لنتحدّث قليلاً عن اليوم التالي للترتيبات الانتقالية والتي تَمَثّل جزء منها في التوصل إلى هدنة بين إسرائيل و”حماس”، لا ندري إذا كانت ستدوم وتتطوّر الى تفاهمات أعمق أو إن كانت مُصممَّة لتكون سلسلة هدنات موقتة.
نعرف أنّ الجهود التي بُذلت للتوصل إلى اتفاق هدنة هذا الأسبوع كانت أميركية وعربية في الدرجة الأولى، لكنها أيضاً كانت صينية وروسية وأوروبية وإيرانية. نعرف أنّ حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه أدّى إلى اهتزاز الاعتقاد في أنّ الوضع الراهن الذي ساد قبل ذلك التاريخ حمل بذور الاستمرار به إلى ما لا نهاية، بل أنّه فرض إعادة هيكلة reconstruction منطقة الشرق الأوسط برمتها.
ما لا نعرفه ونختلف في تقويمه هو ما إذا كانت حرب غزة المرعبة في كلفتها الإنسانية ستقود إلى تسويات سياسية دائمة وخارقة بين كل أو معظم اللاعبين في الشرق الأوسط، أي الدول الخليجية العربية وإيران وإسرائيل وتركيا، وكذلك دول المشرق العربي كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين- وهذا ما يُعرف بالصفقة الكبرى التي تأتي بعد حدث ضخم تشارك الدول الكبرى بصياغتها، تقودها الولايات المتحدة وترعاها. أو أنّ هذه الحرب ستسفر عن تطرّف إسرائيلي واستقواء نوعي جديد يضرب بعرض الحائط، ليس فقط الأسرة الدولية التي يحتقرها أساساً، بل أيضاً الرغبات والمصالح الأميركية، يقابله تطرّف فلسطيني وعربي وإسلامي ردّاً على الاستقواء الإسرائيلي، فيدخل العالم برمته دوامة الانتقام الرهيب ويدفع كلفته.
هناك من يعتقد أنّ العودة إلى الوضع الراهن السابق status quo ante قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) هي المرجحة، بعدما يبدأ العالم بالزهق من حرب غزة وتخف همجيّة القصف الإسرائيلي للأطفال والمستشفيات بذريعة تدمير البنية التحتية لحركة “حماس”. أصحاب هذا الرأي يراهنون على الذاكرة الضعيفة والنسيان والتعب العالمي من متابعة الأخبار المؤلمة، وهم يعتقدون أنّ انتفاضة الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا بالذات لن تدوم، وبالتالي سيعود السياسيون إلى حساباتهم التقليدية.
لنبقى قليلاً مع هذا الرأي. قال لي أحد المشاركين الغربيين في “حوار المنامة” الذي تستضيفه البحرين وتشارك فيه نخبة من صنّاع القرار والرأي، أن لا الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية قادرة على تغيير نهجها نحو إسرائيل، بسبب الضغوط التقليدية للجاليات اليهودية ونفوذها في السياسة والاقتصاد، وبالتالي في انتخابات هذه الدول. قال إنّ الأسف على ما حدث والزعل من تصرّفات إسرائيل المحرجة للغرب سيزول تدريجياً، وما سيبقى في الأذهان هو أنّ “حماس” هي التي بدأت الحرب، وهي التي بادرت إلى قتل المدنيين واحتجازهم كرهائن، وهي التي جعلت من الأنفاق تحت المستشفيات مقرّات لقياداتها وذخيرتها.
أضاف، أنّ أي تعاطف مع شعب تحت الاحتلال في الدول الغربية لن يُترجَم إلى ضغوط جديّة على إسرائيل مهما فعلت. بل اعترف بأكثر، إذ قال إنّ حتى التحذير والتخوّف من موجة أخرى من العنف والإرهاب رداً على التخاذل الغربي لن يدفعا بأميركا وأوروبا إلى ضغط نوعي على إسرائيل، لأنّ التركيبة السياسية داخل هذه الدول وفي إطار الاتحاد الأوروبي تكبّل الأيادي وتمنع الجرأة على تلك القفزة الضرورية في التعاطي مع إسرائيل.
في مثل هذه الحالة، من المنطقي الاستنتاج أنّ إسرائيل لن ترضخ لما تُطالَب به دولياً، بما في ذلك أميركياً وأوروبياً، وفي طليعته القبول بحلّ الدولتين، عدم إعادة احتلال غزة، والتخلّي عن التهجير القسري للفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها ثم إلى سيناء في مصر.
