رحيل كاتب “الخراب الجميل” الذي تعلم أن يكون واقعيا بمعنى عملي من أجل أن يكون كاتبا محترفا.

أكثر الكتاب حزنا
خلف نموذج للكاتب الذي عرف كيف ينجو بالجمال من المحرقة من غير أن يتوكأ على عصا الجنون الجماعي.

برحيله قبل أيام يكون القاص والروائي العراقي أحمد خلف قد أسدل الستار على واحدة من أهم تجارب الكتابة المتمردة في العالم العربي. هنا شيء عن سيرته في الحياة
والكتابة.

عام 1969 نشر أحمد خلف قصته القصيرة “خوذة لرجل نصف ميت” فكانت نبوءة بولادة كاتب قصصي من طراز خاص على المستوى العربي.

المسافر في متاهته
بوكس

لقد وضعت تلك القصة المدهشة كاتبها في مقدمة كتاب القصة القصيرة العرب بعد أن أشاد بها كتاب كبار مثل محمد دكروب وسامي خشبة وحسين مروة وغسان كنفاني.

الأهم من ذلك ما انطوى عليه ظهور ذلك القاص من تحول في بنية القصة القصيرة في العراق باعتبارها فنا جماليا رفيعا لا يقف عند حدود الحكاية، بل يتخطاها إلى ما صار يُسمى بـ”متعة القراءة”.

لقد بذل خلف جهدا كبيرا من أجل تطوير أدواته القصصية. كانت لغته دائما ناصعة، متوترة، مشدودة وقصيرة الجمل. لذلك كانت نصوصه على قدر هائل من التماسك المحكوم بخيط المعالجة الأسلوبية.

في مختبر التجريب القصصي كان أحمد خلف رائدا. منذ قصته المنشورة الأولى كان خلف صاحب أسلوب متميز.

على المستوى الفكري كان يعتبر واحدا من أبناء ستينات القرن العشرين، وجودي النزعة بفكر اجتماعي ذي ميول يسارية. غير أن ذلك كله لم يربك مسعاه في اتجاه كتابة قصة قصيرة ذات منحى فني خالص. لقد تمكن منه الجمال منذ البدء فتعلق بفنونه البصرية والسمعية، فكان ذلك مصدر شغفه بالموسيقى والسينما والشعر والرسم وهو ما دعاه إلى أن يجعل منها مصادر إلهام في أعماله القصصية.

أما حين تحول إلى الرواية فإنه فتح الباب على “الخراب الجميل”، روايته الأولى التي أثارت عاصفة من التساؤلات لا لشيء إلا بسبب عنوانها الشاعري الذي لا يمت بصلة إلى الواقع المضني الذي صورته ونقلت تفاصيله بطريقة مخادعة.

ما من خراب جميل إلا إذا نظرنا إليه بعين عدمية. كان خلف ممثل جيل ذهب إلى عدميته باستغراق ولذة. وكما يبدو فإنه تعلم أن يكون واقعيا بمعنى عملي من أجل أن يكون كاتبا محترفا. لقد أسرته الكتابة بقوة تأثيرها فلم يمض وراء أوهام سرابها.

لم يكن يكتب ليمارس دور الحكيم بل كان في جل أعماله يعترف بأنه رجل تنقصه الحكمة. رجل مرتبك يمارس فعلا في غير محله. هناك متاهة اسمها الكتابة وجد خلف نفسه ضائعا بين دروبها. ولم تكن حكاياته إلا مجموعة اللقى التي صار يعثر عليها في تلك الرحلة. كان على المسافر التائه أن يتسلى بما يسمع وبما يردد من حكايات.

في مرآة الكاتب
ولد أحمد خلف شطب الجبوري في الشنافية (إحدى نواحي محافظة القادسية) عام 1943. نشر عام 1966 أولى قصصه القصيرة “وثيقة صمت” في ملحق صحيفة الجمهورية ببغداد. ما بين عامي 1978 و1985 عمل مشرفا على الأقسام الثقافية في مؤسسة الأذاعة والتفزيون، ومن ثم انتقل للعمل في مجل الأقلام الأدبية.

أصدر خلف كتابه القصصي “نزهة في شوارع مهجورة” عام 1974. بعده أصدر الكتب القصصية التالية: “القادم البعيد” 1984، “منزل العرائس” 1986، “صراخ في علبة” 1990، “خريف البلدة” 1993، “في ظلال المشكينو” 1996، “تيمور الحزين” 2000، “مطر في آخر الليل” 2001.

صدرت روايته الأولى “الخراب الجميل” عام 1980، تبعتها الروايات التالية: “موت الأب” 2002، “حامل الهوى” 2005، “الحلم العظيم” 2009، “الذئاب على الأبواب” 2018، “محنة فينوس” 2007، “عصا الجنون” و”عن الأولين والآخرين”، وعام 2012 صدر له كتاب “الرواق الطويل”.

