أثارت تصريحات أطراف، في القوة الحاكمة حالياً لسوريا، كثيراً من القلق بين المهتمين بالشأن العام، وأيضاً عموم المواطنين، إذ بدا أن السلطة الجديدة تمتلك تصورات محددة جداً عن كثير من المسائل الاجتماعية والثقافية، ومنها الصورة الصحيحة للدين والمرأة والرجل. هذا قد يعني أن هذه الجهة، التي تمتلك سلطةَ تنفيذية، وما يشبه السلطتين التشريعية والقضائية، ستسعى لفرض تلك الصور على مجتمع، يصنّف دائماً بأنه شديد التعددية، عبر أجهزتها العنفيّة والأيديولوجية. وبالتأكيد فإن ربط المجتمعات بصور مسبقة ومتعالية، تحددها الدولة، أو ما يشبهها من قوى سياسية مسلّحة، يهدد بحكم شمولي. في تكرار لما عانته وتعانيه المنطقة منذ عقود طويلة.
إلا أن هنالك ميلاً للتفاؤل لدى كثير من السوريين: لن تستطيع القوة الحاكمة، أياً كانت أيديولوجيتها ونواياها، أن تفرض صورها على سكّان البلد. لماذا؟ الجواب غير واضح، ولكن يبدو أن هنالك ثقة بوعي أو ثقافة «الشعب السوري»، وربما أيضاً، الضغط الخارجي، اللذين سيمنعان الحكم الشمولي، أو حتى «يروّضاه» و»يبتلعاه».
لا يوجد أي معطيات، تاريخية أو اجتماعية أو سياسية، تدعم هذا التفاؤل بشكل كافٍ، فالمجتمع السوري، رغم تعدديته وثقافته، خضع لعقود، وبشكل نسبي أو كامل، للصور الشمولية، التي عمّمها حزب البعث الحاكم، تحت نظر العالم، ليس من دون مقاومة، أو وقائع دموية كثيرة، ولكن بالتأكيد كان هنالك ائتلاف واسع من الفئات الاجتماعية، التي ارتضت تلك الصور لنفسها وللآخرين، وفرضتها بالعنف والهيمنة. اليوم، ورغم أن سلطات الأمر الواقع في سوريا لم تعزّز عنفها وهيمنتها بعد، ولم تنل الشرعية المحلية والدولية، يمكن ملاحظة ميل مقلق بين فئات سورية متعددة: التنازل، الذي يبدو طوعياً، عن عدد من المظاهر الحياتية، والحريات، إرضاءً لما يُفترض أنه عقيدة الحاكمين، أو استباقاً لإجراءاتهم، من قبل أفراد مؤيدين لهم، أو خائفين منهم. قد يظهر ذلك في وقائع نقلها كثيرون، دون إمكانية توثيقها بشكل منضبط، مثل التحجّب الطوعي لنساء من طوائف ومعتقدات لا تعتقد بالحجاب، أو قيام بعض شركات النقل والمؤسسات التعليمية بفصل الجنسين، أو إغلاق بعض المؤسسات الثقافية لأسباب غير واضحة. إلا أن الأهم في هذا السياق، ما يبدو أنه حالة من الرضا والتسليم بأحقية بروز لون عقائدي واحد، وتسيّده على الحيّز العام، من دون إعطاء فرص متساوية، ولو حتى نظرياً، لبقية المعتقدات والرؤى لإظهار نفسها، والدعاية لأفكارها.
قد يشير كل هذا إلى نوع مما يمكن تسميته «استباق الشمولية»، أي ميلاً اجتماعياً لافتراض نوعية الحكم الشمولي الذي سيخضع الناس له، ومن ثمّ التماهي معه بشكل أقرب للطوعية، وكأن ذلك النوع من الحكم هو القاعدة، والأمر «الطبيعي». ما السبب؟ هل يمكن تفسير ذلك بالخوف، أو حتى قرب عهد الناس بالديكتاتورية؟ ماذا عمّن يُفترض أنهم نخب ديمقراطية في البلد؟ هل يواجهون ذلك الميل، أم يعززونه؟ وكيف يمكن فهم دائرة فرض الصور الشمولية هذه، التي يبدو أنها بعيدة عن التوقف؟
مشكلة الذاتية
بعيداً عن التحديدات، التي تتسم بضعف المعنى أو انعدامه، لا توجد، ولم توجد بلدان لا تعددية فيها، سواء كانت تعددية دينية أو إثنية أو ثقافية أو طبقية، وسواء تحدثنا عن سوريا أو أفغانستان أو ألمانيا أو فرنسا، وبالتالي فإن خضوع المجتمعات للحكم الشمولي، أو لبعض مظاهره، لا يعني أنها ضعيفة التعددية، بل ربما تكون الصراعات الاجتماعية والسياسية المرتبطة بتعدديتها، أحد أهم دوافع الشموليين، لفرض صورهم الأحادية، في سبيل إلغاء المظاهر الكثيرة، التي تنافي أو تتحدى تصوراتهم عن شكل الدولة، أو الأمة الذي يبتغونه، ولذلك فإن التعويل على تعددية وثقافة «الشعب السوري» غير ذي معنى أو فائدة، في معالجة مسألة التصورات الشمولية.
