تعيش حكومة “القوى الشيعة ” برئاسة السوداني  واحدة من أكثر الفترات توتراً بعد أكثر من عام على حال الهدوء بين حلفاء طهران في العراق وواشنطن، خصوصاً مع استمرار الميليشيات الموالية لإيران في قصف المصالح الأميركية في العراق ورد واشنطن الأخير على مقار تابعة لميليشيات “كتائب حزب الله”.

ولا تتوقف تأثيرات القصف الأميركي الأخير عند حدود إحراج حكومة السوداني وحسب، بل تتعدى ذلك إلى إحداث إشكالات أوسع داخل التحالف المشكل للحكومة العراقية والذي يحوي غالبية الجماعات المسلحة الموالية لإيران.

وجاء الرد الأميركي على القصف المتكرر لقواعدها في العراق بعد أكثر من شهر شهدت فيه القواعد الأميركية في العراق وسوريا نحو 66 هجوماً من قبل ميليشيات عراقية موالية لإيران. واستهدفت واشنطن مقار لـ “كتائب حزب الله” في منطقة جرف الصخر حيث قالت إنه يأتي كرد على الهجوم الأخير على قاعدة “عين الأسد” في محافظة الأنبار، مما أسفر عن مقتل ثمانية مسلحين من الحشد الشعبي

وسبقت الهجوم الأميركي على جرف الصخر عملية قصف سيارة في منطقة أبو غريب قال الجيش الأميركي إنها قامت باستهداف قاعدة عين الأسد.

عودة فترة الصراع

ويعيد ما يجري على الساحة العراقية الأذهان لفترة الصراع بين واشنطن وحلفاء طهران على الساحة العراقية عام 2019، والذي أفضى في النهاية إلى مقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس في غارة قرب مطار بغداد في الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020. وقالت “الكتائب” إن العملية الأميركية لن تمر من دون عقاب، مبينة أن ما جرى يستدعي “توسيع دائرة الأهداف إذا ما استمر العدو في نهجه الإجرامي”.

وفي المقابل كانت حكومة السوداني أشارت إلى أنها “تتعامل مع التصعيد الأخير الذي شهدته الساحة العراقية خلال اليومين الماضيين على أنه تصعيد خطر وفيه تجاوز مرفوض على السيادة العراقية التي نلتزم تحت كل الظروف بصيانتها وحفظها والدفاع عنها، وفقاً للواجبات الدستورية والقانونية للحكومة”.

وفيما دان المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي الهجوم الأميركي الأخير أشار إلى أن ما جرى “يعد انتهاكاً واضحاً للسيادة ومحاولة للإخلال بالوضع الأمني الداخلي المستقر”.

ثلاث مراحل لكبح جماح الميليشيات

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وإدارة الرئيس جو بايدن تحذر من توسعة رقعة الصراع في الشرق الأوسط، مما دفع واشطن إلى إصدار مجموعة جديدة من العقوبات على ميليشيات موالية لإيران على إثر القصف المتكرر للقواعد العسكرية في العراق وسوريا.

ويقول الباحث في معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بلال وهاب إن التصعيد الأميركي الأخير يأتي “رداً على التصعيد المتكرر الذي تقوم به الميليشيات الموالية لإيران”، مبيناً أن تعويل واشنطن لا يزال مستمراً على “أن يقوم السوداني بالإيفاء بوعوده المرتبطة بمحاسبة ومنع الجهات التي تهاجم القواعد العراقية التي تضم قوات التحالف الدولي”.

ولعل ما غير المعادلة الأميركية إزاء الجماعات المسلحة الموالية لإيران هو “تصاعد وتيرة الهجمات على قوات التحالف من قبل تلك الجماعات وعدم قدرة حكومة السوداني على تقليصها”، بحسب وهاب الذي يلفت إلى أن “فترة الهدوء بين واشنطن وبغداد قطعت منذ الـ 17 من أكتوبر (تشرين الأول) وبداية هجمات الميليشيات على المصالح الأميركية”. ويشير وهاب إلى ثلاث مراحل اعتمدتها إدارة بايدن لكبح جماح الميليشيات، تمثلت الأولى في “التصعيد الديبلوماسي من خلال سحب كثير من الديبلوماسيين في السفارة الأميركية ومن ثم زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن بغداد”، أما المرحلة الثانية فكانت من خلال “التصعيد السياسي بإصدار حزمة عقوبات إضافية على تلك الميليشيات”.

ويضيف أن التصعيد العسكري الأخير مثّل “المرحلة الثالثة التي تسعى واشنطن من خلالها إلى احتواء ما يجري على الساحة العراقية”.

ويلفت وهاب إلى أن القصف الأخير كان بمثابة “إعلان لانتهاء فترة الهدوء بين واشنطن وحلفاء طهران في العراق”، مبيناً أن ما جرى من قبل “حلفاء السوداني في تلك الجماعات المسلحة يمثل إحراجاً لحكومته التي تعلن أن لدى العراق اتفاقاً استراتيجياً مع الولايات المتحدة، لكنها لم تتمكن من منع تلك الجماعات من القيام بعمليات القصف”.

ويختم أن ما يجري الآن على الساحة العراقية “يضاعف مخاوف السوداني من تحول العراق إلى ساحة حرب بين الميليشيات الولائية وواشنطن، تكون فيه حكومته مجرد مراقب للأوضاع على غرار ما حصل بعد عام 2019”.

محاولة احتواء أميركية

ويرى مراقبون أن استمرار عمليات القصف للقواعد الأميركية في العراق سيزيد احتمال تصعيد أكبر ربما تشنه واشنطن على الميليشيات الموالية لإيران، خصوصاً مع محاولات إدارة بايدن عدم توسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط.

