في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن مجتمعنا اللبناني اليوم يواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة: العودة إلى الحرب الأهلية، تقسيم لبنان، أو محاولة إحياء صيغة جديدة للنظام الطائفي التوافقية. كما استعرضنا بالتفصيل أسباب فشل مشروع “دولة مارونية”، وذلك بسبب “الواقع المجتمعي” حيث تتركز غالبية السكان في بيروت وضواحيها.
في هذا الجزء، سنواصل استعراض أسباب عدم جدوى مشروع “دولة مارونية”، وسنفتح نقاشاً حول ضرورة إطلاق مشروع بناء دولة في لبنان.
حرر فكرك
هل يمكن الوصول إلى مارونستان؟ (الجزء الثاني)
في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن مجتمعنا اللبناني اليوم يواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة: العودة إلى الحرب الأهلية، تقسيم لبنان، أو محاولة إحياء صيغة جديدة للنظام الطائفي التوافقية
ربيع سمرا – نزار ضو
في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن مجتمعنا اللبناني اليوم يواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة: العودة إلى الحرب الأهلية، تقسيم لبنان، أو محاولة إحياء صيغة جديدة للنظام الطائفي التوافقية. كما استعرضنا بالتفصيل أسباب فشل مشروع “دولة مارونية”، وذلك بسبب “الواقع المجتمعي” حيث تتركز غالبية السكان في بيروت وضواحيها.
WERBUNG
في هذا الجزء، سنواصل استعراض أسباب عدم جدوى مشروع “دولة مارونية”، وسنفتح نقاشاً حول ضرورة إطلاق مشروع بناء دولة في لبنان.
نضيف أسباباً لا تقل أهميةً عن السبب المذكور في الجزء الأول:
1.طبيعة الطائفة وهو السبب أكثر عمقاً: لا يمكن للطوائف أن تبني دولة. ففي الواقع، إن الطائفة هي في تشكلها التاريخي متناقضة مع ديناميكية الدولة في التعاطي مع التغير الحاصل للمجتمع. فالطائفة، كونها مجموعة من الأنساب التي تتماسك بوساطة عصبية، تضم داخلها مصالح متناقضة. ففي الطائفة نفسها: ملاك ومستأجرون، تجار ومستهلكون، أصحاب مولدات ومستهلكو الطاقة، أصحاب مصارف ومودعون ومقترضون، إلخ…
لذلك، زعيم الطائفة غير قادر على اتخاذ أي قرار، لأن القرار بطبيعته هو تفضيل مصلحة فئة اجتماعية على حساب مصلحة فئة أخرى، وبالتالي يُشكل خطراً على التماسك الداخلي للطائفة. نعتقد أن بشير الجميّل واجه صعوبات داخلية، من المحتمل أن تكون بسبب المقربين منه، في اتخاذ قرارات كان لا بد منها من أجل السير في عملية بناء الدولة المسيحية.
2.”الدولة المسيحية” بمجالها الضيق غير قادرة على التفاعل الكفؤ مع الخارج. التفاعل مع ما هو خارج الحدود يتطلب قوة كامنة لا يمكن تملكها إلا عبر توحيد المجال اللبناني. ففي القرن التاسع عشر مثلاً، تحولت ألمانيا من ساحة حروب للقوى الأوروبية إلى فاعل إقليمي قادر هو بنفسه على شن حروب خارجية، وذلك نتيجة سياسات بسمارك التي وحدت المجال الألماني عبر سكك حديد، تعليم عام شامل، بيروقراطية قوية، توحيد اللغة، وغير ذلك من السياسات الداخلية. فمن هنا أهمية توحيد المجال لرسم حدود بين الداخل والخارج.
