في سياق هذا القلق حينها، زار زعيم عراقي معارض معمّم معروف آية الله الخميني في مقره في شمران بطهران لمعرفة حقيقة الموقف الإيراني بهذا الصدد. في ندوة سياسية حينها بخصوص الحرب نظمها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، المظلة الجامعة للأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية، ألقى الرجل كلمة ذكر فيها لقاءه بالخميني وأشارَ إلى أن الأخير طمأنه إلى أن الحرب ستستمر حتى تحقيق الانتصار العسكري على نظام صدام ونهايته. علا التكبير بين الجمهور فرحاً بما سمعوه. بحسب رواية شاهد عيان كان حاضراً في هذه الندوة، غادرَ السياسي المعمم المكان فجأة بعدما همس أحد مساعديه شيئاً في إذنه كان يبدو مدعاةً للقلق. تغيرت وجوه الحاضرين في الندوة من الفرح الى العبوس عندما ظهر لهم أنّ الرجلَ تلقى خبر إعلان إيران رسمياً موافقتها على انهاء الحرب الذي صادفت اذاعته في أثناء وقت الندوة نفسها.
على الجانب الآخر، كان المشهد مختلفاً تماماً في بغداد. في بداية مساء يوم الاثنين، 8 آب (أغسطس) 1988، بث التلفزيوني العراقي بياناً رسمياً، سمّاه في ما بعد “بيان البيانات” (كما أطلق على اليوم نفسه تسمية “يوم الأيام”) على العادة البعثية السائدة وقتها بالمبالغة في تقدير قيمة الأشياء ومنحها بعداً استثنائياً “وطنياً” عابراً للزمان والمكان، أعلن فيه توصل العراق وايران إلى وقف اطلاق نار رسمي. أشار البيان العراقي هذا إلى إقرار الحكومة ثلاثة أيام عطلةً رسمية احتفالاً بالمناسبة. ساد العراق بعد اذاعة هذا البيان فرح شعبي هائل وغير مسبوق وعفوي. خرج الناس في الشوارع في العاصمة بغداد يحتفون بنهاية الحرب ووضع حد لآلامها المفتوحة والطويلة.
بين وجوم العراقيين في طهران وفرحهم في بغداد يكمن الكثير من الاختلاف في معنى هذه الحرب.
لم يرتبط الفرح في بغداد بحس ما بالوطنية، وإنما بالإنقاذ من ماكينة موت جائعة تلتهم أجساد الشباب وأحلامهم وتحطم العوائل، كانت تتسع في ضخامتها وشهيتها مع تزايد إصرار إيران على مواصلة الحرب واتساع هجماتها فيها وتَحسن قدراتها القتالية وصولاً إلى احتلالها أراضيَ عراقية. من الصعب المحاججة أن هذه الحرب في جانبها العراقي، سواء في مرحلتها الهجومية في العامين الأول والثاني منها، أو في مرحلتها الدفاعية في السنوات الست الأخيرة منها الأشد صعوبة وكلفةً، كانت محفَّزةً بروح وطنية عراقية تديم الجبهات وتدعم المقاتلين. فالمجتمع في العراق لم يكن جزءاً من اتخاذ قرار الحرب ولا في كيفية إدارتها وتصحيح أخطائها أو التعاطي مع صعوباتها وآلامها. لم يستشره أحد في كل هذه القرارات المصيرية التي كان عليه أن يدفع أثمانها العالية صامتاً طائعاً، في إطار تضحيات قسرية أملتها إرادات فوقية لنظام شمولي اتخذ لوحده، بمعزل عن المجتمع وبدون التشاور معه، قرارات الحياة والموت والمصير الشخصية والعامة.
في أجواء الشمولية هذه حيث تسود علاقة هرمية صارمة وقاسية بين السلطة والمجتمع، لا مكان لشيء اسمه الوطنية. فالوطنية مرتبطة بالحرية، أي وجود حيز للمجتمع يستطيع عبره أن يفكر ويتفاعل مع بعضه الآخر ويكتشف مشتركاته واختلافاته وإمكاناته وآفاقه. عَطّلت السلطة الشمولية هذه الصيرورة الضرورية لإنتاج وطنية محلية صحية، وفرضت على المجتمع بدلاً من ذلك، بالقوة والتخويف والرشاوى والترويج، نسختها القومية الشديدة الضيق والتعسف بثنائياتها الخانقة بين “الأعداء” و”الأصدقاء” و”العملاء” و”الوطنيين” إلخ إلخ… تميزت هذه النسخة بالكثير من النزوع المؤامراتي والروح العسكريتاريا وبراعة ابتكار الخصوم وإعادة تعريف الأشياء، التواريخ والأحداث والشخصيات، بحسب حاجة النظام الحاكم. مَثّلت نهاية الحرب العراقية – الإيرانية للمجتمع نهايةَ كابوس عميق ودموي عاشه بالكثير من الصبر والألم والترقب، لكنها مثّلت للسلطة انتصاراً عظيماً وفخراً دائماً وسبيلاً يقود إلى المزيد من الانتصارات والمجد.
