بُعيدَ الإعلان عن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في فجر 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وبينما شاعت مخاوف من احتمال حدوث مجازر طائفية بحق العلويين في حمص ودمشق وحماة والساحل، صدرت بيانات من وجهاء ومشايخ علويين تدعو المسلحين من أبناء الطائفة لرمي السلاح. بعض تلك البيانات دعت إلى التعاون مع القيادة العامة لقوات «ردع العدوان»، كما أن بعضها صدر قُبيلَ شيوع خبر فرار بشار الأسد، ما يشير بوضوح إلى تنسيق بين الفصائل وبعض مشايخ ووجهاء العلويين، وهو ما أكّده لنا يامن حسين الناشط المدني من مدينة حمص.
تزامنت تلك البيانات مع تطمينات علنية واضحة من جانب قيادة عملية «ردع العدوان»، لكن هذا لم يكن كافياً لتهدئة روع عموم العلويين، إذ أظهرت الصور والفيديوهات آلاف السيارات التي تقلّ عوائل متّجهة من محافظات دمشق وحمص باتجاه الساحل السوري. ورغم انتشار حواجز إدارة العمليات العسكرية على طول الأوتوستراد الرابط بين دمشق وحمص، إلا أنه لم تُسجَّل حالات اعتداء أو أعمال قتل ذات طابع طائفي في ذلك اليوم. وقد ساهم هذا بوضوح في تسهيل دخول قوات ردع العدوان إلى الساحل السوري، وذلك بعد ساعات من دخولها دمشق وإعلان إسقاط النظام، لتبقى مسألة سلاح مقاتلي النظام العائدين إلى بيوتهم واحدة من أبرز تحديات المرحلة التالية.
طرطوس بلا صور وتماثيل الأسد
معتز أحمد شابٌ من سكان طرطوس، شاركَ في احتفالات المدينة التي تلت الإعلان عن هروب الأسد، وهو يقول إن سيارات «إدارة العمليات العسكرية» التي دخلت طرطوس في عصر ذلك اليوم «لم تواجه أي مقاومة من أي أحد، بل على العكس من ذلك، عندما وصلت إلى مدخل المدينة من الجهة الجنوبية كانت صور الرئيس المخلوع قد أُزيلت في كل أحياء طرطوس، وكان في استقبالها العديد من أهل المدينة».
يقول معتز في حديثه مع الجمهورية.نت إنه نزل إلى ساحة النجمة، وهي ساحة في أحد الأحياء ذات الغالبية السنية في المدينة، في السادسة صباحاً، وإنه بدأ مع عشرات من السكان بتمزيق الصور التي كانت موجودة على كورنيش المدينة، وفي الوقت الذي وصلوا فيه إلى شارع العريض الذي تقطنه غالبية علوية كانت الصور والتماثيل في الحي قد أزيلت تماماً. يُشدِّد معتز أن من قام بشق الصور وتكسير التماثيل في شارع العريض لم يكونوا من خارج الحي، كما أنهم لم يكونوا من الوجوه المُعارِضة المعروفة في المدينة.
تسويات، اعتداءات، تطمينات
في الأيام اللاحقة بدأت القيادة السياسية الجديدة في البلاد بدعوة عناصر الجيش والأجهزة الأمنية «لتسوية أوضاعهم» وتسليم سلاحهم، وفتحت مراكز لهذا الغرض في أنحاء البلد. كما سمحت في بعض المناطق، كمصياف مثلاً، بوضع سلاحهم في الجامع بدل تسليمه مباشرة لعناصر الإدارة، مؤكدة بأن «صفحة الماضي قد طويت» وأنه «نصرٌ لا انتقام فيه»، وفي الوقت نفسه حذّرت من يحتفظ بسلاحه ولا يصرح عنه بعد إجراء التسوية بالعقاب الشديد.
يُظهِرُ الازدحام على مراكز التسوية أن أعداداً كبيرة من عناصر النظام السابق في المناطق العلوية يقومون بتسليم أسلحتهم، وذلك رغم الشكوك وحالة عدم الثقة السائدة تجاه السلطة الجديدة. يقول فادي من مصياف، وهو موظف مدني سابق في وزارة دفاع النظام البائد، إنه استطاع القيام بالتسوية أخيراً، ففي اليوم الأول ورغم وقوفه في الطابور أمام مركز التسوية في مصياف منذ الثالثة صباحاً، لم يستطع إتمام الإجراءات بسبب الأعداد الكبيرة من الراغبين بتسوية وضعهم. بعد الانتظار لساعات طويلة في ذلك اليوم، قيلَ لهم إن الدوام قد انتهى وإن عليهم العودة في اليوم التالي.
