درجت في لبنان أيام تحكّم حزب الله وحلفائه ونظام الأسد في تفاصيل الحياة السياسية، أي حتى أسابيع خلت، عادة سيئة من بين عادات كثيرة: فرْض هذا المحور غلبته على بقية مكونات البلد السياسية والطائفية يُسمّى توافقاً، أما التذمّر من هذا التغوُّل، مجرد التذمر منه، فإنه حتماً تهديد للسلم الأهلي وإخلال بالميثاقية وبالعيش المشترك. والميثاقية تلك اختراع لبناني وُلد بنية حسنة عام 1943 عند تأسيس البلد بتوافق إسلامي ــ مسيحي على نهائية لبنان واستقلاله بلا طلب وحدة عربية ولا تبعية للغرب. وفي زمن هيمنة النظام السوري وحزب الله، تمدّدت ترجمة الميثاقية على نحو مدمّر لفكرة الديمقراطية، ويلغي الأغلبية والأقلية لمصلحة “التوافق” بين الطوائف. بهذا المعنى، بدت الميثاقية كأنها الأم والأب، والتوافق هو الابن الذي يحمل خطايا لم تكن في موجودة في الخريطة الجينية للوالدين. والحال أن الميثاقية تعني، في السياق اللبناني الطائفي في عهد ما بعد انتهاء الحرب الأهلية (1990)، أن أي قرار “كبير” يجب أن يحظى بموافقة الطوائف الست الكبرى، وأي رئيس حكومة يجب أن يسمّيه نواب من الطوائف الست إياها، وأي حكومة يجب أن تحظى بمشاركة وزراء ينتمون إلى هذه المذاهب. هذه البدعة ليست من اختراع حزب الله، بل نبيه برّي، وقد جاهر بذلك في مايو/ أيار 2017 بعبارته الشهيرة “أنا من اخترع الميثاقية” في سياق تبريره إغلاق قاعة البرلمان أمام النواب لكي لا يتم انتخاب أي رئيس للجمهورية غير ميشال عون، الذي من أجله، وباسم الميثاقية دائماً، جرى تعطيل انتخاب رئيس سنتين وخمسة أشهر على قاعدة أن أي رئيس غير ميشال عون لن يكون ميثاقياً. ووحده القدر أنقذ البلد من رئيسٍ آخر ينتمي إلى محور حزب الله ــ نظام الأسد ــ طهران اسمُه سليمان فرنجية، والذي من أجله أيضاً أبقى حزب الله ومحوره الموقع الأول فارغاً عامين وشهرين، من دون أن يدري أحد كيف يكون سياسيّ يمثله نائبٌ واحد في البرلمان هو ابنه، رمزاً للميثاقية، ولا كيف يكون انتخاب أي شخص آخر غير سليمان فرنجية تحدّياً لحزب الله وتهميشاً للطائفة الشيعية. وفي زمن ميثاقية حزب الله وحركة أمل، أصبح تمثيل الطائفة الشيعية واجباً بنسبة الثلث الذي يسمّونه معطلاً وإلا فلا يكون تمثيلاً. ثنائي الميثاقية أسقط حكومة فؤاد السنيورة بعدما أخرج وزراؤه الستة منها رداً على تأسيس المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري. كذلك باسمها أسقط حكومة سعد الحريري عام 2011، وبعنوان هذه الأكذوبة حصل الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية عام 2009 ففاز فيها نواب تحالف 14 آذار، ولكن الحكم كان لحزب الله ولحلفائه.
في استذكار تلك المحطات طيٌّ لصفحة امتدت عقوداً من تجبّر حزب الله على البلد وناسه ومؤسساته ودستوره وقوانينه وعلاقاته الخارجية وسلمه واقتصاده وحريات مواطنيه بالسلاح حيناً وبفذلكات لا دستورية ولا قانونية أحياناً. في استذكارها دفنٌ لمرحلة وتدشين لأخرى عنوانها خسارة حزب الله ومحوره أهم استحقاقين سياسيين في غضون أربعة أيام: خسارة مرشح المحور لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية لمصلحة جوزاف عون في التاسع من يناير/كانون الثاني الحالي، وخسارة رئيس حكومة المحور ومرشحه لتأليف الوزارة المقبلة نجيب ميقاتي لفائدة نواف سلام أول من أمس الاثنين. خسارتان شَهَر حزب الله سيف الميثاقية لتفاديهما فبدا كم أن الظروف تغيرت بعد خسارته الحرب ضد إسرائيل وفي سورية، وكم أن الصراخ لم يعد يجرح إلا حنجرة صاحبه.
السياسة خسارة وربح، كذلك هي الحروب. اعتاد حزب الله أن يحتال على المعنى وأن يصوّر خسائره مع إسرائيل انتصارات، وأن يهدّد بأن أي تفكير في إنزال خسارة سياسية بحقه فيه مخاطرة بتفجير حرب أهلية. آن الأوان لكي يعود المعنى إلى الكلام، وأن يعترف حزب الله بخسائره، فلا فزّاعة الميثاقية قادرة على قلب هذه الحقيقة، ولا ظروفه تخوّله على الأرجح الضغط على الزناد.