وفي المقابل يعتقد رئيس منطقة الشرق الأوسط في مؤسسة “غالوب الدولية” أن ما يجري من قصف أميركي للميليشيات الموالية لإيران “لا يمثل مرحلة جديدة بقدر كونها محاولة من الإدارة الأميركية لاحتواء الموقف وعدم التصعيد أكثر من قبل تلك الجماعات”.

 

ويبدو أن ثمة رسائل عدة تدرجت إدارة بايدن في إرسالها إلى صانعي القرار في العراق، تتمثل في “دفع جميع الأطراف إلى إيقاف عمليات الاستهداف المتكررة للقواعد الأميركية”، كما يعبر داغر الذي يشير إلى أن “اختيار جرف الصخر لاستهداف الفصائل المسلحة لم يكن عشوائياً”، ويلفت إلى أن الإشكال ربما يتفاقم في حال “قامت الفصائل الموالية لإيران بتصعيد الموقف من الوجود الأميركي في البلاد”، مضيفاً أن “الضغوط الكبيرة من قبل وزارة الدفاع الأميركية للرد على القصف المتكرر من قبل حلفاء إيران هو ما دفع إدارة بايدن إلى قصف مقار تابعة للميليشيات”.

ويتابع، “واشنطن لا تزال تأمل في احتواء الموقف وعدم التصعيد”، مبيناً أن ما يثبت ذلك هو قيام الإدارة الأميركية بتمديد الإعفاءات على الغاز الإيراني وإطلاق نحو 10 مليارات دولار إلى إيران”، ويختم أن ما يجري على الساحة العراقية بين واشنطن وحلفاء طهران يمثل إرسال رسائل في جميع الاتجاهات، “ففي حين تحاول الميليشيات الولائية القول لجمهورها إنها لا تزال تقاوم الوجود الأميركي، تسعى واشنطن أيضاً إلى تهدئة الغضب داخل أروقة وزارة الدفاع من عدم رد واشنطن على تلك الهجمات المتكررة”.

حلفاء إيران ودعوات إنهاء الوجود الأميركي من جديد

ويتباين الموقف داخل أروقة “الإطار التنسيقي” في ما يتعلق بالقصف الأميركي، ففي حين دعا معظم قادة الجماعات المسلحة إلى “الإنهاء الفوري للوجود الأميركي”، تشير أطراف أخرى إلى “اعتماد الحوار في التعامل مع القصف الأميركي”، كما تحدث رئيس تيار “الحكمة” عمار الحكيم.

وإضافة إلى الحكيم قال رئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي إن “الحكومة ملتزمة بحماية البعثات الدبلوماسية والمقار التي تضم مستشاري التحالف الدولي”، وأضاف عبر منصة “إكس”، “ما حصل من قصف أخير من قبل قوات الولايات المتحدة ضد مقار القوات الأمنية والحشد الشعبي الرسمي في عدد من مدن البلاد أمر مستنكر ومدان وخطر قد يجر إلى مزيد من المواجهات التي لا نتمناها على الأرض العراقية”.

وجدد القصف الأميركي الأخير مطالبات زعماء الجماعات المسلحة الموالية لإيران بإخراج القوات الأميركية من البلاد بعد نحو عام على تطبيع العلاقات بين واشنطن وحلفاء طهران إثر تشكيل حكومة السوداني في أكتوبر عام 2022.

وفي تطور لافت للأوضاع قال القيادي في “الإطار التنسيقي” همام حمودي إن “الإطار وائتلاف إدارة الدولة الذي يضم جميع المكونات العراقية قررا إنهاء التحالف الدولي والتحول إلى اتفاقات التعاون الثنائي”، ودعا كل من رئيس تحالف “نبني” هادي العامري وزعيم ميليشيات “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي وقيادات أخرى في “الإطار التنسيقي” إلى إنهاء الوجود الأميركي في البلاد.

وفي المقابل دعا زعيم ميليشيات “النجباء” أكرم الكعبي في الـ 23 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري إلى “إعلان الحرب على الولايات المتحدة”.

مرحلة جديدة للصراع

وفي السياق رأى المتخصص في العلوم السياسية عصام الفيلي أن ما جرى خلال الأيام الماضية يدل على “بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين واشنطن والجماعات المسلحة في العراق”، مشيراً إلى أن تلك الجماعات ربما بدأت تدرك أن “استراتيجية غض البصر عن أنشطة الفصائل المقربة من إيران لم تعد موجودة في حسابات صانعي القرار في واشنطن”. وأضاف أن توقيت الرد العسكري الأميركي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية يؤكد محاولات بايدن “إثبات صرامة وعدم تهاون إدارته مع أي استهداف للقواعد الأميركية بعد الاتهامات المتكررة من قبل الحزب الجمهوري بتهاونه مع تلك الفصائل”.

ولعل ما يعقد الموقف بالنسبة إلى الحكومة العراقية يرتبط بـ “إدراكها أهمية استقرار العلاقة مع واشنطن بخاصة مع استمرار التحديات الأمنية والاقتصادية التي قد تواجهها”، بحسب الفيلي الذي لفت إلى أن “كثيراً من الجهات السياسية داخل الإطار تقف مع الحكومة في سياق إيقاف الهجمات على القواعد الأميركية”.

وختم أن التوترات مع واشنطن على الساحة العراقية لن تطول مع إيمان جميع الأطراف حتى داخل “الإطار التنسيقي” بأنها “مرحلية وتتعلق بالحرب القائمة على قطاع غزة”.