مؤثّر جدًا، متين البناء، فيلم كارول منصور الوثائقي (أو التسجيليّ طالما أنّه يسجّل الزمن على طريقة تاركوفسكي) الذي منحته عنوان “حالة عشق” (ِA state of Passion) ويوثّق لتجربة الجراح الفلسطيني غسان أبو ستة في غزة خلال الأشهر الأولى من الإبادة الإسرائيلية لشعب القطاع المحاصر، المذبوح والممزّق أشلاء بالغارات الوحشيّة، وكان الدكتور أبو ستة يفعل المستحيل، وسط جحيم الموت، لإنقاذ بعض المصابين الذي كانوا يفدون بأعداد ضخمة على مدار الساعة، ليلًا ونهارًا، إلى مستشفى الشفاء حيث كان يجري العمليات الجراحية الصعبة لذوي الإصابات البالغة أو المعرّضة أطرافهم للبتر، ومن دون بنج أحيانًا بسبب شحّ المواد الطبية وعدد المصابين الهائل.

إذْ شاءت صانعة الفيلم كارول منصور، بالإشتراك مع زميلتها منى خالدي، إسباغ صفة البطولة على الدكتور أبو ستة وتضمين العنوان الأول المقترح مفردة “البطل” فوجئت بمن يدور حوله الفيلم رافضًا صفة “البطل” وقائلًا: لست كاوبوي لأكون بطلًا. ومن هذا الرفض ولد العنوان الأفضل والأكثر تعبيرًا، “حالة عشق”، منطويًا على أكثر من معنى ودلالة، فالعشق هنا هو عشق غزة وأهلها، وعشق فلسطين عمومًا، وعشق المهنة ورسالتها الإنسانية، وعشق إنقاذ المتألمين، وعشق الوطن السليب الذي ينتمي الطبيب الجرّاح إليه رغم أنه لم يولد فيه، بل في الكويت، ولم يتعلّم فيه بل في أميركية بيروت حيث عاش عقدًا من السنين، ولم يُقم فيه لأنّه هاجر منذ سنين طويلة إلى بريطانيا حيث يعمل في مجاله الجراحيّ ويعيش مع عائلته. ورغم كثرة الهجرات والمنافي، ظلّ غسان أبو ستة فلسطينيّ الروح والثقافة والانتماء، ولم يتخلّ عن فلسطين وأهلها في أي محطة من حياته، فقبل مأساة غزة الراهنة قدم إلى فلسطين للمساعدة الطبية خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وشهد على مذابح غزة المتوالية في الأعوام 2009 و2012 و2014 و2019 وصولًا إلى 2023، مساهمًا في تضميد الجروح وإنقاذ المصابين بالمئات، وصولًا في المذبحة الأخيرة إلى إجراء ستّ عمليات جراحية في ليلة واحدة، بينها لطفل عمره ثلاث سنوات. يروي الكثير فنُذهل ونتألّم فيما يغصّ هو بالكلمات وتدمع عيناه أمام الكاميرا أكثر من مرة.

 

كارول منصور ومنى خالدي في مهرجان القاهرة عند فوزهما بجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن “حالة عشق” لأفضل فيلم وثائقي طويل

حتمًا كان يجب أن يولد هذا الفيلم، ليسجّل الزمن ويقدّم الشهادة الحيّة ويوثّق للمأساة. تجربة الدكتور غسان أبو ستة تحتاج إلى حفظ، وإلى شهادة شاهد من أهله على المذبحة الإبادية التي قلّما شهد التاريخ بمثل وحشيتها وهمجيتها، خاصة ما ارتكب فيها من فظائع شديدة الإيلام بحقّ الأطفال، وهي على الأرجح أكبر المجازر الإبادية للأطفال في التاريخ. الجرّاح القادم طوعًا لتضميد جروح مصابي غزة يروي في الشريط ما يدمي القلب، من مثل أنّه كان يضطرّ أحيانًا إلى “المفاضلة” بين مصاب وآخر لاستحالة إتمام جراحة لمصابَيْن في وقت واحد، فيترك أحدهما، أي الأقلّ احتمالَ نجاة، أن يُستشهد، لإتمام الجراحة للمصاب الآخر الذي يملك حظًا أكبر بالنجاة بالنظر إلى حجم إصابته. أو يروي (ونرى في لقطات من الأرشيف المستعان به كثيرًا في الفيلم باعتدال وذكاء) كيف كان يضطرّ كجرّاح إلى بتر ساق أو يد بلا استخدام للبنج غير المتوافر، مع ما يعني ذلك من آلام لا تحتمل يكابدها المصاب الخاضع لعملية البتر. يروي أبو ستة الكثير عن تجربته القاسية والمريرة هذه فنحيا معه من جديد تفاصيل تلك التجربة ولحظاتها المأساوية، وسط الجحيم المستمرّ الذي لم تخمد نيرانه يومًا واحدًا وحتى الساعة.

