كثيرون اعتبروا الأم تريزا “أم الفقراء” و”هدية السماء” للمعوزين (غيتي)

تبدو قصتها كضرب من ضروب الأساطير القديمة، وقد ساعدت صورها الشهيرة في تأكيد أسطورتها، تلك التي ترسخت وسط فقراء الهند الذين يعدون بالملايين، ولا يجدون ما يمكنهم من مجابهة الفقر والمرض، ما دعا البعض لأن يطلق عليها اسم “بحر الرجاء في صحراء اليأس”.

عاشت تلك الراهبة المتواضعة في مدينة كلكوتا الهندية، رمز البؤس والتي تصارع الفقر والفاقة، وهناك بلورت خبرة حياتية كانت حديث الأجيال، وغالب الظن أنها ستظل كذلك لوقت طويل.

اعتبرها البعض “أم الفقراء”، و”هدية السماء” للمعوزين، لا سيما من ذوي الأسقام والآلام، وقد وضعت نصب عينيها الاعتناء بالأطفال المشردين والعجزة والجياع والعراة والعميان والمنبوذين، كل هؤلاء البشر الذين شعروا بأنهم غير مرغوب فيهم أو محرومون من العناية والمحبة، أولئك الذين ليس لهم أحد يذكرهم، أولئك الذين اعتبرهم المجتمع  عبئاً عليه يتحتم إهمالهم وتجنبهم، جميعهم وجدوا عند الأم تريزا القلب الحنون، والحضن الدافئ، والمودة الشافية.

عاشت الأم تريزا عقوداً طوالاً في الهند، وتركت من ورائها تجربة عميقة ومؤثرة، غير أنها كإنسانة تبدو هناك أصوات تتحدث أخيراً عن ثغرات في حياتها، والتساؤل: هل ينتقص هذا من الصورة الأسطورية التي انسحبت عليها طوال حياتها التي قاربت تسعة عقود، وتوجت في نهاية الأمر بإعلان قداستها، بحسب المفهوم ، من قبل  بابا روما، قبل بضعة أعوام؟

في هذه القراءة نحاول التوقف مع قصة الفتاة الألبانية، التي صارت رمزاً لمحبة الفقراء وإن رأى البعض أنها استغلتهم لأهداف دوغمائية موصولة بمذهبها وتوجهها الروحي.

آغنيس… في إسكوبية كانت البدايات

ولدت آغنيس غونكزا بوجاكسو، في 26 أغسطس (آب) من عام 1910 في بلدة إسكوبية، عاصمة جمهورية قونيا المعاصرة وقد كانت تابعة للدولة العثمانية في ذلك الوقت، لعائلة ألبانية كاثوليكية متدينة مهاجرة.

لم يطل المقام بالأسرة في قونيا، فقد هاجرت لاحقاً إلى يوغسلافيا حيث عمل أفراد أسرتها في زراعة الأرض.

اهتمت أسرتها بأن تتلقى ابنتهم مستوى تعليمياً متميزاً، ولهذا أدخلوا ابنتهم مدرسة خاصة بالآباء

(اليسوعيين)، أولئك الذين يعتبرون أصحاب الفضل في العملية التعليمية في عموم المدارس الكاثوليكية حول العالم برمته.

جرت المقادير بالصدمة الأولى في حياة آغنيس في سن العاشرة من عمرها، وذلك حين توفي والدها على حين غرة، الأمر الذي يقول كتاب سيرتها، دفعها للتعمق أكثر وأكثر في الإيمان.

استمرت في دراستها في تلك المدرسة حتى عام 1928، أي أنها كانت في سن الثامنة عشرة حين شعرت بأن هناك “نداءً خفياً” لتكريس حياتها كلها لله، ولهذا أرسلت إلى دبلن في إيرلندا للدراسة والاستعداد لمرحلة التكريس الرهباني، وخلال فترة الدراسة، قضت عاماً في منطقة البنجاب، شرق باكستان حالياً ومن قبل كانت داخل حدود الهند قبل التقسيم، عملت فيها في “دير لوريتو”.