يقول فادي إن هناك فرقاً كبيراً في التعامل بين عناصر الأمن العام التابعين مباشرة للإدارة الجديدة وبين تعامل عناصر بعض الفصائل، ففي حين أن الشكاوى تكاد تكون معدومة ضد عناصر الأمن العام مثلاً، فإن بعض الفصائل عُرفت بقسوتها وعدم التزامها تعليمات الإدارة. ولدى سؤاله إن كانوا قد حاولوا تقديم شكوى للمسؤول الأمني المحلي المُعيَّن من قبل إدارة العلميات العسكرية في مصياف، أكد فادي أن هذه الفصائل «تتبع أميرها وليس المسؤول الأمني» حسب تعبيره.
تبدو إدارة العمليات العسكرية حريصة على بناء صورة طيبة لها بين الناس والحدّ من الانتهاكات والجرائم، فتارةً تقول إن «التجاوزات فردية» وتَعِدُ بقمعها، وتارة تقوم بنقل عناصر أو مجموعات عسكرية من المناطق ذات الحساسية الطائفية، لكن هذا ليس كافياً حسب رأي فادي، فانتشارُ السرقة والخطف والقتل خارج القانون كان أكبر من أن يتم تجاهله أو إقناع الناس بأنه مجرّد «تصرفات فردية». ورغم أنه يؤكد أن جزءاً ليس قليلاً من القتلى كانوا شخصيات مرتبطة بالنظام السابق ورفضوا إلقاء السلاح، ولكن تبقى العديد من حوادث القتل دون تفسير، فلا القتلى من داعمي النظام السابق ولا إدارة العمليات العسكرية ادّعت ذلك.
يرى فادي أن هذا دليلٌ على أن بعض الفصائل غير ملتزمة بتعليمات القيادة، وهذا مبعث الخوف الأساسي. ولدى سؤاله عن الطرف الذي يتحمل المسؤولية من وجهة نظره، قال إن «إدارة العمليات العسكرية والسيد الشرع شخصياً يتحملون المسؤولية»، فهُم السلطة وهُم من يملكون السلاح، بالإضافة إلى رفضهم السماح لأهالي المنطقة بالمشاركة في فرض الأمن؛ يقول فادي: «كيف يريدون منا أن نثق بهم إن كانوا لا يثقون بنا؟».
ويشهد الوضع الأمني الآن في الساحل تحسناً نسبياً مستمراً في أغلب المناطق، فحوادثُ السرقة بعد ما يقارب 5 أسابيع على سقوط النظام باتت أقل، وكذلك التعديات والتجاوزات الأمنية أيضاً، ولو أنها ما تزال مستمرة وكثيرة عموماً. بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد القتلى المُسجَّل في محافظات حمص وحماة وطرطوس واللاذقية 197 قتيلاً بين 8 كانون الأول (ديسمبر) و15 كانون الثاني (يناير). ذلك بالإضافة إلى اعتداءات واستفزازات متفرقة من طبيعة طائفية أحياناً، يرتكبها عناصر بعض الفصائل التي دخلت المناطق مع إدارة العمليات العسكرية.
تجدر الإشارة إن الوضع الأمني ليس نفسه في كل المناطق، ففي حين تشهد مناطق سهل الغاب وجبلة وحمص عمليات قتل وخطف متكررة، لم تعاني مدينة طرطوس بالطريقة نفسها، حتى أن المدينة لم تتأثر كثيراً بالعملية العسكرية التي قامت بها أجهزة الأمن العام في قرية خربة المعزة في ريف طرطوس بتاريخ 25 كانون الأول 2024 لاعتقال مطلوبين، بل كانت مسيرةُ السيارات التي قام بها مقاتلون تابعون لإدارة العمليات العسكرية على كورنيش طرطوس في اليوم التالي، بتاريخ 26 كانون الأول 2024، وردَّدوا فيها هتافات طائفية، أكثر قلقاً وازعاجاً لعموم سكان المدينة من العملية العسكرية نفسها.
التحسّن النسبي للوضع الأمني لم يطمئن عموم العلويين حتى الآن، ورغم تَوجُّه كثيرين إلى تسليم سلاحهم الفردي، لكن عدداً ممن تحدثتُ إليهم لأجل هذا التقرير أشاروا إلى عمليات دفن للسلاح. وكانت الأجهزة الأمنية للنظام السوري قد وزَّعت السلاح على الناس بشكل عشوائي في الساعات الأخيرة قبيل سقوط النظام، بالإضافة إلى نهب كثير من مستودعات السلاح، ما يجعل من معرفة كميات السلاح الموجودة فعلاً أمراً مستحيلاً.