“الفيلم وثيقة مصوّرة لا تمحى، شهادة حيّة على واقع ومأساة، رسالة سينمائية سوف تشق طريقها إلى شاشات العالم ومهرجاناته وصحافته ونقده وإعلامه، وسوف يكون أثرها وتأثيرها عظيمين في هزّ بعض الضمائر الغافية”

هذا بعض ما في الجانب المؤثّر من الشريط، أمّا بناء الفيلم (build up) فقمّة في البراعة والإتقان لكونه فسيفسائيًا يكتمل قطعةً قطعة، وبخطوط متوازية ومتداخلة في آنٍ معًا، تُكمل ملامح البورتريه ومكوّناته، فنتعرّف على نحو متقطّع ومتوازٍ ومتحرّك في الزمن من الوراء إلى الآني، وبالعكس، إلى عائلة غسان أبو ستة ونشأته طفلًا مميّز الذكاء والحركة بين أب طبيب أطفال (لم يرق له الاختصاص الذي اختاره ابنه أي الجراحة التجميلية، مطلقًا عليها نعتًا حادًا انفجرت له الصالة ضحكًا) وأمّ تقدّم في الفيلم شهادتها وذكرياتها عن ابنها الذي لم تُخْفِ انحيازها العاطفي إليه ولدًا بكرًا ألمعيًّا منذ الصغر، كما لم تكتم خوفها عليه كلّما سافر إلى فلسطين لنجدة شعبه ومساعدته. ويقفز بنا الشريط من ذكريات العائلة إلى جهنّم الإبادة في غزة حيث يروي، في ما يروي، كيف جاءه أبٌ يرجوه إنقاذ ابنته الوحيدة الباقية من عائلته، وكيف كانت الأطراف المبتورة للمصابين توضع في صناديق بأسماء أصحابها ليتمّ دفنها، وكيف كان يشتهي ساعة نوم للراحة، وكيف يُفقد الطعام فيأكل البزر ويصاب بأذى بالغ في أمعائه يستدعي إجراء جراحة سريعة في مصارينه على يد زميل له، وكيف ابتكر مطهّرات للجرح من خلّ وسائل للتنظيف بسبب فقدان المطهّرات الطبية، وكيف اضطرّ مرارًا إلى القيام بعمليات جراحية بلا بنج، إلى ما هنالك من مآسٍ وأوضاع فائقة القسوة شاهدناها طوال أشهر، ولا نزال، في نقل مباشر على الشاشات.

مادة الفيلم غزيرة ومتعدّدة، مصوّرة خصيصًا للفيلم، أو مستعادة من الأرشيف، من قلب فاجعة غزة أو ممّا تلاها من شهادات للدكتور أبو ستة أو لقاءات مباشرة معه (أبرزها في مسرح المدينة في بيروت حيث كان اللقاء الذي أداره الزميل صقر أبو فخر مع الطبيب العائد، “البطل رغمًا عنه” لو استعرنا عنوان “المريض رغمًا عنه” لموليير، بحضور حشد كبير من قادريه ومحبيه)، إلى آرائه في العنف الإسرائيلي الذي يصفه بالقتل المتسلسل، ساخرًا من “تروما” الجندي الصهيوني “المضطرّ إلى قتل الأطفال”، فيا لعذاب “الاضطرار”! ومن مواد الفيلم أشرطة Home movie عائلية، خاصة بزوجة أبو ستة ، ديما، وعائلتها ومنزلهم الجميل في غزة قبل تدميره في الحرب الراهنة. غزة هي جوهر فلسطينْ، روحها، وهي في يقين ديما ستبنى من جديد، والنهاية التي يتمنّاها غسان أبو ستة للفيلم، إذ تسأله كارول منصور عنها هي أن يقف عند معبر رفح استعدادًا لدخول غزة ثانيةً نجدةً لأهلها.