كان عام 1931، عاماً فاصلاً في حياة آغنيس التي سيتحول أسمها لاحقاً إلى تريزا، تميناً في غالب الأمر باسم تلك الراهبة الفرنسية القديسة التي توفيت في سن الرابعة والعشرين في مدينة ليزيو بفرنسا، والمعروفة باسم “تريزا الطفل يسوع”.

في ذلك العام أضحت “تريزا” راهبة آخذة على نفسها الاهتمام بالعناية بالأطفال المهمشين.

في ذلك الوقت شعرت وكأن الزي الرسمي للرهبنة قد يكون عائقاً في طريق خدمتها، إذ سيعتبرها البعض غريبة عنهم، مما يضعف فاعلية مهمتها، ولهذا عمدت إلى ارتداء الساري الهندي القطني بلونه الأبيض والخط الأزرق الذي عرفت به لاحقاً وطوال حياتها.

على أن رحلة تريزا سوف تتخذ مساراً مثيراً، من الاهتمام بالتعليم، إلى العناية بأجساد المرضى، لا سيما المعوزين والمنكسرين من بين الهنود في ذلك الوقت… كيف جرت الأحداث بذلك؟

من التعليم إلى خدمة الفقراء

حين حلت الفتاة الألبانية آغنيس في الهند، لتمضي ما يعرف بسنوات التكوين، كان في مقدمة ما درسته اللغة البنغالية، ومن بعد بدأت في التدريس في مدرسة قريبة من ديرها.

استمرت تريزا في العمل التعليمي لمدة عشرين سنة، حتى وصلت إلى منصب مديرة المدرسة، وعلى رغم أنها استمتعت بالتدريس في المدرسة، إلا أنها كانت تشعر بانزعاج متزايد من الفقر المحيط بها في كلكتا.

في العاشر من سبتمبر (أيلول) من عام 1946، شهدت تريزا ما وصفته لاحقاً بـ”الدعوة في النداء”، حينما كانت مسافرة بالقطار لعمل ما يعرف بـ”الرياضة السنوية”، أي مراجعة النفس مرة كل عام وقياس مدى التقدم الروحي أو التقهقر.

خلال هذه الرحلة تكشف لها بالروح، أن مهمتها لا بد وأن تتمحور حول مساعدة الفقراء والتعايش معهم.

كانت الجنسية الهندية التي اكتسبتها، قد ساعدتها على تجاوز الإجراءات الشكلية التي تعيق الأجانب عن عملهم، لا سيما الرجل الأبيض خليفة وحليف الإنجليز.

 قضت عدة أشهر في منطقة باتنا القريبة من ديرها ومدرستها تتلقى تدريباً طبياً أساسياً في مستشفى “العائلة المقدسة”، ولاحقاً كانت الانطلاقة الكبرى.

تجرأت تريزا التي تحولت من أخت عادية في رهبنتها إلى أم، أي درجة تناسب مرحلتها العمرية، على العمل في الأحياء الفقيرة.

لاحقاً أسست مدرسة في منطقة موتيجيل في مدينة كلكتا الهندية الشهيرة، قبل أن تشرع في التوجه للعمل مع الفقراء والجوعى.

بدءاً من عام 1949، بدا واضحاً أن نموذج الأم تريزا كان قد بدأ يترك تأثيراً واضحاً في نفوس الكثيرين، ولهذا انضمت إليها مجموعة من الشابات الهنديات لمساعدتها، حيث كانت هذه هي الخطوة الأولى في وضع أسس جمعية رهبانية جديدة، تساعد “أفقر الفقراء”.

 

يعن للقارئ أن يتساءل: هل كانت هذه تجربة مريحة وسهلة، طريقاً ممهداً مكسواً بالحرير للأم تريزا؟

يمكن القطع أول الأمر أن جهودها لفتت انتباه المسؤولين الهنود بسرعة، بمن فيهم رئيس وزراء الهند وقتها، والذين راعهم هذا الاهتمام الكبير الذي يصب في مصلحة الهند والهنود.

