أدت الحرب الدائرة في غزة إلى نتائج كارثية على المستوى الإنساني، عجزت خلالها جميع المؤسسات والهيئات الأممية، ليس عن وقف مؤقت للحرب فقط، وإنما عن ممارسة دورها التقليدي في الحفاظ على دماء وأرواح أكثر من عشرة آلاف مدني فلسطيني، جلهم من الأطفال والنساء. رغم قناعة شعوب المنطقة بحتمية التأييد الأمريكي لإسرائيل في صراعها التاريخي مع الفلسطينيين، وفق منطق المصلحة، إلا أنهم، ولأول مرة منذ عقود، يجدون أنفسهم في مواجهة حالة بحث معقدة، عن الهوية الحضارية المعهودة للولايات المتحدة، في التعامل مع القوانين الدولية والقضايا الحقوقية والإنسانية، وإذا بهم، أمام واقع مفاجئ ومعكوس، تقوم خلاله إدارة الرئيس بايدن، باسترضاء إسرائيل، عبر منح رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر، لتحقيق طموحاته وأهدافه الانتقامية في قطاع غزة، بلا قيد أو شرط.
بدا واضحاً منذ بدء الأزمة، مدى فقدان واشنطن قدرتها على ضبط مؤشرات التوازن تجاه خلفيات الحدث وتطوراته؛ فسهولة تهافت المسؤولين الأمريكيين، على تل أبيب، وسرعة البت في مطالبها المادية والمعنوية، بالتزامن مع تحريك آليات عسكرية إلى المنطقة، في مقابل تجاهل حق الشعب الفلسطينيي في الدفاع عن أرضه وتقرير مصيره، في ظل قرار فرض على قادة حماس، أظهر للحلفاء والغرماء، تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حيادها الموضوعي، كقوة عظمى مسؤولة عن حسم النزاعات، وورطها كطرف أساسي وشريك في سفك دماء الأبرياء من المدنيين.
زاد من وتيرة السخط الشعبي تجاه ردود الفعل الأمريكية، عدم تحري واشنطن، طبيعة النهج المقرر اتباعه من قبل القيادة الإسرائيلية في الرد العسكري على عملية السابع من أكتوبر، و الوقوف على مدى مناسبته أو عدم مناسبته لأمن الفلسطينيين والأسرى، قبل اتخاذ قرار الدعم الحربي واللوجيسيتي، إلى جانب اعتماد الإدارة الأمريكية مقاربات غير مقبولة، إقليمياً ودولياً، لتعليل الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وذلك من قبيل لعبارة إلى جانب حول تفاصيل العملية، وبدلاً من أن تسعى الولايات المتحدة إلى تطويق الأزمة عبر قرارات أممية ملزمة بوقف الحرب، إذا تعرقل أي قرار يفضي إلى ذلك، وهو ما وظفته آلة البطش الإسرائيلية، أسوأ توظيف، وأصبح معه البيت الأبيض، معزولاً عن الحقيقة وعن الصورة الكاملة.
من تجليات هذه الوضعية، أنه بعد شهر من سفك الدم الفلسطيني، اكتشفت إدارة بايدن أنها وضعت شعوب وحكومات العالم أجمع، أمام معضلة أخلاقية غير مسبوقة في غزة، باتت بسببها قناعات الغالبية العظمى من هذه الشعوب، وفي مقدمتها ، تؤمن بعدم جدوى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، في حماية المستضعفين وقت الحروب والأزمات، بل وبعدم قابلية هذه القوانين ابتداءً، للتطبيق عملياً، طالما تسلطت عليها المصالح الخاصة بـــ، و بحليفته إسرائيل، وهي القناعات التي عززتها المآلات الكارثية المُشاهدة، من منع الماء والغذاء والدواء والوقود، بالتزامن مع القصف براً وبحراً وجواً.
من المؤسف حقاً، أن وجهات النظر الرسمية لكثير من المسؤولين الأمريكيين، لا تزال تؤكد انتصارهم لمحدودية الآثار المستقبلية المترتبة على الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل في هذه الحرب، وأنها لن تشكل خطورة على أمن البلاد، وهو ما يبدو معه أن الولايات المتحدة، لم تتعلم بعدُ من أخطائها السابقة في وغيرهما؛ لأن الحقيقة التي لا شك فيها، هي أن كل الأمريكيين، مهددون على المديين المتوسط والبعيد، بعزلة دولية على كل الأصعدة والمستويات، لا لشيء، سوى لأن سلوك حكومتهم الراهنة، أفقد البلاد حوارها الحضاري مع العالم، وساهم في صناعة ، يُتوقع لها أن تتحول بفعل الدماء البريئة المهدرة في المنطقة، إلى (إرهاب عابر للحدود)، وبخلاف ذلك، يمكن أن تشهد خريطة التحالفات الدولية والإقليمية، ، سينعم خلالها منافسو واشنطن بمكاسب تجارية واستراتيجية موجعة للمستقبل الأمريكي، ومن ثم، يجب أن تبادر واشنطن بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وأن تراجع سياساتها المبنية على منطق الاغترار بالقوة، قبل أن تجد نفسها ضحية قبل البعيد.
محسن حسن باحث أكاديمي وكاتب صحفي مصري، تركز أعماله على السياسات العامة الإقليمية والدولية، وقضايا النزاع والتنمية وجماعات الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، وهو باحث مشارك في مراكز بحثية عربية ودولية. اتبعه
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.