لكن الوطنية أيضاً تقوم على الكثير من التخييل وإعادة التعريف بحسب حاجة المجتمع. لهذا السبب، في السنوات الأخيرة، برزت في البلد اعادة استذكار شعبية ونخبوية لهذه الحرب بوصفها دليلاً على الوطنية العراقية التي ألهمت العراقيين الشجاعة اللازمة لدحر إيران الإسلامية. يأتي حس الفخر الوطني هذا كرد فعل على تصاعد النفوذ الإيراني في البلد بعد 2003 وفشل النخب السياسية الحاكمة، الإسلامية الشيعية تحديداً، في إدارة البلد وفي وقف هذا النفوذ، بل تواطئها معه. يكمن في مثل إعادة التعريف هذه وابتكار وطنية يصعب إثباتها تأريخياً شيء من عزاء نفسي ضروري، لكن أيضاً تحشيد حسي مفيد في مواجهة مقبلة ضد قوى السلطة، يعتبرها معارضوها فاقدةً للوطنية، وضد حلفائها الإيرانيين، المستفيدين من فقدان الوطنية هذا!
على الجانب الآخر حيث حَزن العراقيون الإسلاميون الشيعة بسبب نهاية الحرب وضياع فرصة الإطاحة بنظام صدام، لم تكن الوطنية العراقية، حتى بنسخة إسلامية شيعية أو غيرها، حاضرةً. لم تطور أحزاب الإسلام السياسي الشيعي حسّاً بالوطنية العراقية، بل كانت دائماً تدور في فلك ايديولوجي إسلاموي ثوري ومذهبي غير واضح المعالم. كان العراق الذي يظهر في كتابات الإسلاميين الشيعة العراقيين وإعلاناتهم خاصاً ومنتقى بعناية بعيداً عن عراق الناس والوقائع اليومية والتاريخية. كان عراقاً جامداً ومحدداً في إطار ديني – مذهبي: عراق الأئمة والمراقد والمراجع والحوزة الدينية والتاريخ الشيعي والشعب المؤمن الصابر المحتسب إلخ إلخ… اختفت من هذا العراق الإسلاموي الشيعي تفاصيل كثيرة تتعلق بالتنوع والاختلاف والتعايش فضلاً عن الكثير الذي يقع خارج إطار الإيمان الديني التقليدي وتمظهراته الفقهية وخارج مواجهة النظام الشمولي حينها (الغناء، الموسيقى، الشعر، الأدب، التقاليد الاجتماعية المختلفة، التاريخ الغني السابق للإسلام، التنوع الجغرافي والثقافي فيه…). حتى كلمات مثل الوطن والوطنية كانت مثار ارتياب إسلامي شيعي تقليدي لأن هذه الكلمات لم تأتِ من المنظومة الإيمانية والفقهية، إذ كان ينظر إليها بوصفها علمانية واغترابية أنتجها غربٌ معاد لـ”أصالتنا الإسلامية” بقصد تفريقنا وبث النزاعات بيننا. كان الفقر الثقافي في معنى هذا العراق الذي اقترحته هذه الأحزاب خانقاً، ولا يزال.
لكن هذه الأحزاب عالية البراغماتية في ما يتعلق بمصالحها. اندرجت، بصور مختلفة كثيرة، مباشرة وغير مباشرة، في السعي الأميركي لإطاحة نظام صدام حسين واستفادت منه كثيراً في ما بعد حتى وصلت إلى سدة السلطة وتمسكت بها. البراغماتية ليست عيباً، لكن المهم ألا تكون انتقائية وانتهازية الطابع.
لم تراجع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي العراقي موقفها من الحرب العراقية – الايرانية وسلوكها في أثنائها، ولم تثر، حتى بعد توليها الحكم في العراق، موضوع الوطنية العراقية وما الذي يعنيه العراق لها بالضبط خارج النطاق الديني المذهبي وخارج سيطرتها على مقاليد الحكم ومصادر الثروة فيه. تسبب هذا الفشل في المراجعة ومواجهة الذات بالكثير من الخسائر لهذه الأحزاب، إذ هي ربحت السلطة وخسرت المجتمع. ستزداد خسائرها المستقبلية إذا ظلت على رفضها الحالي إجراء مراجعة صريحة وعميقة وصادقة. البراغماتية الحقيقية، وليس فقط المبدئية المخلصة، هي التي تدعو إلى مثل هذه المراجعة التي تأخرت طويلاً، وربما لن تأتي أبداً.