3.الاتجاه العام عالمياً هو في مراكمة الخبرات والعلوم، أي ما يسمى الرأسمال البشري، وتقسيم العمل من أجل خفض تكلفة الإنتاج (الوفور الحجمية). المراكز التجارية العالمية التي استفادت من سلاسل الإنتاج، قامت على جذب ملايين العمال من أجل تحقيق الوفرة. بالإضافة الى أن الدول الإقليمية الأخرى لديها القدرة على الاستفادة من مخزون رأسمالها البشري الضخم: تركيا 85 مليون نسمة، إيران 89 مليون نسمة، مصر 111 مليون نسمة، السعودية 37 مليون نسمة، وحتى إسرائيل التي تصل إلى 9 ملايين نسمة. هل “الدولة المسيحية” قادرة على بناء اقتصاد بما لا يزيد عن المليون نسمة؟
لا يمكننا مواجهة التحديات التي تظهر اليوم، وخاصةً إعادة تشكيل المنطقة، من خلال التقوقع؛ بل يتطلب الأمر توسيع الآفاق والثقل السكاني.
اذا بينما قد يبدو طرح تقسيم مجتمعنا (ولو إدارياً) مهرباً سهلاً من هذا الواقع القاسي الذي نعيشه، إلا أن التاريخ يعلمنا استحالة هذا الطرح. لذا، يبقى متاحاً أمامنا اليوم الاحتمال الثالث والأخير: إقامة دولة قوية نقيضة لنظام الهدنة بين الطوائف. فهل هذا ممكن اليوم؟ وما هي السياسات العامة التي تطلق مسار تعزيز الدولة وإضعاف الطوائف؟
نقول إن هناك اليوم تقاطع بين مسائل عدّة قد تسمح لنا مجتمعة بأن نصل إلى انتقال من نظام إلى آخر. تعثّر نظام الهدنة في أواخر عام 2019 وتعطّله بسبب انقطاع الدولارات عنه، وتراجع اهتمام اللاعبين العالميين بهذه المنطقة بسبب تراجع حاجتهم لنفطها (وخاصةً بعدما تحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى مصدّرة للنفط بدلاً من مستوردة له) وبسبب التحدي الصيني المتزايد، ودخولنا في مرحلة إعادة تشكيل العالم وتاليا المنطقة (كما حصل منذ مئة سنة تقريبًا)، يجعل من اللحظة التي نعيشها لحظة استثنائية، تتوافر فيها فرص انتقال هائل بتركيبات المنطقة، ومنها لبنان، وبالتالي هي فرصة للعمل على إقامة دولة حقيقية لم نشهدها منذ نشأة لبنان.
في لبنان، لا إمكانية لقيام دولة دينية أو قومية أو عسكرية. الدولة الوحيدة الممكنة هي الدولة المدنية التي يتعامل فيها المواطن مع الدولة بطريقة مباشرة من دون وساطة الطوائف، دون منعه من الانتساب إلى طائفة إذا ما أراد ذلك. وتكون الخطوة الأولى بإجراء تعداد سكاني للمجتمع، وتسجيل السكان في مكان إقامتهم، كي لا يبقى مجتمعنا أسيرا لخيال لم يعد صحيحا منذ سنوات طويلة. وتؤمّن هذه الدولة لمواطنيها التغطية الصحية الشاملة والتعليم الإلزامي المجاني بمنهجٍ موحدٍ على كافة أراضي البلاد كي لا يبقى الفرد متسوّلاً لدى زعيم طائفته. ويجدر بنا ذكر أن كل سياسة عامة من السياسات التي أوردناها، وعلى الرغم من تكلفتها المتواضعة (حوالي مليار دولار سنوياً)، قوبلت بمعارضة شديدة من جميع الأحزاب السياسية، من حزب الله إلى القوات اللبنانية.
هذه هي السياسات التي تضع مجتمعنا على سكة بناء الدولة والتخلص التدريجي من الطوائف والاصطفافات الهوياتية. بطبيعة الحال، طرحٌ من هذا النوع، على عكس طرح بناء دولة مسيحية، هو ما يضمن عدم عودتنا إلى الحرب وطروحاتها.
لا مثيل للحظة التي نعيشها من حيث احتمال نجاح إرساء أول دولة مدنية في شرقٍ أصبح ممزقاً بالهويات والمشاريع الدينية والقواعد العسكرية. على صعوبته، هذا الطريق الوحيد. والطريق متاح.