ليست الهدنة الإنسانية في قطاع غزة مؤشراً على إمكان التوصل إلى اتفاق سياسي شامل حول وضع القطاع والقضية الفلسطينية، وأيضاً حول جبهة جنوب لبنان. ذلك من المبكر الحديث عن انتهاء الحرب بالرغم من أن الهدنة فتحت على اتفاق لإطلاق عدد من الأسرى لدى حماس وعدد من الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
يلاحظ أولاً أن الهدنة ليست اتفاقاً لوقف إطلاق النار في غزة، وهي محصورة بتبادل الأسرى والرهائن، وإدخال المساعدات إلى القطاع، وهي لا تشبه متابعة مجلس الأمن الدولي لحرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان عندما تقرر وقف إطلاق النار وصدر القرار 1701 الذي تعرض لخروق كبرى بعد اشتعال جبهة الجنوب اللبناني على وقع الحرب الإسرائيلية رداً على عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بينها تغيّر قواعد الاشتباك. لذا تختلف الهدنة عن اتفاق وقف إطلاق النار، وإن كانت تمت بوساطة قطرية – مصرية وموافقة أميركية بين حركة حماس وإسرائيل.
بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة بإدارة أميركية، وهي تختلف عن كل الحروب السابقة بالنسبة إلى أهدافها المعلنة وغير المعلنة. الأميركيون شكلوا ضابط إيقاع للحرب، انطلاقاً من تدخلهم لحماية إسرائيل وإعادة الثقة بالجيش وما اعتبروه تهديداً وجودياً للكيان الذي اهتز على وقع عملية حماس الكبرى. وتأتي الهدنة في هذا السياق، لكنها لا توقف الحرب ما لم تتمكن إسرائيل من تحقيق إنجاز كبير على الأرض، رغم الدمار الذي أحدثه القصف والتهجير الذي طال نصف سكان غزة. لذا جاءت الهدنة لالتقاط الأنفاس وتقييم الوضع على الأرض من دون أن تصل الأمور إلى اتفاق سيكون له انعكاسات إقليمية تشمل جبهة لبنان أيضاً. فالاتفاق بخلاف الهدنة يفتح إمكان البحث بتسويات أو صيغ شاملة لوقف الحرب، وهو ما لا تريده إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأميركية قبل تحقيق أهدافهما، ولا يبدو أنه متاح بفعل المقاومة المستمرة في أحياء غزة. وأي اتفاق سينخرط فيه المجتمع الدولي يفكك الجبهة الداعمة لإسرائيل في حربها، ويطرح حلولاً قد لا تكون لمصلحة الاحتلال ما لم تحقق أهدافها، إضافة إلى شمل جبهة جنوب لبنان به، خصوصاً بعدما باتت هذه الجبهة ضاغطة على إسرائيل ومستوطناتها في الشمال.
لكن التوصل إلى الهدنة يشير إلى احتمالات عدة، ويطرح تساؤلات حول المسار الذي ستسلكه الحرب بعد انتهائها. ويبدو واضحاً أن إسرائيل كما حماس ومحور المقاومة يتهيآن للمرحلة المقبلة، فالمحور الأخير يعتبر أن الهدنة هي انتصار لحركة حماس وهي ستفتح بالتأكيد على مرحلة من المفاوضات تطال المنطقة كلها، وبالعكس، فإن عدم استمرار الهدنة قد يفجر الجبهات كلها على ما أكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته الأخيرة لبيروت.
يعتبر محور الممانعة أن إسرائيل وافقت على الهدنة بفعل صمود حماس ما دامت الطرف الذي وافق عليها، إضافة إلى دعم الجبهة الضاغطة من “حزب الله” في جنوب لبنان. ويعني ذلك بالنسبة إلى هذا المحور أن إسرائيل عجزت عن تحقيق أهدافها، لا باقتلاع حماس من غزة ولا بشن حرب على لبنان. وبالتالي سيكون صعباً على إسرائيل في المرحلة المقبلة الاستمرار في حربها، وهي ستكون مضطرة للتراجع وترك الأمور للأميركيين لإدارة المفاوضات. وهذا الرهان ينطلق من أنه لا الأميركيون ولا إيران ولا إسرائيل تريد توسيع دائرة الحرب. وبما أن الحرب في غزة ضد الفلسطينيين لم تحقق أهدافها، فهذا اعتراف بحركة حماس ودورها المقرر لمصير الشعب الفلسطيني.