غير أن حالها ومآلها تحدثت عنه في مذكراتها الشخصية، حيث كتبت تقول كيف أن العام الأول لها في هذه المخاطرة، كان محفوفاً بالمصاعب، فلم يكن لديها دخل، واضطرت لاستجداء الطعام والإمدادات، كما عانت من “الشك والوحدة”، وإغراء العودة إلى الحياة المريحة في الدير.

بحسب نص مذكراتها تقول تريزا: “ربنا يريدني أن أكون راهبة حرة محاطة بفقر المسيح عينه الذي ولد ونشأ فقيراً جداً، لقد تعلمت درساً جيداً، لا بد من أن فقر الفقراء صعب جداً عليهم. أثناء بحثي عن مسكن، مشيت ومشيت، حتى آلمتني رجلاي، وذراعاي. فكرت كم عانوا من آلام أجسادهم وأرواحهم، من أجل البحث عن مسكن وطعام وصحة”.

وتمضي تقول: “إن الراحة في دير لوريتو، بدأت تغريني، ما عليك إلا أن تقوليها، وسيكون ذلك كله لك في ثانية… لقد ظل الإغراء بالعودة يناديني”،

لكنها تخلص في نهاية هذه التجربة إلى القول بلغة صوفية عالية وغالية: “من حرية الاختيار، إلهي، ومن منطلق حبي لك، أرغب في البقاء، وأن أعمل وفق مشيئتك المقدسة. لم أسمح بنزول دمعة واحدة”.

معبد آلهة الموت يضحى مكاناً للحياة

تبدو تجربة الأم تريزا في الهند، شيقة إلى درجة بعيدة جداً، ذلك أن تجربتها البسيطة والمتواضعة، التي فيها احتاجت إلى من يمد لها ومن معها من فقراء ومنكسري كالكتا يد العون، تحولت تالياً إلى مسار متقدم صاحبته سمعة رائدة في إطارها الإقليمي وعلى المستوى العالمي دفعة واحدة.

حدثت طفرة كبيرة في سياق عمل الأم تريزا، مؤيدة من السلطات المختصة في المدينة الهندية التي تعاني من نقص واضح في الخدمات المقدمة للفقراء والمهمشين.

استطاعت تريزا أن تحول جزءاً من معبد كالي، إلهة الموت والدمار عند الهندوس، إلى منزل لرعاية المصابين بأمراض غير قابلة للشفاء والعناية بهم في أيامهم الأخيرة لكي يموتوا بكرامة، ويشعروا بالعطف والقبول، بدل البغض والرفض من مجتمعهم.

كانت هذه هي البداية أول الأمر، وتالياً انتشرت المؤسسات والجمعيات التي أنشأتها الأم تريزا، ومنها على سبيل المثال “القلب النقي” وهو منزل للمرضى المصابين بأمراض مزمنة، و”مدينة السلام” وهي مجموعة منازل صغيرة لإيواء المنبوذين من المصابين بأمراض معدية.

لم تتوقف أفكار الأم تريزا عند حدود المرض والمرضى، بل تجاوزتها إلى عالم الأطفال الأيتام، هؤلاء الذين كانوا يمثلون وجعاً مزمناً للهند في ذلك الوقت.

كانت خدمة الأم تريزا جاذبة للمزيد من العناصر النسائية، الأوروبية والهندية على حد سواء، هذه الزيادة في منسوب المنتسبات إلى رهبنة “الإرسالية الخيرية”، راحت الأم تريزا تنشئ مئات البيوت المماثلة في طول الهند وعرضها بهدف رعاية الفقراء والتخفيف من آلامهم، وتضميد جراحاتهم.

