يعاني رجال كثيرون من ظاهرة قليلاً ما يجري تداولها علانية وبصراحة، على غرار أشياء عديدة تتعلق بالجنس عند الذكور، تُسمّى “أحزان ما بعد نشوة الجماع” Post Coital Dysphoria. وقد تناولت صحيفة “غارديان” البريطانية هذه الظاهرة في مقال مطول نشرته أخيراً على موقعها الإلكتروني.
من الشائع تماماً معرفة أن نساءً كثيرات يُصبن بكآبة ما بعد الولادة، على الرغم من الفرح الذي يتوقع غالباً أن يرافق ذلك الحدث. وكذلك يُعرف عن شريحة واسعة من الإناث معاناتهن حزناً يعقب انتهاء الجماع، حتى لو جرى بشكل ممتع ووصلن فيه إلى النشوة.
في الآونة الأخيرة، ظهرت غير دراسة وثَّقَت معاناة كثيرٌ من الرجال لتلك المشاعر المتضاربة. وتبيّن أيضاً أن هنالك رجالاً يحزنون ويبكون ويصلون إلى حافة التوتر المَرَضي، عقب الانتهاء من الجماع والمرور بالنشوة الجنسيّة!
أحزان الرجال على خطى غمّ النساء
وعلى مدار عقود مديدة من عمر الطب الحديث، لم تكن خافية معاناة الإناث لظاهرة “الاغتمام بعد الجُماع”. وفي المقابل، اقتضى الأمر انتظار العقد الثاني من القرن 21، قبل أن تُنجَز دراسة أولى من نوعها عن وجود تلك الظاهرة عند الذكور. وقد نهض بها آنذاك فريق أكاديمي في “جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا” الأوستراليّة، ونشر نتائجها في “المجلة العالميّة للجنس والعلاج الزوجي”.
وحينها، أُجريت تلك الدراسة عبر الإنترنت مع الحفاظ على سرّية هوية المشاركين فيها. وشملت 1208 رجال من أوستراليا وأميركا وبريطانيا وروسيا وألمانيا ونيوزيلاندا. وأفاد 41% ممن شملتهم الدراسة أنهم عانوا “أحزان ما بعد الجُماع” في وقت ما من حياتهم، وكابدها خُمسَهم خلال الأسابيع الأربعة التي سبقت الدراسة، فيما أفاد 4% منهم عن معاناة ذلك الألم بصورة مستمرة ومنتظمة.
ووفق توضيح من الخبراء الذين نهضوا بتلك الدراسة حينها، تراوحت أعراض “أحزان ما بعد الجُماع” بين النفور من ملامسة الشريك الجنسي كليّاً، والتوتر المتمازج مع الأسى والسخط، إضافة إلى الإحساس بفراغ داخلي شامل وانعدام المشاعر كليّاً.
وبالنتيجة، خلص أولئك الخبراء الى استنتاج مفاده أن تجربة الذكر الجنسيّة تبدو أعقد مما ساد الاعتقاد بشأنها طويلاً. وكذلك رجّحوا أن تستند ظاهرة “أحزان ما بعد الجُماع” إلى أسباب متنوّعة وجديرة بالتحرّي عنها.
صراع دفين في اللاوعي ورومانسية مرهفة
ومن وجهة نظر المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي، من المستطاع النظر إلى الأحزان التي تلي النشوة الجنسية، سواء عند الذكور أو الإناث، إلى صراع في اللاوعي البشري، بين طاقتي (أو غريزتي) الـ”ثناتوس” Thanatos والـ”آيروس” Eros. ويتعلق “ثناتوس” بالموت والتدمير والفناء وما إلى ذلك، سواء تعلق بالغير أو الذات؛ فيما تتمحور “الآيروس” حول اللذة بأشكالها المتنوعة. وهنالك ما لا يحصى من الظواهر والمواقف التي يظهر فيها، للعين الفرويدية التي تذهب إلى ما وراء المنكشف والواعي، ذلك التمازج والتصارع بين طاقتي الموت واللذة. ولا يتسع المجال للتوسع في ذلك الأمر الذي تتوافر حوله، لمن يرغب في ذلك، كتابات غزيرة وكثيرة.
وهنالك أيضاً النظرة الرومانسية، ربما ليست بعيدة كثيرة من الفرويدية، التي تذهب إلى أن الجمال بحدّ ذاته، يحرك في الإنسان إحساساً بالحزن العميق. وقد يرتبط ذلك بأن لذة الجمال تذكر بالفناء عبر كونها عابرة وغير دائمة بحدّ ذاتها، بالإضافة إلى أن مَن يحس بها يعيش حياة يشكّل الموت الحقيقة المؤكّدة فيها.
وأياً كان الموقف الذي قد تميل إليه، فلعله من المفيد أن تبدأ أولاً بملاحظة تلك المشاعر والاعتراف بها، ثم التفكير في الحصول على استشارة نفسية متخصصة، إذا بلغت تلك الأحزان حدّاً جامحاً ومؤذياً.