من جهة أخرى، فلا يمكن لنظام شمولي، مهما بلغت كفاءته، أن يلغي تماماً كل مظاهر التعددية، حتى لو لجأ لـ»حلول نهائية» مثل الإبادة الجماعية، فما بالك بدول وميليشيات، مثل التي سادت وتسود في بلدان المنطقة، والتي لا يمكن وصفها بالكفاءة التنظيمية، والقوة والتماسك المؤسساتي، مهما بلغت ضراوة عنفها.
ما تركّز عليه الأنظمة الشمولية عادة هو إعادة هندسة المجتمعات، عبر أجهزة كثيرة، ومنها أجهزة القانون والتعليم والإعلام، لفرض نموذج لـ»الإنسان الجديد» أو «ابن الأمة» الذي تريده. يرتبط ذلك بالتأكيد مع تغيير علاقات القوة الاجتماعية، لحساب من يطابقون تلك الصورة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن المطابقين لن يتعرّضوا بدورهم للاضطهاد من السلطة، أو أن امتيازهم السياسي سيؤدي إلى تحسين ظروفهم المعيشية، أو يؤمّن احتكارهم لمصادر الثروة في كل الحالات. «إنسان» تلك الأنظمة قد يكون أول ضحاياها، ووقوداً رخيصاً لحروبها ومشاريعها، و»قوته» لا معنى لها إلا بالخضوع التام لما يفرضه النظام. بمعنى أن الأنظمة الشمولية تسلب فعليا القوة من الجميع، بمن فيهم أبناؤها الصالحون، حتى عندما تميّزهم اجتماعياً وسياسياً، وذلك لأنها تمنع كل فرصة لبروز ذات اجتماعية أو سياسية مستقلة، ولو نسبياً، عنها. إنها لا تترك مجالاً إلا للإلغاء، أو الخضوع، أو المزاودة في الخضوع. إنسان الشمولية قوي بقدر ما يكون مُستَخدَماً، وليس بقدر إمكانيته في تعيين حقوقه، والدفاع عنها، ولذلك فهو منسحق بالضرورة، وربما أقرب للتفاهة الأخلاقية. لا بد من ملاحظة أن الشمولية، بوصفها نظام حكم، لا يمكن أن توجد فعلياً إلا في مجتمعات صناعية، أو تتجه بنجاح للتصنيع الشامل، وذلك لأن البنى التحتية للصناعة، ومؤسساتها الانضباطية، وما يرتبط بها من مخططات للتحديث وإعادة تأهيل المجتمعات، هي الشرط اللازم والضروري، والإطار التاريخي لبروز وانتصار النزعات الشمولية. إلا أن تعميم أفق التحديث، خاصة في العصر الاستعماري، وما بعده في زمن التحرر الوطني ودوله، أدى لنشوء خلائط سياسية وسلطوية أقرب للشمولية، في مجتمعات ضعيفة التصنيع. يمكن وصف هذا بـ»الشمولية الرثة» أو البدائية، ولعل هذا النمط من الشمولية كان الموجّه الأساسي لتفكير كثير من الحركات القومية والإسلامية في دول المنطقة، التي تخيّلت أمة أحادية، ذات تاريخ غير منقطع، ومعارك كبرى مع عدو أو أعداء وجوديين، ونموذجاً صحيحاً لسلوك ومعتقد أبناء أمتها. وسعت دوماً لهندسة المجتمعات بما يوافق تلك الصورة، وبأساليب بدائية غالباً. ما جعل الجراح التي خلّفتها في المجتمعات أكثر تقيّحاً وتشوّهاً، تماماً كمعالج غير مؤهّل، يريد أن يجري جراحة بمباضع مثلّمة النصال.
ما تزال آثار تلك «الجراحات»، التي تمت في عصور مختلفة، تطبع جانباً كبيراً من المجتمعات والثقافات السورية. توجد تعددية بالتأكيد، لكنها تعددية تفتقر لأي ذاتيات سياسية واجتماعية مستقلة. وينتظر المتعددون أن يتعرّضوا لجراحة جديدة، تمنحهم معنى الأمة أو الوطن أو الشعب الواحد، ولذلك يسارع كثيرون منهم إلى استباق التماهي مع ما يبدو أنه عقلية الحاكمين المتسلطين، ربما لتخفيف الألم المقبل.
