)
تواجه الإدارة السورية الجديدة جملة من الأسئلة الخارجية والداخلية حول توجهاتها، وخريطة الطريق التي ستسير عليها خلال المدى المنظور. ورغم قصر الفترة التي مرت عليها في الحكم، فإن الحصول على أجوبة يزداد إلحاحاً. ويرى متابعون، عن كثب، للتطورات اليومية، وأداء الفريق الذي يتولى القيادة، أن نسبة الوضوح أعلى منها، حينما يتعلق الأمر بالتعاطي مع أسئلة الخارج، في حين أن الكثير من الأسئلة الداخلية لا تلقى الاهتمام ذاته، وتبدو معلقة أو مؤجلة إلى حين لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بالتأني في اتخاذ القرارات، والآخر بالبطء، وعدم وضوح الرؤية، ومحدودية تجربة الجهاز الذي يتولى إدارة الدولة، وهو يتبع إلى “حكومة الإنقاذ” التي كانت تدير محافظة إدلب، والتي عينتها “هيئة تحرير الشام” في عام 2017. هناك من يفسر سرعة التفاعل مع أسئلة الخارج بأنه يعود إلى عدة أسباب، تتعلق بالضغوط الدولية التي لا تنتظر، وهو ما عبرت عنه زيارات الوفود الأجنبية من الولايات المتحدة وأوروبا، التي لم تمنح الإدارة السورية الجديدة مهلة أكثر من عدة أيام بعد وصولها إلى دمشق، حتى قصدت العاصمة السورية، حاملة أسئلة من حول قضايا معقدة، تتعلق بأمن المنطقة وعلاقات سورية الدولية، وشكل الحكم. واللافت هو أن جميع المسؤولين الأجانب الذين زاروا سورية تحدثوا مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن المواضيع ذاتها مع تفاوت نسبي باللهجة، وكلهم أرادوا سماع تصورات عن حلول لبعض المسائل المعقدة، وبعضها يرجع إلى تاريخ وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963.
تدرك الدول الغربية حاجة الإدارة السورية الجديدة إلى اعتراف دولي
الإدارة السورية الجديدة والحاجة لاعتراف دولي
ويتمثل الأمر الثاني في إدراك الدول الغربية لحاجة الإدارة السورية الجديدة إلى اعتراف دولي، ويعرفون أنها تقدّر مدى أهمية هذه المسألة التي تتمثل بالشرعية، في ظل مشهد دولي واقليمي معقد من حول سورية، ساد لزمن طويل ولم ينته برحيل النظام، الذي حصل بعملية عسكرية مفاجئة أطاحت به خلال أيام معدودة. وفي خضم ذلك يمثل الحضور الروسي والإيراني في سورية أولوية ضاغطة، وبرز بوصفه أحد الشروط الغربية المطروحة لرفع العقوبات وتقديم مساعدات دولية، التي من دونها ستواجه الإدارة السورية الجديدة عقبات كثيرة في معالجة الأزمات الكثيرة التي ورثتها من النظام السابق، كما سيحد من قدرتها في تأمين الوضع الداخلي وبسط سيطرتها على كامل التراب السوري. الأمر الثالث هو أن الانفتاح على الإدارة السورية الجديدة مشروط، وهذا ما عبرت عنه الزيارات الدولية والاجتماع الدولي في مدينة العقبة الأردنية في 14 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهناك الكثير من الملفات التي تحتاج إلى حوار، وتحاول الإدارة السورية الجديدة التوفيق بين الطلبات والضغوطات والمطالب والمصالح، وهي بذلك لم تتخذ قرارات نهائية في مسائل تتعلق بالسيادة.
وفي الوقت ذاته برزت هناك مرونة وقدرة على المناورة حتى تتمكن من تقديم نفسها على نحو جيد، وترسم عن ذاتها صورة تحظى بالثقة لدى الأطراف الدولية والإقليمية، وقد كان من نتائج ذلك تواصل الزيارات الإيجابية، ومثال على ذلك زيارة وزير خاجية إيطاليا أنطونيو تاياني في 10 يناير/كانون الثاني الحالي، وانعقاد الاجتماع الموسع الذي دعت إليه الرياض حول سورية، الأحد الماضي، وحضرته 17 دولة، تمثلت بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، ولجنة الاتصال العربي مصر، لبنان، الأردن، والعراق، بالإضافة لوكيل وزير الخارجية الأميركي جون باس، ووزراء أو مسؤولين في خارجية كل من فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، وتركيا ومفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس ومندوب عن الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية.
ووجه اجتماع الرياض رسالة مهمة مفادها بأن السعودية “تتعامل بإيجابية” مع القادة الجدد في سورية، وأخذت على عاتقها التزاماً تجاه سورية، وحشد دعم عربي ودولي للإدارة الجديدة. وخلص الاجتماع إلى التشديد على الدعم الخليجي، والدعوة إلى رفع العقوبات الدولية، ويعد ذلك مؤشراً إيجابياً على قدرة الإدارة السورية الجديدة على كسب ثقة عربية ودولية بفضل تقديمها رؤية حول مستقبل سورية، وخريطة الطريق التي ستسير عليها. الأمر الرابع يختص بسرعة تحرك الإدارة السورية الجديدة داخلياً بعد أن بسطت سيطرتها إلى حد كبير على القسم الأكبر من الجغرافيا السورية، وهي تسير بهدوء إلى نزع الألغام، وليست مستعجلة لتقديم كشف حساب داخلي عن وضع معقد، يحتاج إلى الكثير من الجهد ليعطي نتائج ملموسة، وهي تراهن هنا على تحقيق إنجازات ملموسة في بعض المجالات يمكن أن تهدئ من إلحاح الرأي العام، خصوصاً بما يتعلق بالخدمات الأساسية من الكهرباء والوقود وزيادة الرواتب والتحكم بالأسعار.
