محكوميه بدعمٍ إيراني مفتوح. لم أكن في حاجة لأسأل شيريه عن رأيها في ذلك، ولا عن رأيها في سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، وهي، عدا تعاطفها مع الفلسطينيين، من جعل مفهوم حقوق الإنسان ركناً أساساً في بحثها الأدبي. يمكنني أن أخط الكثير عن شيريه طالقاني، صديقةً ومعلمةً وأماً لطلابها الذين أحبتهم وأحبوها ومثقفةً وأكاديمية واعدة خُطفت من بيننا باكراً .
الأشد ألماً أن من شاركتهم ذكرياتهم المريرة في سجون الأسد وحللت ما أنتجوه من توثيق ممزوج بمشاعرهم وكوابيسهم، لم يكسبوا معركتهم بعد، لا فقط في سوريا، بل وفي ردهات السياسة التي سمحت لبشار الأسد أن يتحدث عن حقوق أهل غزة والدفاع عنهم، أمضحك ذلك أم مبكٍ ممن حاصر وجوَّع أهل مخيم اليرموك بينما يقذف البراميل المتفجرة على مدن بلاده وقراه؟ يتساوى الشر أياً كان مصدره، وتتماثل حقوق البشر أياً كان انتماؤهم، مثلما تغيب هذه القاعدة الأساس في فلسطين تغيب في بلادنا، ألا يجب أن يؤرقنا هذا كما أرّقها؟
يغص بيتي بهدايا وتذكارات من شيريه، و الآن وقد غابت تكاثر علي فجأة ما يذكرني بها. عرفت الآن، أفضل من أي وقت مضى، ما معنى أن تفقد قريباً منك فجأة، فكأن فقدها فتح باباً لفهم بعض ما نراه بثاً حياً للموت والخسارة من غزة. أنظر إلى واحدة من هداياها منقوش عليها بخط رائع “تفاءلوا بالخير تجدوه”، أحاول يا عزيزي، لكن يعجزني الواقع، والآن لم يعد لنا أن نسخر سوياً من تشاؤمي، إن بقينا قادرين على السخرية من سواد حالنا.