تتميز سياسات الغرب بدبلوماسيتها الذكية الهادئة وحاجتها إلى الوقت، للوصول إلى الأهداف المخططة لها، حيث أخطأ البعض في قراءة خفايا الاستراتيجية الغربية مع إيران، في ما يتعلق بالملف النووي، بسبب تسرعهم العقائدي البعيد عن الموضوعية في التحليل، الذي أبعد أغلبيتهم من فهم المستور والمخفي في أجندات السياسة الدولية التي خصصت للشرق الأوسط وللعراق بصورة خاصة منذ احتلاله في 2003.
ومنذ ذلك الحين، حرص الجانب الأمريكي، على العمل على إيجاد الكثير من الحلول المؤقتة سعياً لإدامة العملية السياسية في العراق، وغض النظر عن الوجود السياسي المذهبي الخارجي، والقبول بالدور الذي تلعبه الفصائل المسلحة الموالية للمشروع المذهبي الولائي في إسناد النظام في الداخل، من خلال علاقة مصالح مشتركة تضمن للطرف الأمريكي والإيراني وعلى حساب الطرف العراقي، المزيد من الوقت للوصول إلى حلول تخدم كلا الطرفين.
إلا أن سقوط نظام بشار الأسد وبالطريقة السريعة التي شاهدها العالم، وحتمية انتقالها للعراق، نظراً لحجم الترابط العقائدي بين الأنظمة الفاشلة في المنطقة، أسقط ورقة التوت عما يراد عمله وتنفيذه، وكشف بوضوح خطورة المرحلة المقبلة وتداعياتها في حال بدء تنفيذ وتطبيق مخطط التغيير الكامل في الشرق الأوسط، الذي لا يمكن استثناء العراق منه، على الرغم من طبيعة الاختلاف في شكل وتنفيذ هذا التغيير، وتباين آلياته وطرقه من دولة إلى أخرى. ونتيجة لتدخل الأجندات الخارجية في تركيب وعمل الدولة، أصبح الفضاء السياسي العراقي أشبه بساحة مفتوحة، يتم استخدامها من قبل الأحزاب الحاكمة، من دون أدنى تفكير ومراعاة للنتائج الخطيرة لهذا الموقف وآثاره على البلاد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، جدية المطالب الرسمية الدولية التي حملها ممثل الأمم المتحدة ووزير الخارجية الأمريكي للحكومة العراقية، ودعوتهم للمسؤولين العراقيين إلى اتخاذ قرارات واضحة وجريئة تخدم مصالح بلدهم، لتجنب المشاكل والأزمات نتيجة قرب تولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ووضوح رؤيته للتغيرات المقبلة في المنطقة، والقرارات التي سيتخذها حال وصوله للسلطة، والتي تشير بوضوح إلى وقوع العراق ضمن إحداثيات التغيير في خريطة الشرق الأوسط الجديد.
إن ما حدث أخيراً في لبنان وسوريا، وما رافقه من التغييرات في الأنظمة السياسية لدول المنطقة، أظهر بوضوح طبيعة الجهود الأمريكية للوصول إلى نتيجة قادرة على كبح استراتيجية طهران التوسعية، ومن ثم إزالة غشاء الضبابية عن جوهر ملفها النووي، والبحث في الأسباب القومية العليا للطموح الإيراني للوصول لهذا الهدف، ما قد يكون بمثابة مؤشر مهم لملامح تغيرات مقبلة قد تحصل في العراق، نظرا لارتباط الملف السوري بالملف العراقي واللبناني، وبعد أن لم تعد إيران اللاعب المهم في المنطقة. وهذا ما قد يفسر بوضوح أسباب اختلال الموازين والمواقف الرسمية العراقية، وخوفها من أن يمس هذا التغيير بشكل أو بآخر العملية السياسية العراقية، في الوقت الذي تستعد الولايات المتحدة الأمريكية، بدء تطبيق سياسة إدارة الرئيس الأمريكي الجديد، وإعلان موقفه الرسمي الواضح تجاه العراق وجيرانه، لينهي عقدين من الزمن من التوافق النسبي المشترك بين الإدارات الأمريكية والنظام السياسي العراقي منذ نشوئه في 2003.
إن ارتباك الساحة العراقية وقلقها مما حدث في جنوب لبنان وسوريا هما مؤشران لا يقبلان الشك، ينذران بمتغيرات مقبلة واختلال في المعادلة الطائفية التي قادتها إيران في بلاد الرافدين وبلاد الشام منذ 2003، وكما أن الاستمرار على تشجيع الثقافة الطائفية والقومية الانفصالية قد تسارع بتجزئة العراق، لا إنقاذه من مخطط خارجي مُتقن للتفكيك هدفه تقسيم دول المنطقة على مقياس الأغلبية الشيعية، أو السنية، تماشياً مع ما يُقال ويرسم للعراق وللشرق الأوسط في المستقبل. من هنا فإن ضرورة وقف التعامل مع المحور الإيراني هي في مصلحة العراق حكومةً وشعباً، بعد خروج طهران من دائرة سيطرتها الإقليمية للمنطقة، حفاظاً على وحدة العراق وأمن العراقيين من خطر الطائفية الذي لم ينته بعد، حتى لا تقع منطقة الشرق الأوسط في دوامة عنف جديدة ناتجة من رغبة بعض تيارات الدين السياسي إملاء فراغ المشروع الإيراني بعد سقوط نظام بشار الأسد، وما قد يحدث للعراق في المستقبل.
لا شك أن ما يحدث في سوريا هو بداية تحول كبير لا يمس النظام الثيوقراطي في إيران فحسب، وإنما يمُس العراق ونظامه السياسي الذي سيتأثر لا محالة. إن نهاية المشروع القومي الإيراني لا يعني خروج العراق من أزمته، لأن إعادة بناء العراق الجديد والحفاظ على وحدته هو تحدي القوى الوطنية المقبل، نظراً لطبيعة التغيرات الجديدة التي تعيشها المنطقة.
كاتب عراقي