لسان حال الكثير من الإسرائيليين اليوم، بمن فيهم مسؤولون سابقون، مثل وزير الداخلية الأسبق أيليت شكد، هو أنّ الحل لغزة هو بمغادرة 2 مليون فلسطيني بمساعدة أوروبية وأميركية “إنسانية”، عبر استقبال 20 ألفاً أو 50 ألفاً في إطار “كوتا” يُفرَض على هذه الدول. هذا التنظيف العرقي عبّر عنه أيضاً السياسي الإسرائيلي داني دانون، داعياً الأسرة الدولية إلى “مساعدة الفلسطينيين على حياة أفضل” من حياةٍ كانت “سيئة أساساً” قبل الحرب وهي “أسوأ” بعدها، وذلك بالموافقة على استقبالهم.
بكلام آخر، إنّ التهجير القسري الذي اعتمدته إسرائيل وظنّت أنّها ستنجح في تحقيقه في حرب غزة- الى أن لاقت معارضة دولية قاطعة- يتبنّاه الإسرائيليون اليوم كمبادرة “إنسانية” نحو الفلسطينيين، بكل وقاحة وبكل ثقة بأنّهم سينجحون به لأنّهم يفرضونه كأمر واقع. لماذا كل هذه الثقة؟ لأنّ إسرائيل اعتادت على أن تكون الطفل المدلّل، واعتادت على فرض الأمر الواقع، واعتادت على الإفلات من العقاب ومن المحاسبة.
خطورة الأمر هي ليست فقط بفظاعة تنظيف شمال غزة من أهاليها وتحويله إلى “ملعب فوتبول”، بل من العزم على الاحتفاظ به كأمر واقع آخر تفرضه إسرائيل، إذا لم تقف بوجهها الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية تحديداً الخليجية، والدول التي طبّعت مع إسرائيل بأمل التعايش السلمي في المنطقة. فمثل هذا النهج لن يأتي بالسلم بل بالعنف والتطرّف المُكلف ليس فقط لمنطقة الشرق الأوسط، وإنما للعالم.
المقاربة التي تحدّث عنها ولي العهد في البحرين ورئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة أمام كبار القادة الذين تواجدوا في “حوار المنامة” الأسبوع الماضي، كانت مقاربة جريئة ومخيفة. أشار إلى أنّ “الغزو الروسي لأفغانستان خلق القاعدة، والغزو الأميركي للعراق أمّنَ لـ”داعش” البيئة للازدهار”. قال إنّ القبول ببؤس الوضع الراهن للفلسطينيين وباستمرار النهج الإسرائيلي إنما “يخلق الظروف لانتشار أعمال العنف في كل أنحاء العالم” وسيجعل من العشرين سنة المقبلة سنوات “أصعب بكثير” مما خلّفه كل من الغزو الروسي والأميركي من “قاعدة” و”داعش” على السواء.
إذا تجاهلت الولايات المتحدة بالذات مثل هذا التحذير، وإذا أدّى الاجتياح الإسرائيلي لغزة الى بروز أنواع أخرى من القاعدة و”داعش”، لن تتحمّل إسرائيل المسؤولية وإنما ستقع المسؤولية على الولايات المتحدة الأميركية إذا لم تتخذ مواقف حازمة مع إسرائيل تحول دون مثل هذا التطوّر. وإلاّ فإنّ التهمة ستلتصق بالولايات المتحدة التي لها تاريخ بصنع الأصولية في أفغانستان وبالحرب الطائفية في العراق، باعتبار أنّ خلق القاعدة و”داعش” لم يكن من قبيل المصادفة، وإنما لغاية في نفس الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها، بغض النظر عمّا إذا كانت إدارتها جمهورية أو ديموقراطية.
حتى الآن، ليس من العدل تجاهل الجهود الأميركية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي نجحت في احتواء حرب غزة وضمان عدم توسّعها إلى لبنان ومع إيران. نجحت في كبح الشهية الإسرائيلية لتوسيع الحرب اقتناصاً لفرصة القضاء على سلاح وصواريخ “حزب الله” بمساهمة أميركية مباشرة، ولضرب المفاعل النووي الإيراني بعمليات أميركية- إسرائيلية. نجحت في ردع إيران بقرارات استراتيجية لطهران بألاّ تتورط في حرب “حماس” وإسرائيل في غزة.
آموس هوكشتاين، مبعوث الرئيس جو بايدن لشؤون الطاقة والمكلّف حالياً متابعة ملف لبنان، شارك في “حوار المنامة” وكان صريحاً وواضحاً في ردّه على سؤالي عن مصير الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية في ظلّ التعاون والتهادن الإيراني، وسط مخاوف من نية إسرائيلية لتوريط الولايات المتحدة في حرب موسّعة، وعمّا إذا كان قلقاً من نجاح إسرائيل في جرّ الولايات المتحدة الى التورط.
قال: “في هذه اللحظة الآن، لا يسعنا تحمّل تصعيد هذا النزاع الى جبهة أخرى”، وأنّ الأهم اليوم هو “ضمان عدم انسحاب حرب غزة على لبنان. فالشعب اللبناني ليس في حاجة للمجازفة بالدخول في حرب. الشعب الإسرائيلي يعيش في أمان على حدوده مع لبنان، والشعب اللبناني له الحق بالعيش بسلام ضمن حدوده مع إسرائيل”. أضاف، أنّ من الضروري الاستمرار في “احتواء العنف” لأنّ التصعيد “ليس في مصلحة أحد”.