وربما كان الأهم في قلب وعقل هذه الراهبة الألبانية الأصل، هو أن يشعر هؤلاء بأنهم محبوبون ومحترمون كبشر، الأمر الذي وجد اهتماماً كبيراً من السلطات المعنية، التي رأت فيها نفساً معطية من غير أن تنتظر النتيجة.

إلى هنا لم يقابلنا أي موقف رسمي من حاضرة الفاتيكان تجاه أعمال الأم تريزا، غير أنه لن يطول الانتظار، ففي عام 1965 حدثت نقطة تحول جوهرية، ذاك أن الحبر الأعظم، البابا يوحنا بولس السادس وقتها، قد منح الأم تريزا الإذن بالتوسع والعمل في جميع أنحاء العالم، لا الهند وحسب، وهكذا ازداد عدد المنتسبات إليها، وشملت فروعها معظم دول العالم الفقيرة أو التي تشهد حروباً ونزاعات، لا سيما في إثيوبيا المهددة بالجوع وقتها، وجنوب أفريقيا، حيث كان أهالي الدولة الأصليين يلقون عنصرية من حكومة بريتوريا، عطفاً على ألبانيا مسقط رأسها، تلك الدولة التي سحقتها ومحقتها الشيوعية.

بدا واضحاً أن هذه الفتاة الفقيرة طوعاً، قد وضعت علامة على مسيرة إنسانية طويلة وممتدة، لخدمة المعذبين في الأرض، وهذا ما تؤكده عملية توسع إرساليتها الخيرية، تلك التي تضم الآن قرابة 570 مركزاً لخدمة المرضى والفقراء حول العالم، تقوم على خدمتها نحو 4690 راهبة، إلى جانب أخوية تتألف من 300 عضو، وما يزيد على مئة ألف متطوع يعملون كلهم في مراكز تتولى العناية بمرضى الإيدز والبرص وغيرها من أمراض معدية، إضافة إلى إطعام مئات الآلاف من الجائعين والعاجزين، ومراكز للرعاية الاجتماعية والأيتام.

على أن هذه المسيرة الخدمية الفائقة الوصف، قد شابتها مراحل ضعف روحي للأم تريزا نفسها، وصلت بها في بعض الأوقات مرحلة الشك وعدم اليقين.

أزمة “الليالي المظلمة” تخيم عليها

مثير جداً أن نجد في السيرة الذاتية لهذه الأم التي نالت حظوة عالية في عيون وقلوب الملايين حول العالم، لحظات ألم وشك قاتلة، فقد شعرت على حد تعبيرها أن الله تخلى عنها إلى درجة أنها وجدت ذاتها في كثير من الأحيان، عاجزة عن الصلاة، بل إنها على رغم كل ما أحاط بها من أعمال تقوية، وخدمة للفقراء، شعرت أنها كانت “تعاني من عذابات جهنم على الأرض”.

ما هي أبعاد تلك القصة، وهل هذا الأمر قاصر فقط على هذه الراهبة فحسب أم أنها حالة عانى منها الكثير من المتصوفين، وعرفت في تاريخ علوم اللاهوت المسيحي باسم “الليالي المظلمة” أو “ساعات اليبوسة الروحية؟”.

لم يطالع العالم ما مرت به الأم تريزا من خبرة روحية مؤلمة، إلا بعد أن قرأ الجميع مذكراتها أو بمعنى أدق مراسلاتها مع مرشديها الروحيين والأسقف المسؤول عنها، والتي صدرت عام 2007، وحملت عنوان Come Be My Light “تعال كن نوري”.

عانت الأم تريزا من تلك الحالة التي خبرتها سميتها من قبل، القديسة الفرنسية “تريزا الطفل يسوع”، وهنا يقول الأب “كولوديجوك” الذي نشر رسائلها والذي كلف بالدفاع عن قضية قداستها، بأن الأم تريزا لم تشارك الفقراء في الفقر المادي فحسب، إنما أيضاً في الفقر الروحي لأولئك الذين يشعرون بأنهم “غير محبوبين، أو غير مرغوب فيهم، ومن دون رعاية”.