تسليم السلاح أم الاحتفاظ به؟
أعلن أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة، وزعيم هيئة تحرير الشام، أن الهيئة ستحلّ نفسها في المؤتمر الوطني العام المُزمع عقده قريباً، وأن جهازها العسكري سيندمج مع باقي الفصائل في نواة جيش وطني. كما دعت الإدارةُ الفصائل المسلحة للاندماج في الجيش السوري الجديد بغية «حصر السلاح بيد الدولة». وقد واجهت هذه الدعوة التي قوبلت بالترحيب بين عموم السوريين بعض الصعوبات، فمن جهة لم تندرج بعض الفصائل فيها حتى الآن بشكل واضح، ومن جهة أخرى تربط بعض الفصائل تسليم السلاح بالمؤتمر العام وصياغة الدستور، كما طلب بعضها الآخر الالتحاق بالجيش الجديد كوحدات منفصلة مع الاحتفاظ بعتادها والمواقع التي تسيطر عليها، وهو ما ترفضه الإدارة الجديدة تماماً حتى الآن.
لكن هذا الملف بتعقيداته لم يؤثر على عمليات التسوية وتسليم السلاح المستمرة من جانب عناصر النظام السابق وميليشياته وأجهزته الأمنية، الذين يحصلون بعد تسليم هوياتهم العسكرية على بطاقة شخصية مؤقتة تسمح لحاملها بالتنقّل. ورغم وجود حالة عامة من إعلان التأييد لتسليم السلاح الفردي في أوساط العلويين، فإن كثيرين ما يزالون متوجسين إذ تكتسب هذه العملية بُعداً خاصاً بالنسبة لهم مع استمرار عمليات القتل خارج القانون والاستفزازات الطائفية، الأمر الذي جعل البعض يقتنعون أن مصيرهم هو القتل ولو بعد حين، وأن تسليم السلاح سيكون له عواقب وخيمة عليهم.
قلّما يتحدث أيٌّ من معارضي تسليم السلاح عن مواقفهم علناً على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة إذا كانوا داخل البلد، وبالتواصل مع عدد من أصحاب هذا المواقف، رفضوا جمعياً نشر أسمائهم، وهذا في حد ذاته يُشير إلى عمق هذه الأزمة. يعتبر رافضو تسليم السلاح أن العملية تستهدف فقط مؤيدي النظام السابق وبالأخص العلويين منهم، ويقولون إنه بينما يُسمَح للدروز في محافظة السويداء بإبقاء سلاحهم في الوقت الراهن، تجري حملات أمنية على قدم وساق في مناطق العلويين بحثاً عن السلاح، فهل يحتفظ جميع السوريين بوسائل للدفاع عن أنفسهم عدا العلويين؟
يقول بعض من تحدثتُ إليهم صراحةً إن بقاء السلاح هو الطريقة الوحيدة لمنع مجازر طائفية أو عمليات تهجير واسعة قد يتم ارتكابها بحق العلويين، سواء على يد هيئة تحرير الشام أو على يد جهات فصائل أخرى تعجز الهيئة عن ضبطها.
يعكس هذا حالة من عدم الثقة بالسلطات الجديدة وتعهداتها لدى شرائح من العلويين، ذلك أنها «رغم كل الوعود التي قطعتها، ما تزال غير قادرة على وقف أعمال القتل والخطف، ولا على وقف الفيديوهات التحريضية ضد العلويين. الادعاء بأن هذه الحوادث هي أخطاء فردية ليس أمراً مقنعاً»؛ بحسب أحد عناصر جيش النظام السابق.
يؤكد فادي أن رغبة البعض بالاحتفاظ بسلاحهم هي دليلٌ على حالة الخوف التي يعيشها العلويون، فالسلاح «لردع مجزرة قد تحدث في القريب العاجل وليس للدفاع عن النظام السابق كما يروج البعض»، إذ لا يوجد في رأيه من هو مستعد للقتال من أجل عودة الأسد.
