الحدث السوري الجلل، أعني الثورة السورية المباركة التي هزت أركان النظام السوري، وأسقطت هيبته، التي اعتاد على فرضها بالقوة لترهيب الشعب وقمعه وتجويعه وتشريده وزجه في غياهب السجون والمعتقلات، النظام الذي ادعى المقاومة والممانعة، كخداع  للشعب عبر آلة إعلامية ديماغوجية ومضللة لأكثر من خمسين عاما، أقول إن هذا الحدث تتناوله الكاتبة السورية علا شيب الدين  في كتابها: (ثورة الحرية السورية: أفكار وتأملات في المعنى والمغزى) الصادر في طبعته الأولى عن دار الدرويش (2021) بأسلوب فكري فلسفي عميق، يُعنى بتأويل مجريات وخطاب الثورة عبر الشعارات الثورية التي رفعت أثناء المظاهرات السلمية التي اندلعت ضد النظام الاستبدادي القابع في دمشق، ويسعى لإسباغ المعاني العميقة للعديد من التيمات التي رافقت الحراك الثوري السوري الكبير.

مفهوم الشارع

ترى المؤلفة أن الشعب حين رفع شعار الشعب يريد إسقاط النظام إنما أراد فضح النظام الذي أراد إسباغ سمة – طبيعي – على الظواهر التاريخية أو الثقافية، والنظام هنا يحاول تبرير الانحرافات الأخلاقية والممارسات التي لا يمكن أن تكون طبيعية، فالرد الشعبي هو فضح التعمية التي يمارسها النظام تجاه الشعب، وهذا السلوك الشعبي هو وسيلة من وسائل التنوير الاجتماعي والسياسي.

وحول مفهوم  الشارع تفند المؤلفة الانطباع السلبي الذي تشكل لدى الناس عن الشارع بفعل النظام الاستبدادي وإعلامه المضلل فتقول: حقاً إن الشارع قد ينطوي على ما ليس بمحمود، شأنه في ذلك شأن كل الأمكنة في كل الأزمنة، لكن الثورات كشفت عن جانب آخر له، كان غائباً عفواً أو مغيباً، قصداً وقسراً، استعرت الثورات لتعيد الاعتبار إلى شارع مهمل من زمن بعيد، معلنة بدقة لماذا كانت السلطة، بأشكالها ومتاهاتها ودهاليزها كافة، لا تريد للشارع أن يحتل مكانة جيدة في عقول من تربيهم.

 

مفهوم الانشقاق

لقد أدركنا مع  ثورات الشعوب في العالم العربي لماذا كان الشارع يقلق الحكام أكثر ما يقلق، ويرتعد أولئك خوفاً من أي صوت يتسلل منه، كان الشارع يرعبهم  على الرغم من صمته المطبق ، وكان خطراً أعظم يمس وجودهم  ” المقدس الأبدي ” عرفنا ذلك كله ، وما قد نعرفه لاحقاً قد يكون أخطر.

تتناول المؤلفة الانشقاق فترى أن الانشقاق يطرق ” النظام الكتلة ” فيشظيه وينقل العقل من عالم المشابهات والتوافقات إلى عالم التناقض والتعارض. عالم المخاطرة والمغامرة المتحرر من التدجين والتسييس والتأطير، لقد انشق الشعب السوري شاقاً لنفسه طريقاً، غدا الانشقاق بمثابة سيل جارف يواجه مستنقع نظام متكتل وعليه دخل الطرفان أي الشعب الثائر المتحرك و ” النظام الكتلة ”  في صراع وجود، في صراع إرادات متنافرة متخارجة، بدا الشعب مع هذا التخارج تواقاً إلى إخراج البلاد من حال السلب والعماء بعد الإجهاز على ” النظام الكتلة ” عبر ” شقه “.

 

صراع بين خطابين

وحول الصراع بين خطاب النظام المدمر ” الأسد أو نحرق البلد ” و” يا بشار لا تهتم عندك شعب يشرب دم ”  وخطاب الثوار البناء القائل: ” الشعب يريد إسقاط النظام ” تقول المؤلفة إن الذكاء اللغوي الثوري قد واجه خطاب السلطة بنيران لغة من شأنها الإنارة لا الحرق، فلغة السلطة تبدو كأنها تدمر ذاتها بينما لغة الثورة تريد الحرية والعدالة والكرامة عبر إسقاط من يريد حرق البلد وإراقة الدماء فيه .

وتعالج المؤلفة موضوع الثورة والحرية – حيث عنوان الكتاب –  فترى أنه لو لم تكن الحرية قوام الثورة  السورية ومبدأها ومنطلقها ما كان ليقوم للثورة قائمة، فهي حالة داخلية مباطنة للثورة ومحايثة لها، مثلما هي استعداد دائم ثابت متوافق مع ذاته، ويعلي من امتياز الإنسان.

 

الحرية والذات الثائرة

الحرية هنا ليست مشتقة من نزوع يطلقه تصور مرحلي أو عابر، وليست موضوعاً خارجياً تشرئب إليه الثورة، بل هي ذلك الجوهر الذي منه تستمد الثورة وجودها وقيمتها، من حيث هي، أي الحرية، الدافع الدفين لتعلق السوري بذاته الثائرة، ومن حيث هي منبع شجاعته، واستعداد داخلي يحض على فعل خارجي هو غاية لن تتجسد إلا في موقف داخلي للإرادة، ما دامت الحرية لن تبارح، حتى في مبدأها، مجال الإنسان الفاعل، ولا تنشد أي خارج نطاق الاستعداد الإرادي، وما دام الثائر السوري قد أسلس قياده لجموحها الذي لا كابح له، ما يعني أخيراً ردم الهوة بين الحياة التأملية والحياة العملية، ليستنتج أن الحرية لا يمكن أن تكون ترفاً.

كما أن الحرية في الثورة السورية تبدأ كأنها انبثاق يندفع كسيل جارف، وتبدو قوتها الحقيقية في انسيابيتها غير الطامحة لا للإقناع ولا للإفحام .

وتعالج المؤلفة موضوعات أخرى عديدة تتعلق بالشأن السوري وثورة الحرية السورية، يضيق المجال لعرضها هنا، والكتاب جدير بالقراءة والاهتمام والمتابعة الصحفية والفكرية في آن.