كانت تجربتها الإيمانية غنية إلى درجة الألم، ذلك أنها فهمت جيداً عندما كان الناس يشاركون قصصهم المرعبة وآلامهم ومعاناتهم من كونهم غير محبوبين، وحيدين، كان في وسعها أن تتعاطف معهم، لأنها هي نفسها كانت تعاني من تلك الحالة المؤلمة جداً للنفس والروح، وهو أمر عادة ما كان ينعكس على الجسد.

ماذا عن بعض ما كتبته هذه الأم في أوراقها الخاصة حول هذه الحالة؟

الثابت أننا نجد في الرسالة التي وجهتها في 28 فبراير (شباط) 1957 إلى أسقف كالكتا، فرديناند بيريه اليسوعي، مثالاً على عمق الأزمة إذ تقول: “يوجد الكثير من التناقش في روحي، هذا التوق العميق إلى الله، عميق إلى درجة أنه مؤلم، والألم متواصل. وفوق ذلك لست مُرادة من الله، مرفوضة، فارغة، لا إيمان، لا حب، لا حماسة” وتضيف: “الجنة لا تعني لي شيئاً، تبدو لي كمكان فارغ، التفكير فيها لا يعني لي شيئاً، وفوق كل ذلك، هذا التوق الكذب إلى الله”.

وتطالب الأسقف اليسوعي في ختام رسالتها بأن “صلي من أجلي، كي أبقى ابتسم له، على رغم كل شيء”.

وفي رسالة أخرى تعترف بأن ابتسامتها كانت “عباءة كبيرة تغطي العديد من الآلام”، وقد كان البوح بأن الابتسامة شكلت قناعاً لشكوك داخلية حول وجود الله، غذت الانتقادات من حولها، في طليعتها ما قاله المؤلف والناقد الاجتماعي كريستوفر هيتشنز من أن “راهبة البلقان كانت نوعاً من الاحتيال”.

أعمال أدبية وأخلاقية تطارد سيرتها

هل توقف أمر الانتقادات عند حدود علاقتها مع الله تعالى الكلي القدرة، أم أن الأمر انسحب أيضاً على علاقتها بالمرضى والفقراء، وأن هناك ثغرات مخفية في هذه القصة؟

الثابت أنه منذ أن نشر المؤلف والناقد الديني الأميركي هيتشنز كتابه المعنون “الأم تريزا بين النظرية والتطبيق”، ظهرت العديد من القضايا التي تمثل نقاطاً مظلمة في تاريخ هذه الأم التي عرفت بتضحياتها.

من بين ما حوته دفتا الكتاب، القول بأنها كانت تشجع سراً تعميد المرضى المحتضرين، من دون علمهم ولا موافقتهم، وهي رواية نشرتها كذلك صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية التي سردت العديد من الروايات حول هذا الأمر.

بدت في بعض الأوقات رؤيتها لبعض الأمراض وكأنها انتقام من الله تعالى، فعلى سبيل المثال لم تكن تتورع أن تعتبر مرض “الإيدز” هو نوع من الجزاء العادل على سلوك جنسي معتل ومختل، وهي وجهة نظر كثيرين وليس هي فحسب.

كما صرحت كذلك بأنها لم تكن لتسمح لأي امرأة أو زوجين أجهضا جنينهما عمداً بتبني واحد من أطفالها، منوهة إلى أن الإله قد يكون متسامحاً بينما هي قد لا تكون كذلك.

لم يكن المؤلف الأميركي وحده هو من وجه لها أصابع الاتهام في قضايا خلافية روحية، ففي ورقة بحثية باللغة الفرنسية لمجلة الدراسات في العلوم الدينية قام بها ثلاثة من أساتذة جامعة مونتريال، وذلك بعد نقاشهم حول ما إذا كان الإيثار الصافي موجوداً أم لا في حالة الأم تريزا، أوضحوا أنها لا تستحق القداسة ولا الثناء… لماذا؟

في ورقتهم البحثية قال الباحثون “إن الأم تريزا لديها نظرة عالمية مزعجة تجعل الفقر رومانسياً، وتبعد المحرومين اقتصادياً عن السعي لتغيير ظروفهم”.