وحسب تصريحات العديد من المسؤولين فإن ذلك لن يتم قبل مهلة أقلها ستة أشهر، وأقصاها سنة واحدة. رغم الوضوح يبدو المسار طويلا للعودة إلى الأوضاع الطبيعية وبناء علاقات مستقرة، فالإدارة الجديدة لا تملك صلاحيات اتخاذ قرارات ذات طبيعية استراتيجية، لأنها تحتاج إلى حكومة مستقرة، وبرلمان منتخب، كي تتخذ قرارات ذات طبيعة استراتيجية مثل مراجعة الاتفاقيات الدولية والالتزامات، التي اتخذها الحكم السابق.
الإدارة الجديدة لا تملك صلاحيات اتخاذ قرارات ذات طبيعة استراتيجية
الحراك الخارجي يقترن بالحاجة إلى حراك داخلي، وتقديم تصورات واضحة عن المرحلة الانتقالية، التي من المقرر أن تبدأ في مطلع مارس/آذار المقبل. وصار لزاماً على حكومة تصريف الأعمال الحالية أن تحدد مواعيد، حتى لو كانت تقريبية، لما يعرف بـ”المؤتمر الوطني”، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي أو الحكومة الانتقالية، وموعد البدء بوضع دستور جديد والخطوات اللازمة لذلك، وسد الشواغر الكبيرة في أجهزة الدولة خصوصاً على مستوى وزارة الخارجية، إذ لا يزال سفراء النظام السابق يديرون السفارات، مع أن العديد منهم شارك في الدفاع عن جرائم نظام الأسد، مثل السفير في موسكو بشار الجعفري، الذي سبق ذلك توليه مهمة مندوب سورية في الأمم المتحدة. وهناك شبه إجماع في أوساط المراقبين في دمشق على أن عدم تقديم إجابات داخلية واضحة يعود إلى عدة اعتبارات، الأول هو قصر الوقت الذي أنفقته الإدارة الجديدة في السلطة، وأنها، بالتالي لم تدرس الملفات كافة. وتحتاج إلى فترة من التأني لتقديم إجابات كي لا تتخذ قرارات متسرعة، تتراجع عنها كما حصل مع الموعد الذي تم تحديده لعقد المؤتمر الوطني، والعدد الكبير للحضور. وقد تم التراجع عن الموعد الذي كان مضروباً تحت ضغط الانتقادات الكثيرة، التي تم توجيهها من قبل قطاعات مختلفة، أجمعت على ضرورة التحضير الجيد، ووضع برنامج واضح كي لا يكون مهرجاناً احتفالياً.
محدودية تجربة حكومة الإنقاذ
والاعتبار الثاني يتعلق بعدم وجود جهاز دولة متكامل يتولى التخطيط للمرحلة، وسبب ذلك هو محدودية تجربة حكومة الإنقاذ، التي اكتسبتها من إدارة محافظة إدلب، وهي لا تصلح نموذجا للتطبيق على سورية ككل، ثم إنها تتعامل بحذر شديد مع الكفاءات السورية التي تقع خارجها، رغم أن أوساط سياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية ودبلوماسية، عبرت عن استعدادها لتقديم خبرتها من أجل تسيير الدولة في المرحلة الأولى ريثما يصل الوضع العام إلى حال من الاستقرار النسبي. والاعتبار الثالث هو أن حكومة تصريف الأعمال مشغولة بأولويات مختلفة عن الأسئلة المطروحة، يأتي في مقدمها ضبط الوضوع الأمني، وسحب السلاح من أيدي أنصار النظام السابق، وتأمين البلد من مخاطر ومحاولات تخريب محتملة، قد يقوم بها فلول النظام السابق بدعم من أطراف خارجية مثل إيران، التي صرحت بذلك على ألسنة العديد من كبار مسؤوليها، وبالإضافة إلى ذلك تولي الحكومة أهمية لحل جملة من المصاعب الاقتصادية، التي تتعلق بتوفير الخدمات مثل الكهرباء والماء، وتسديد مرتبات العاملين في جهاز الدولة وإيجاد موارد من أجل رفعها من مستويات دنيا. قد يكون الشكل الأمثل للإجابة عن الأسئلة، وتوضيح الكثير من النقاط هو خروج مدير الإدارة السورية الجديدة بخطاب مباشر يتوجه فيه إلى الداخل قبل الخارج، ويشرح خطوات المرحلة، وهو بذلك يحقق أكثر من هدف، أولها التواصل مع الشارع الذي ينتظر أن يسمعه مباشرة، بعد أن تابع أحاديثه الصحافية وتصريحاته. ولا يمكن لهذه المسألة أن تكون غائبة عن أحمد الشرع وفريقه الإعلامي، وربما هو يتحين الفرصة التي يتكلم فيها إلى السوريين مباشرة، ومن دون شك، فإنه يحسب جيداً بأن هذا الخطاب سيدخل التاريخ، وبالتالي لا يريده أن يمر من دون أن يضمنه ما يجعل منه وثيقة مرجعية.