لكن الوقائع عند الأميركيين تشير إلى غير ذلك، فإدارة الرئيس جو بايدن تحركت نحو إسرائيل لمنعها من إشعال الحرب على جبهة لبنان باعتبار أنها ستنعكس على المنطقة كلها، وهي تريد حصرها في غزة، واستكمال الهجوم لإنهاء حركة حماس، وهي وافقت على الهدنة بفعل عوامل عدة، أبرزها التقاط الأنفاس لدى الإسرائيليين وتخفيف حدة الانتقاد الدولي للجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين في القطاع. لذا ليست الهدنة اتفاقاً لوقف الحرب والانتقال إلى تسوية للوضع الفلسطيني، بل قد تكون مقدمة لحرب أوسع وأكبر قد تتخطى غزة لتشكل الساحات كلها.
بعد الهدنة لن يكون كما قبلها، وهي تؤسس لمرحلة جديدة من المعادلات، فإذا استمرت الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي قد تكون أكثر حدة على ما يسربه قادة الأمن في إسرائيل، فإن ذلك يؤسس لمعركة كبرى. ويتضح أن محور الممانعة ومرجعيته الإيرانية فرضا قواعد جديدة ربطاً بغزة، وأولاها، أنه لا يمكن البحث بأي تسوية للقضية الفلسطينية وترتيبات في المنطقة من دون أن تكون هناك كلمة لـ”حزب الله” وحماس وإيران فيها. يعني ذلك أن جبهة جنوب لبنان لم تعد منفصلة عن غزة، على الرغم من أن الأميركيين يحاولون فصلها. وعلى هذا الأساس، إذا تطورت الهدنة أو تمددت، فإنها ستصب في مصلحة محور الممانعة، وسيكون لـ”حزب الله” كما لحماس دور في التفاوص الإقليمي والدولي برعاية إيرانية، وهو ما عبرت عنه اللقاءات التي أجراها عبد اللهيان في بيروت مع قادة حماس و”حزب الله” حيث هناك غرفة عمليات مشتركة لوحدة الجبهات.
من السابق لأوانه تقدير ما ستذهب إليه الأمور في الهدنة الممتدة حتى مساء الإثنين، لكن الأجواء تشير إلى أن إسرائيل مصرة على استكمال حربها ضد حماس لتحقيق بعض أهدافها المعلنة، وصولاً إلى تهجير الفلسطينيين إلى جنوب القطاع بالكامل. والتهجير هو هدف إسرائيلي أول في عملياتها العسكرية، ما دام التدمير الممنهج للأحياء هجر أكثر من نصف السكان، وهي تعمل على اغتيال قيادات حماس في الداخل والخارج لفرض واقع جديد يؤدي في النهاية بالنسبة إلى الإسرائيليين إلى إنهاك حماس وحتى إنهائها.
الهدنة قد تفتح مساراً مختلفاً على المستويين الإقليمي والدولي، لكنها لا يبدو أنها ستوقف الحرب في غزة، فالاتفاق السياسي لا يزال بعيداً، ما دام الأميركيون يعتبرون أنه لا يمكن ترك إسرائيل من دون تحقيق إنجاز أو بعض أهدافها، بما في ذلك جبهة لبنان. وبالفعل تواجه إسرائيل مأزقاً كيانياً في ما يتعلق بغزة أو حتى في لبنان، وهي عاجزة عن إعادة المستوطنين إلى منازلهم، وهي تريد إنهاء الوجود المسلح لـ”حزب الله” على الحدود الجنوبية اللبنانية أو إبعاده إلى ما بعد خط الليطاني. لكن شرط ذلك هو كسر حماس في غزة، وهو أمر غير متاح حالياً، فيما “حزب الله” يضغط بقوة من دون أن ينجرف إلى الحرب الكبرى، خصوصاً أن إيران لا تريد هذه الحرب، بل البناء على ما تحقق في فلسطين.
الفشل الإسرائيلي حتى الآن قد يفتح على إمكان التوصل إلى اتفاق بعد الهدنة، لكنه أيضاً قد يوسع دائرة الحرب. لكن الأكيد أن لا شيء انتهى في الميدان، فيما الكباش الأميركي – الإيراني مفتوح عبر الضغوط المتبادلة في المنطقة، ويتجنبان الحرب الكبرى. لكن لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر).
Twitter: @ihaidar62