حين سُئل أحمد خلف عن أقرب رواياته إلى نفسه قال إنها “الحلم العظيم” وعلل ذلك بقوله “لأنها احتوت على الهم الذاتي والهموم الجماعية.”

بوكس

تلك الرواية تنطوي على تجربة مختلفة في الكتابة بالنسبة للكاتب. ذلك لأنه يمكن تصنيفها باعتبارها نوعا من السيرة الروائية أو السيرة ــ الرواية. فهي أشبه بالمختبر الذي امتزجت من خلاله وقائع الحياة الشخصية المباشرة بوقائع متخيلة، ابتكرها الكاتب من أجل إبعاد شبهة لسيرة عن كتابه.

وليس من باب التكهن القول إن الكاتب قد استلهم في رواياته الأخرى الكثير من وقائع حياته، بل إن عددا من شخصيات تلك الروايات كانت أشبه بصوره التي تظهر في المرآة.

لقد عنى خلف بشخصيته المستقلة بطريقة فذة وسط بحر متلاطم من الصراعات الحزبية التي احتضنها العراق وصنعت منه نموذجا متقدما للقسوة والعنف والنظر إلى الشخص المستقل بأفكاره باعتباره عدوا، فكيف إذا كان ذلك الشخص روائيا؟

لذلك فإن قراءة روايات أحمد خلف وقصصه ضرورية، فهي إضافة إلى شحنة الجمال الفني الهائلة التي تنطوي عليها فإنها تنقل الطريقة التي كان الشاهد الحزين ينظر من خلالها إلى ما يُحيط به من أحداث اتسم معظمها بطابع مأساوي.

سيكون عليه دائما أن يلوّح بخوذة رجل نصف ميت.

يقول أحمد خلف في تفسير النصف السلبي من عناوين كتبه “لولا وجود ما يُسمى بالجانب السلبي لا يمكن لنا الاستدلال على ما هو إيجابي في حياتنا، لأنهما يتعايشان معا في مجال واحد من الدوران حول بعضهما البعض، يتجاذبان ويتناظران في الوقت نفسه. أي أنهما يكملان بعضهما البعض في مساحة متباينة تارة ومتساوية تارة أخرى. وقيام السلبي والإيجابي في انطلاقة واحدة هو دليل قاطع على وجود الحياة. إذ ما يميز وجود الأبيض هو وجود ملموس للأسود.”

ويمضي الكاتب في تفحص المسافة الضرورية بين الخير والشر، النور والظلام من غير أن يقترب من ثنائية اليأس والأمل. لا لشيء إلا لأنه لا يرغب في أن يظهر على حقيقته باعتباره كائنا حزينا.

أحمد خلف هو من أكثر الكتاب حزنا. إنه أشبه بالأمير الصغير الذي كلما أشرقت الشمس على كوكبه الصغير يزداد حزنا. لم يعرف عبر سيرته في الكتابة وهو الذي تعامل مع نفسه بنزاهة خارقة سوى ذلك الخراب الذي اعتبره جميلا نكاية بمَن صنعوه ومَن احتفوا به.

إنه نموذج للكاتب الذي عرف كيف ينجو بالجمال من المحرقة من غير أن يتوكأ على عصا الجنون الجماعي. فلم يكن همه أن يلاحق مَن أخطأ بل انصب جهده كله على المجاهرة بالحقيقة. هل علينا اليوم أن نفكر بخسائره الكثيرة؟

لقد فات الأوان
يقال إنه تعرف على الشاعر مظفر النواب عام 1961 الذي تنبأ بموهبته. تلك واحدة من الحكايات التي لا أعتقد أن خلف يعول عليها كثيرا.

كانت المسافة التي تفصله عن الآخرين لافتة، وهي التي صنعت عزلة الكاتب المنتج. تلك هي الحكاية الحقيقية التي أطرت حياته بخيالها.

كان أحمد خلف على الرغم من أنه كتب روايات ناجحة عديدة متحمسا لكتابة القصة القصيرة. ذلك الفن الذي شهد تراجعا على المستوى العالمي. كتاب القصة القصيرة في العالم قليليون، كما أن قراءها لا تدعو أعدادهم إلى التفاؤل. وهو ما يضع الكاتب العراقي في موقعه الحقيقي مقاوما.

أحمد خلف هو نموذج الكاتب المقاوم من أجل الجمال. قاوم العزلة في زمن القطيع. قاوم الجوع في زمن التكالب على الهبات، وأخيرا قاوم الكتابة السائدة من أجل أن يكون أكثر نزاهة مع نفسه ولتكون كتابته شبيهة به. كان نزيها في ما كتب. لذلك يمكن قراءة قصصه ورواياته باعتبارها مرآة صادقة لما عاشه العراق في الخمسين سنة الماضية. تلك هي موهبته ونبوءة حضوره.