عندما نزل السوريون إلى الشوارع والساحات في مارس/ آذار 2011، نزلوا تحت دوافع مختلفة ومشاعر مغايرة عمّا كانوا عليه عندما كان النظام يزجّهم في مسيرات، بالإكراه، من أجل تمجيده. فارق كبير بين الحالتين، نزولهم في انتفاضة الثورة في شهورها الأولى كان تأكيداً منهم على أحقيّتهم في ملكية المكان المغتصب من سلطةٍ غير شرعية، وهي تعرف لاشرعيّتها، فتمعن في قمع الشعب وإبقاء سيف السلطة فوق رؤوسهم كي يمنعهم الخوف من التمرّد عليه ورفضه، فكانت ردّة فعل تلك السلطة الغاشمة استخدام العنف بأبشع أشكاله، واستباحة المكان بآلياتها الحربية وجنودها وأسلحتها والحواجز الأمنية التي قطعت الأحياء وعزلتها عن بعضها بعضاً، واختطفت أفراداً كثيرين بواسطتها فغيّبتهم عن أمكنتهم بكل تجلياتها.
يتكرّر اليوم مشهد النزول إلى الشوارع والساحات، ومعها ممارساتٌ كثيرة تتخلّق في هذه الحالة العامرة بفيضٍ من المشاعر، مشاعر الفرح والتحرّر والاحتفال بسقوط نظام استباح البلاد كلها، فعدا الزحف في الأيام الأولى التي تلت سقوطه، وقد تلاقى فيها السوريون من كل مكونات المجتمع وبشكل عفوي وعبّروا عن فرحهم العظيم، ظهرت أنماطٌ من السلوك تحمل أبعاداً رمزية تعيد الشعور بالألفة في ما بينهم، والألفة مع المكان.
كان الصراع بين الشعب والنظام المستبد صراعاً على سورية، على مزدوجة التاريخ والجغرافيا، فقد مارس ذلك النظام كل أشكال السلب والسطو على الوطن، ما عزّز، مع الوقت، الشعور بالاغتراب لدى السوريين عن أماكنهم، عن مدنهم وأحيائهم، بل حتى عن بيوتهم، غادروا مهجّرين وفي صدورهم جمرة مطمورة تحت رماد أحلامهم وطموحاتهم هي الذاكرة. جمرة متّقدة لم تبرّد من حريقها، ولم تخمد اشتعالها السنوات التي مرّت، حتى على الذين وصلوا إلى بلدان لجوء قدّمت لهم فرص عيش كريمة، كالدول الأوروبية على سبيل المثال.
نحن مرتبطون بالمكان، حيّاً في مدينة كبيرة، أو قرية، أو مراتع طفولة، أو غرفة في منزل، فنحن جميعاً مرتبطون بها، لأننا راكمنا وبنينا تاريخنا هناك، لأننا رصفنا سنوات أعمارنا فيها، لأنها مكان يشكّل وعينا وثقافتنا، ولأنها تشكل دعامة كبيرة في ما تسمّى مشاعرنا وعواطفنا، الإيجابية منها والسلبية. هذه العلاقة التي نشكلها مع الأماكن، والتي تسمّى “التعلّق بالمكان”، عامل حاسم في كيفية تفاعلنا مع مكانٍ ما، وتفاعلنا عندما يكون مهدّداً أيضاً.
تهافت السوريون في كل مكان، كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً إلى الشوارع لتنظيفها، لتلوينها بألوان العلم، علم الثورة، والألوان المبهجة
هناك معان عديدة لمصطلح المكان: المكان، المجال، الموقع، الرتبة، المكانة الاجتماعية، الموقف… إلخ. وهناك ما يقابلها تقريباً من الصياغات أو التعبيرات عن العلاقة بالمكان، أو ماهيته في ضمير الإنسان، منها أن يكون المرء مكانه، وأن يكون في مكانه، وأن يشعر في مكانه، وأن يبقى في مكانه، وأن يصنع مكاناً لنفسه وغيرها، ما يحيل إلى الأسئلة الجغرافية، الاجتماعية، العاطفية، والسياسية. ما الذي لم ينتهكه النظام من تلك المفاهيم التي تنبني في ضمير الإنسان منذ تشكل وعيه؟ لقد حوّل السوريين إلى كائناتٍ تشعر بأنها “غير مرئيّة”، تعيش في عتمةٍ حالكةٍ حتى تكاد لا ترى موطئ أقدامها، فامتلاك المرء مكاناً يعني امتلاك وجود اجتماعي، يعني تقديم نفسه للآخرين والاعتراف به، لكن النظام الساقط جرّده من هذا الاعتراف، لم يكن الشعب يعني شيئاً بالنسبة إليه، كان نكرة.