هل كان المال كذلك عقبة في حياة ومسيرة الأم تريزا؟

يرى البعض أنه كانت لها علاقات مثيرة للدهشة، حيث حافظت على علاقات ودية مع فاسدين وديكتاتوريين مثل جان كلود دوفالييه في هايتي الذي اتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فقد مدحت الأم تريزا زوجته، كما أنها لم تتردد بشأن قبول وسام جوقة الشرف ومنحة هذا الديكتاتور، ووضعت إكليلاً من الزهور على قبر حاكم ألبانيا الشيوعي أنور خوجا.

كما بدت أراؤها مؤلمة بشأن الإجهاض لا سيما عند الإشارة إلى النساء البوسنيات اللواتي اغتصبن من قبل الصرب واللاتي يسعين إلى الإجهاض لحملهن غير المرغوب فيه، فقد قالت ذات مرة “أشعر أن أكبر مدمر للسلام اليوم هو الإجهاض، لأنه حرب مباشرة، قتل مباشر من الأم نفسها”، كما أنها على رغم ما تراه من فقر كانت ضد تحديد النسل.

لم تكن تريزا كائناً ملائكياً بالمطلق، لكنها بدت كإنسانة تخطئ وتصيب، وعلى رغم كل تلك الانتقادات، فقد تركت وراءها إرثاً من الرؤى الشخصية والتوجهات الإنسانية التي تستحق التأمل.

الدعوة لخدمة جميع الخلائق كافة

كتبت الأم تريزا في أوراقها الخاصة تقول: “لكل مرض هناك عدد كبير من الأدوية والعلاجات، ولكن، إذا لم يكن هناك يد ناعمة وحاضرة للخدمة، وقلب كريم حاضر للحب، فإنني لا أعتقد أنه بالإمكان شفاء ما يسمى بنقص الحب. إن الاشياء التي تؤمن لنا دخول السماء هي أعمال المحبة والكرم التي يجب أن يمتلئ وجودنا بها. هل نعرف كم تقدم بسمة محبة إلى مريض؟ هكذا نعلن من خلال بسمتنا كم أن الله سامحنا إذا أحببنا مرضانا وساعدنا الفقراء. إنه بذلك يغفر لنا جميع خطايانا”.

وعندها كذلك “أن عدم اكتراث بعض الناس الذين يمرون بالمرضى والفقراء والأطفال ولا ينظرون إليهم، يعود إلى أنهم فقدوا الإيمان والوعي، فلو كانت لهم القناعة الحميمية بأن الذي يزحف على الأرض وهو يتألم هو أخوه أو أخته، لكان تصرف بعكس ذلك، ولكان اهتم قليلاً لأمرهم، ولكن مع الأسف، فإنهم لا يعرفون معنى الشفقة، ولا يأبهون لهؤلاء التعساء، ولو فهموا قيمة هذا الإنسان المتألم لكانوا تصرفوا بوعي وعرفوا أن الله يسكن فيه، وحينئذ يبدأون بمساعدته وبخدمته كما خدمهم المسيح نفسه”.

هل هناك حالة من التضاد بين أقوال الأم تريزا وأفعالها؟

غالب الظن أن هناك حلقة مفقودة في حياة الراهبة التي تحدثت كثيراً جداً عن المحبة، والتسامح، فقالت غير مرة: “إذا أردنا فعلاً أن نحب، علينا أن نتعلم التسامح، لا سيما أن هناك احتياجاً فظيع للحب، وجميعنا يعاني من ألم الوحدة، ويجب أن نتحلى بالشجاعة للاعتراف بهذا الأمر”.