تزخر سورية، حال كل دول المشرق العربي، بتنوّع ديني، ومذهبي، وإثني صنعته قرون من التفاعلات السياسية والثقافية والدينية، والاجتماعية – الاقتصادية. ورغم أن هذا التنوّع العريق لم يكن دائماً، كما سائر المجتمعات البشرية، في حال انسجام، إلا أن تسييسه، بالمعايير المعاصرة، بدأ في فترات متأخّرة، وتحديداً حوالي منتصف القرن التاسع عشر، عندما أخذت الدول الاستعمارية الأوروبية بإنتاج ما أصبحت تعرف لاحقا بـ”مسألة الأقليات”، والتي كانت بدورها من أعراض “المسألة الشرقية” (مرض الدولة العثمانية)، تبلورت في أثناء الاحتكاكات المارونية -الدرزية عام 1840، وبشكل أكبر خلال أحداث عام 1860 الطائفية في لبنان وسورية. وظّفت الدول الأوروبية حينها هذه الاضطرابات أداة للتدخّل في شؤون المنطقة وبناء نفوذ لها بداعي حماية الأقليات. لكن هذه التوترات الطائفية لم تلبَث أن خفتت بشدة مع ظهور الدولة القومية (الوطنية) الحديثة في المشرق العربي، وتبلور مفهوم المواطنة وحقوقها المكفولة دستوريّاً، في سورية على وجه الخصوص، فصار طبيعيا أن ترى كردياً، مثل محمد علي العابد رئيساً للجمهورية (1932 – 1936)، ومسيحيّاً، مثل فارس الخوري رئيسا للوزراء (1954 – 1955)، وكردياً آخر، مثل حسني الزعيم قائداً للجيش ثم رئيسا للدولة (بعد انقلاب 1949)، وعلويّاً، مثل محمد عمران نائبا للرئيس (1963 – 1964).

أخذ هذا الوضع يتغير بوضوح منذ أواخر الستينات، وخصوصاً بعد استلام حافظ الأسد مقاليد السلطة، وتعمّق سياسة “تطييف” الجيش وأجهزة الأمن، حيث صار الأسد يعتمد، بشكلٍ مفرط، على الطائفة العلوية في تثبيت أركان حكمه، في إطار سياسة “ترييف” أوسع لمؤسّسات الدولة، بدأت مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963. ويذهب كثيرون، بمن فيهم حنّا بطاطو، إلى أن نسبة الضباط العلويين في قيادة الجيش كانت أكبر كثيراً من وزنهم الديموغرافي، إذ بلغت قبل عام 1995 نحو 60%، في حين سيطر الضبّاط العلويون بعد عام 2020 على 100% من أعلى 40 منصبا قياديا في الجيش السوري.

خلال أكثر من خمسة عقود، نجحت عائلة الأسد في ربط الطائفة العلوية بها، وجعلت مصالحها مرتبطة ببقائها، كما كرّست لديها فكرة أن زوال الحكم الأسدي يعني حتماً الفتك بها، وتجريمها جماعيّاً. ارتباط عموم الطائفة العلوية بالنظام قابلته نظرة عداء وتشكّك من بقية فئات المجتمع السوري، ساهمت في نشوء حالةٍ من التماهي بين الطائفة والنظام. ولم يؤثّر في ذلك وجود مثقفين علويين معارضين لنظام الأسد، من أمثال عارف دليلة وعبد العزيز الخيّر وآخرين، دفعوا أثماناً باهظة نتيجة مواقفهم. وكانت عائلة الأسد مارست، لأسبابٍ اجتماعيةٍ معروفة، عقوداً، تهميشاً ممنهجاً بحق أبرز العائلات العلوية في الساحل من أمثال آل الخير، وآل خير بك، وآل هواش، وآل بركات، وآل عثمان، وغيرهم. مع ذلك، ورغم التململ الواضح الذي أخذ يبرُز في أوساط العلويين تجاه سياسات النظام، خاصة في السنوات الأخيرة، إلا أن الجزء الأكبر ظل ملتزماً بدعمه، أو أقله غير مستعدٍّ للجهر بمعارضته، خوفاً على مصيرهم في حال سقوطه، خاصة وأن النظام وضعهم في مواجهة بقية أبناء المجتمع، حيث تورّط عديدون منهم في القتل والتعذيب، وفي أعمال نهب وسلب خلال سنوات الثورة السورية.

مع سقوط النظام، علت أصوات، في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، تجرّم العلويين بصفتهم هذه، وتطالب بإخراجهم كليّاً من مؤسّسات الدولة، عبر سياسات فصل تعسفي وغير ذلك من إجراءات العقاب الجماعي، وهذا توجّه في المبدأ خطير، لأن فيه استسلاماً لنوازع الثأر والانتقام، فضلاً عن أنه غير عادل، إذ يأخذ بعض الناس بجريرة آخرين. وعلى أهمية رفض هذا التوجّه قيميّاً وأخلاقيّاً، فإن خطر تبنّيه سياسياً أكبر، ذلك أن معاقبة العلويين باعتبارهم “جماعة النظام”، ومحاولة تهميشهم وتجويعهم سوف تدفعهم حتماً إلى التطلّع إلى الخارج من أجل الحماية، وهذا عمل يفتقر إلى الحكمة والخيال السياسي. لا ينبغي، لهذا، السماح بتصنيع مسألة أقليات (علوية، كردية، درزية، أو غيرها) في سورية، وهذا لا يتم إلا باستعادة “دولة المواطنة” التي أسّسها السابقون من السوريين، وتحقيق التوازن الصعب بين الحقّ في ملاحقة المجرمين وتحقيق العدالة، ومراعاة المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في حماية السلم الأهلي ومنع التدخّلات الخارجية.