كانت لحظة تحطيم التماثيل أولى اللحظات المؤسِّسة، التماثيل التي رسّخها حافظ الأسد على مساحة التراب السوري، في ساحات المدن والقرى، على الطرقات بين المدن، في المقرّات الرسمية، كلها أراد منها ترسيخ فكرة ملكيته المكان، وبالتالي، الحياة بكل تفاصيلها ومجالاتها، حتى الحياة الفردية، معزّزاً هذه الملكية بشعاراتٍ لا تقلّ دلالة عنها، أكثرها فاشية شعار “إلى الأبد”. كان تحطيم التماثيل بمثابة الفاتحة في الكتاب الجديد الذي بدأ الشعب السوري في تدوينه، كتاب المصير الذي يبدأ من اللحظة، لقد استعاد الشعب مكانه وهذه بداية الحرية.
تهافت السوريون في كل مكان، كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً إلى الشوارع لتنظيفها، لتلوينها بألوان العلم، علم الثورة، والألوان المبهجة، بعدما أوصلهم النظام البائد إلى حالة النكران واللامبالاة ببيئتهم في أضيق مساحاتها، بدوا وسط بهجتهم ومشاعرهم الجياشة أنهم يكتشفون سرًّا وكأنه “إكسير الحياة”، مكانهم الذي استبيح واغتصب حتى كادوا ينسونه في غمرة الخوف والقمع، صار بمرتبة اللغز المفقود، أو السر الذي يُضمر شيفرة الحياة. نظّفوا شوارعهم مثلما لو كانوا يكتشفون بيوتهم فجأة، فأرادوها بأجمل هيئة، استعادوا قيمة الجمال في نفوسهم. لقد باشروا تقديم أنفسهم للعالم.
آذان الحيطان التي زرعها المستبد اقتلعت ولم يعد هناك خوفٌ منه
وهناك شريحة كبيرة من السوريين، ممن أجبروا على الفرار من بلادهم بسبب الحرب (المنفيون واللاجئون)، والذين أجبروا على تغيير أماكنهم بسبب العنف والقصف الذي دمّر البيوت فوق رؤوس ساكنيها، إنها المأساة السورية التي امتدّت عقداً ونصف العقد تقريباً. كارثة النزوح العنيف الذي أجبروا على المضي فيه، مخلفين وراءهم المنازل التي تعرّضت للقصف، بل هناك قرى أبيدت عن بكرة أبيها، وأبناء وأشقاء فقدوا. إنها بتعبير بسيط تجربة فقدان كل شيء. لكنهم لم يتوقفوا عن الوجود، إنما الوجود المؤجّل المبني في أحلامهم على حقيقة أن المكان هناك لهم، ينتظرهم في الأحياء والأسواق والمقاهي وكثير من معالم المدن التاريخية، وهذا أمرٌ له مبرّراته النفسية، إذ يظهر بعض الأبحاث عن التعلق بالمجتمع والمكان أن الأفراد يفضّلون الأماكن التاريخية، التي تعزّز إحساساً بالاستمرارية، بالتواصل مع الماضي، بالسيطرة على الذاكرة، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، فعندما تضطرب الذاكرة يضطرب التوجّه في الزمان والمكان والأشخاص، ويصبح الفرد مثل ورقةٍ في الريح، لا وزن له، لا إحساس بالثبات والأمان.
هرع السوريون عائدين إلى المكان، كي يحقّقوا حالة من الترادف بين وجود المكان والوجود فيه، بعدما جرّدهم النظام وسنوات اللجوء أو المنفى من هذا الوجود بالاستيلاء على بلداتهم وبيوتهم. تشير عودتهم إلى الأمكنة والتحقق من وجودها، بشكل أساسي ومباشر، إلى تعلّقهم بالمكان الاجتماعي المرتبط بالمجتمع الذي ينتمون إليه، المجتمع بامتداده التاريخي، هذا ما يظهره نشر الصور عن المقاهي المعروفة في المدن، كالنوفرة والروضة وهافانا وغيرها في دمشق، حيث تدار النقاشات الحامية بين السوريين، للمرّة الأولى يمارسون حرّية التعبير من دون خوف، فآذان الحيطان التي زرعها المستبد اقتلعت ولم يعد هناك خوفٌ منها، للمرّة الأولى منذ 50 عاماً يشعر السوريون بأصواتهم، وأن لديهم حناجر وألسنة لتقول وتعبر، فالحيطان لم يعد لها آذان، بل أصبحت تردّد صدى المتكلمين فتزيد بحماسهم.
لقد استعاد السوريون أمكنتهم وعادت سندات ملكيتها إليهم، إلى الشعب، حتى لو كانت حطاماً وركاماً فهم جديرون بإعادة إعمارها وإعادة الروح إليها.