 

غسان أبوستة وزوجته ديما

محورٌ آخر في هذا الشريط الآسر، ولمدة ساعة ونصف ساعة لا ينزاح بصرنا ثانيةً عن محتوياته، يتعلّق بعائلة الدكتور أبو ستة، زوجته ديما، ابنة غزة، حيث يمكث والدها المحاصر في القطاع حتى الآن رافضًا مغادرة بيته وأرضه. وأولاده الثلاثة الذين تتوالى شهاداتهم في أبيهم. والكاميرا في هذا المحور الحميم والخاص تقتحم منزل العائلة في لندن، وتدخلنا إلى تفاصيل حياتها وعلاقاتها البينية، بين غسان وديما وهما على حبّ وتفاهم دائمين لتربية شبّانهما الثلاثة والاهتمام بتفاصيل حياتهم علمًا ورعايةً، فنرى الدكتور غسان معدًّا “زوادة” المدرسة لأبنائه، أو كاويًا قمصانهم، لتخفيف العبء عن زوجته الذي التقاها في غزة حيث اتحد القلبان حبًّا وعشقًا (وهذا عشق آخر لمعاني “حالة عشق”)، وتبدو لنا كارول وزميلتها منى مثل “متلصّصتين” على حياة هذه العائلة فتداهم الكاميرا أفرادها بملابس النوم ولحظة الاستيقاظ وتحضير فطور الصباح، ولعلّ ثمة مبالغة في هذا الجانب من اقتحام خصوصيات منزل وعائلة، حتى نمسي جميعًا متفرّجين متلصّصين على حياة الدكتور أبو ستة وعالمه العائليّ الحميم والخاص. قد تقول المعدّتان والمخرجتان إن “البورتريه” استلزم ذلك، وتلك حجّة تستدعي مناقشة. في النهاية، يقدّم الفيلم معلومات كثيرة، عامة وخاصة، تشبع فضول المشاهد الذي يطلب دائمًا الكثير، والفيلم يلبّي طلبه (يُعرض في صالة ” متروبوليس ” الجديدة في بيروت).

هذا الفيلم – الوثيقة يجيب عن كل شيء يخصّ الدكتور غسان أبو ستة ماضيًا وحاضرًا، نشأةً وفكرًا وانتماءً، مهنةً وحضورًا ونجاحًا، مبادئ وقيمًا وشعورًا إنسانيًا، نضالًا والتزامًا، إلى كل مسألة قد نطرحها حول هذا الإنسان الرائع الذي نحبّ راهنه مثلما نعجب بماضيه ونبوغه الباكر. وكان لا بدّ، على ما نتبيّن من نتيجة الشريط النهائية، من تصوير ساعات طويلة، لتوليف ساعة ونصف ساعة منها، بإيقاع متين، رشيق، لا يحمل إطالات أو ثرثرات أو فائضًا في الصور، سواء الجديدة أو الأرشيفية، فلا يتحوّل الاهتمام عن المقترح على الشاشة، بل يعزّز توليف الفيلم (لريمون أفتيموس وكارول منصور في المهمة التي استهلكت من جهدهما أسابيع مديدة) وجمع ما التقطته كاميرات طارق قبلاوي وجمال أعور وطلال خوري، فضلًا عن كاميرا المخرجة منصور نفسها، وما سجّله مهندس الصوت فادي موسى، وما صمّمته رنا عيد للشريط الصوتي، لنمسي أمام شريط متقن صنيعًا، أنيق، مشدود الإيقاع، كي يخدم في النهاية القضية التي صنع من أجلها، والبورتريه الخاص بالدكتور أبو ستة، وللتجربة التي أضحت مسجّلة للتاريخ، وثيقة مصوّرة لا تمحى، شهادة حيّة على واقع ومأساة، رسالة سينمائية سوف تشق طريقها إلى شاشات العالم ومهرجاناته وصحافته ونقده وإعلامه، وسوف يكون أثرها وتأثيرها عظيمين في هزّ بعض الضمائر الغافية.

* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.