وضمن أهم ما أكّده آموس هو “أننا لن نُجرّ إلى حرب في أي مكان”، وأنّ ضمان أمن الطرفين “لا يتطلّب حرباً”. قال أيضاً إنّ هذه قد تكون اللحظة المناسبة “للتفكير برؤية للمنطقة خالية من النزاع- أقلّه بنزاعات أقل كما نأمل”.
التعاون والتنسيق الأميركي مع الدول الخليجية في شتى المجالات له مردوده المباشر وله تأثيره على “الرؤية” التي يتمّ التفكير بها للشرق الأوسط، لأنّ هذه قد تكون “اللحظة المناسبة” بعد الحدث الكبير. كل دول مجلس التعاون الخليجي منخرطة إما في الترتيبات الانتقالية أو في صياغة الرؤية ودراسة الخيارات المتاحة أمامها.
قطر لعبت وتلعب دوراً أساسياً وحاسماً في موضوع الرهائن لدى “حماس” وتبادل الأسرى لدى إسرائيل، وهذا مجرد جزء مما تقوم به لمساعدة الولايات المتحدة، وليس فقط ضمن جهود التوصل إلى الهدنة المهمّة بين إسرائيل و”حماس” ومساعي تمديدها. أدوار عُمان وراء الكواليس ليست أبداً أقل أهمية، وهي تدخل في خانة الحديث غير المباشر بين الولايات المتحدة وإيران لصياغة التفاهمات، فيما تلعب قطر دوراً سوياً مع عُمان نحو رفع العقوبات الأميركية عن إيران وفك الحجز عن أموال إيرانية بالمليارات من الدولارات، ما ساهم بالتأكيد في التهدئة والتهادنية الإيرانية.
الإمارات كانت السبّاقة الى التطبيع مع إسرائيل- ومعها البحرين وتبعهما المغرب والسودان. كلاهما يلعب أدواراً مهمّة وراء الكواليس لإبلاغ إسرائيل انّ استمرارها في نهجها يهدّد التطبيع معها، والذي تعتبره الإمارات إنجازاً استثنائياً لها وللمنطقة العربية ولإسرائيل. الإمارات تعتقد أنّ التسرّع في سحب السفراء أو التراجع عن التطبيع إجراءات انفعالية، وأنّ من الأفضل استخدام التطبيع كأداة نفوذ وتأثير وضغط على إسرائيل لتُصلح مسارها.
السعودية تقود خليجياً وعربياً وإسلامياً في مسيرة إعطاء إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وأوروبا فرصة لتعديل كامل النهج الإسرائيلي وليس فقط لوقف حربها على غزة. فهي تعمل وراء الكواليس على أساس المعادلة التالية: أن تضمن الولايات المتحدة وأوروبا إقناع إسرائيل بالنهج الذي يلاقي الإجماع الدولي حوله- أي حل الدولتين، وغزة تحت سلطة فلسطينية وليس تحت سلطة “حماس”، وقف التهجير القسري، والإقرار بحق إسرائيل بالعيش في أمان واستقرار والاعتراف بها والتطبيع معها عربياً وإسلامياً. هذا يتطلّب قفزة نوعية في نهج وسياسة وفكر الإسرائيليين.
السعودية تعمل مع مصر والأردن وفلسطين وأندونيسيا ومنظمة التعاون الإسلامي في إطار اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمّة العربية الإسلامية التي يترأسها وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، والتي باتت آلية مهمّة للتواصل ولإيصال المواقف العربية والإسلامية إلى الدول الكبرى.
أولى محطات اللجنة كانت الصين ثم روسيا تلتها بريطانيا وفرنسا في الطريق إلى أهم محطة وهي الولايات المتحدة. فهناك ستكون عملية صياغة الرؤية وعناصر التسوية ونوعية المكافأة لإسرائيل، إذا تمكّنت من أن تستيقظ إلى مصالحها. وإذا تمكنت الولايات المتحدة من ضمان إسرائيل، فإنّ اللجنة الوزارية، وبالذات السعودية، ستتكفّل بضمان الجانب الفلسطيني الذي هو اليوم في أشدّ الحاجة إلى قيادة شابة ومعتدلة وبراغماتية.
معالم خريطة اليوم التالي ما زالت قيد القرار الإسرائيلي بالدرجة الأولى، لأنّ التعنّت بالنهج الحالي سيدمّر كل الطموحات بمستقبل آمن لإسرائيل وللشرق الأوسط وللعالم. إنّ مصلحة إسرائيل تقتضي جرأة أميركية وأوروبية بضغط نوعي عليها- فأمامها فرصة سيكون من الغباء عدم استغلالها.