ما المقاومة؟
تؤدي ممارسات بهذه القمعية حتماً لبروز أنماط من المقاومة، والمقاومة العنيفة في بعض الأحيان. ومن المفيد ملاحظة أن نمط السلطة يتضمّن في داخله أنماط المقاومة الممكنة له، إذ أن ما تنتجه السلطة، بعد انتصارها، من أوضاع وتنظيمات وشبكات، بل حتى أنماط من الذاتية، هو ما يشكّل الإطار الأساسي للتناقضات، التي تتخذ شكل مقاومة، صامتة أو علنيّة. تنتج السلطة مقاوميها إذن، بشكل جدلي، وهذا ليس مبشّراً دائماً، بل قد يكون نذيراً بكثير من الفوضى، خاصة في حالة الشموليات الرثة، التي تحرم محكوميها من الحد الأدنى من القدرة على الوجود والاعتقاد والتفكير المستقل. وقد يكون هذا أيضاً سبب استبطان كثير من النخب السورية، المعارضة سابقاً، لأفكار الوطن والأمة الأحادية، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، فهي لم تتمتع يوماً بذات مستقلة، أو تتمكن من رؤية أفق أبعد من التبعية للسلطة، والتماهي معها، حتى لو كانت مناهضة لها.
ربما، ولحسن الحظ، ليس التاريخ والمجتمع معادلات منطقية مجرّدة وجامدة وحتمية النتيجة، يمكن ضبط كل مدخلاتها وعواملها، فمع كل رصد ممكن لميل غالب في مجتمعات معيّنة، لا بد من التأكيد أن ما يحدث فيها يجري هنا والآن، وليس عن طريق العنف الفيزيائي المحض فحسب، وإنما أيضاً بواسطة اللغة والرمز والتواصل والفعل، والعوامل الأخيرة لا يمكن أن تكون منغلقة الدلالة، أو مؤدية لحركة باتجاه ميكانيكي. فضلاً عن هذا فإن وصف الظواهر الاجتماعية، وتحليلها، سيؤدي لبعض التغيير فيها، مهما ادعى المراقب الحياد، لأن الوصف والتحليل هو لغة، موجّهة لفاعلين يفكّرون لغوياً، وبالتالي يؤثّر على فعلهم. رصد أي ظاهرة إنسانية بلغة إنسانية، لن يُبقي تلك الظاهرة كما كانت قبل الرصد.
قد تُنتج شموليات رثة، كالتي تحاول الميليشيات المتغلّبة في سوريا وغيرها فرضها، ظواهر ومقاومات تشبهها، إلا أن هنالك «انحرافات»، وخطوط انفلات، قد لا يمكن توقّعها حالياً، إضافة لأنه لا يوجد أي نظام اجتماعي قابل للانغلاق تماماً، إذ سيبقى منفتحاً، إلى هذا الحد أو ذاك، على مؤثرات فكرية ولغوية خارجية، ولذلك فإن الميل لاستباق الشمولية، وانعدام الذاتيات الاجتماعية المستقلة، وكذلك الأفق المحدود للنخب، قد لا يكون الموجود الوحيد في المجتمعات السورية، بل قد تبرز أشكال من المقاومة، تكون نقيضاً جذرياً لبوادر الشمولية الدينية المستجدّة. وربما الأكثر جذرية في هذا السياق ليس العنف المضاد، وإنما مجرّد التركيز على حق الوجود والمعتقد والتعبير، وعدم الخوف من إبراز الذات المبنية على تلك الحقوق. وهذا يخالف تماماً الخطاب المنافق، والخائف، والإنشائي، والمتزلّف، التي اتسمت به الوطنيات الناتجة عن الأنظمة الشمولية، بسلطاتها ومعارضاتها، وأممها وشعوبها الأحادية.
يبقى أنه لا يوجد كثير من البنى التحتية المادية لبروز ذاتيات مستقلة في الشرط السوري، إذ يعيش كثيرون ضمن علاقات تبعية وخضوع لما تبقى من هياكل سلطوية في البلد، في شروط شديدة البؤس، ومن دون قدرة على التجمّع أو التنظيم. إلا أن الرثاثة غير المسبوقة لتلك الهياكل، وانعدام كفاءة معظم القائمين عليها، وفقدانهم لأي شكل جدّي من الشرعية، يطرح احتمالات كثيرة للمقاومة. وربما كان الفعل السياسي والثقافي الأجدى هو الدفع باتجاه الاحتمال الأكثر جذرية، أي أن يكون الناس، وأن يعتقدوا، وأن يرفضوا خطاب كل من يروّج أن الأحادية الجديدة هي «الواقع» الحتمي، وقبولها «نفعيّة».
كاتب سوري