بالمقابل، يدعو كثيرون في الأوساط العلوية عناصر النظام السابق لتسليم سلاحهم، ويحذرون من استغلال دول خارجية أو أطراف داخلية مرتبطة بالنظام السابق لهذا الأمر. يعتبر أصحاب هذا الرأي أن من مصلحة العلويين المبادرة لتسليم السلاح والأفراد المتورطين بجرائم، والانخراط بقوة في مؤسسات الدولة الجديدة، وأن هذا هو الضامن الوحيد لتحسين الوضع الأمني في مدن الساحل ومنع أي مجازر أو انتقامات ذات طابع طائفي قد تحصل.
«السلاح الفردي الموجود غير قادر على منع الأعمال الانتقامية، فلا قيمة لهذا السلاح في مواجهة سلاح الفصائل»، بحسب معتز أحمد الذي يدعم عمليات تسليم السلاح، إذ قال لي مازحاً إن «قوة العلويين الآن في ضعفهم» في استعارة ساخرة لما قاله بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، حين وصف الحالة اللبنانية قبل أكثر من نصف قرن من الآن.
وينتشر السلاح بشكل أساسي بين أيدي عناصر سابقين في أجهزة النظام الأمنية والميليشيات، ما يخلق أحياناً حالة من الريبة والشك في أوساط المدنيين العاديين تجاه من يرفض تسليم السلاح، خصوصاً في ظل التصعيد الأمني. قبل يومين من مقتل شجاع العلي على يد إدارة الأمن العام، وهو أحد قادة الشبيحة في ريف حمص الغربي، كان قد ظهر في فيديو من قرية بلقسة مهدداً أهالي منطقة الحولة المجاورة، وذلك خلال مظاهرة قام بها بعض الشباب العلويين رداً على حرق مقام الخصيبي (تبيَّنَ لاحقاً أن فيديو حرق المقام قديم، وأن حسابات مرتبطة بالنظام كانت هي السبب وراء إعادة نشره). أجَّجَ ظهور شجاع العلي وهتافاته التحريضية مشاعر العنف والتوتر في الساحل وحمص، وكاد ذلك أن يتسبب بانفجار الأوضاع، ولذلك يرى العديد من العلويين أنه يجب عليهم تمييز أنفسهم عن هؤلاء والمبادرة لتسليمهم أو التعاون من السلطات للقبض عليهم، وذلك رغم حالة عدم الثقة بالسلطة في دمشق، فهؤلاء على استعداد تام للعنف والتصعيد خدمة لأهدافهم الشخصية أو نجاتهم الفردية.
من المرجح أن عمليات ملاحقة عناصر النظام السابق الرافضين للسلطة الجديدة ستستمر لفترة، وقد تكون عنيفة أحياناً، حيث شهدت قرية عين الشرقية في ريف جبلة قبل أيام سقوط قتلى وجرحى في اشتباكات بين قوات الأمن العام التابعة لادارة العمليات العسكرية ومجموعة مسلحة بقيادة بسام حسام الدين، وهو ضابط سابق بالفرقة 25 في قوات نظام الأسد قام باختطاف عناصر من الأمن العام. أدّت تلك المواجهة إلى تصاعُد الخطاب الطائفي، ما عزَّزَ شعور البعض منهم بأن من مصلحتهم عدم الانجرار وراء دعوات مقاومة السلطة الجديدة عسكرياً.
في المعركة ضد السلاح العشوائي التي تخوضها السلطات في دمشق حالياً، يرى هؤلاء أن من مصلحة العلويين أن يكونوا مع سلطة دمشق وليس ضدها، وخصوصاً في ظل التوقعات بأن معركة مشابهة قد تكون قادمة ضد تنظيمات وفصائل محسوبة على المعارضة سابقاً قد ترفض تسليم السلاح للجيش الجديد.
بين هذا الرأي وذاك، ومع صعوبة معرفة الحجم الحقيقي لأنصار كل رأي، وعدم وجود مساحة للحوار العلني ولا مرجعية دينية أو سياسية تمثل العلويين، تبقى هذه التساؤلات والهواجس لتُناقَش خلف الأبواب المغلقة وفي المجالس الصغيرة. ورغم وجود تأييد شعبي واضح لعملية تسليم السلاح وطي صفحة النظام السابق، فإن ضعف أو غياب وسائل تطبيق القانون، وعمليات القتل العشوائية، وعدم إصدار قوائم واضحة بأسماء المطلوبين، واستمرار احتجاز الآلاف من عناصر جيش النظام السابق، والخوف من أعمال انتقامية مستقبلية مع التحريض وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، كلّها أمور تُساهم بالإضافة إلى صعوبة الوضع الاقتصادي الحالي في حالة عدم الثقة تجاه السلطة الجديدة في دمشق.
مقالات مشابهة