كاذب من يزعم أنّ المدنيّين هم ضحايا جانبيّون لحرب إسرائيل و”حماس” المشتعلة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري، بل هم في الواقع الهدف الأساس، في وقت يبدو فيه أنّ العسكر والمقاتلين الذين أمضوا العمر في التدريبات والمناورات والاستعدادات هم، في حقيقة الأمر، الضحايا الجانبيّون!
إنّ هجوم “حماس” على غلاف غزّة الذي قيل الكثير في مديح جودته العسكريّة، لم يستهدف المدنيّين عن طريق الخطأ أو بسبب العجز عن التمييز، بل عن سابق تصوّر وتصميم. وهذا لم ينبع من روحيّة إجراميّة، إرهابية وانتقاميّة، كما تزعم الدعاية المعادية لـ”حماس”، بل هو وليد فكرة استراتيجيّة، إذ إنّ المطلوب أن يصبح المدنيّون الضحايا درسًا للمدنيّين الناجين، حتى يفقدوا ثقتهم بجيشهم ودولتهم، فيبدأوا التفكير جديًّا، بالهجرة العكسيّة، على اعتبار أنّ أرض إسرائيل هي أرض الموت والقتل والقلق والعذاب، وليست “الفردوس المفقود”!
والرد الإسرائيلي على عمليّة “حماس” لم يستهدف المدنيّين لأنّ النيل من المقاتلين يستلزم ذلك بفعل تلاصقهم، بل لأنّ إسرائيل تريد أن يفهم الضحايا أنّ أفعال “حماس” التي تحكمهم، تجرّ عليهم كل أنواع التنكيل: القتل، التفقير، التهجير، التجويع، الظلام، العطش والتشرّد!
وبهذا المعنى، فإنّ طرفَي القتال في إسرائيل وفلسطين يستهدفان المدنيّين عن سابق تصوّر وتصميم، حتى تنجو مقاصدهما العسكريّة والسياسيّة والإستراتيجيّة.
وقبل حرب “طوفان الأقصى” كان المدنيّون هم الأساس في تمرير رسائل التهدئة بين الطرفين، بحيث قايضت إسرائيل التهدئة التي كانت “حماس” تلتزم بها، بالسماح لقطر، على سبيل المثال لا الحصر، بتمويل الأجهزة الحكوميّة التابعة لـ”حماس” بمبلغ ثلاثين مليون دولار أميركي شهريًّا، فيما وفّرت الحكومة الإسرائيليّة خمسين ألف فرصة عمل في مدن إسرائيل لسكّان قطاع غزة.
قبل الهجوم على غلاف غزّة، كان هناك اتفاق ضمني برعاية قطر لمصلحة المدنيّين أطلق عليه الإسرائيليّون اسم “الاقتصاد مقابل الأمن”!
وعندما أسقطت “حماس” هذا الاتفاق بهجومها على غلاف غزّة، كان المدنيّون هم الهدف الأساس، فمقابل الرعب الذي عمّ الإسرائيليّين كان التدمير الممنهج للغزّاويين!
واليوم، لا تقف غالبيّة اللبنانيّين ضد توريط “حزب الله” لبلادهم في حرب “طوفان الأقصى” لأنّ هواهم إسرائيليّ وكرههم فلسطينيّ، كما يستسهل ذلك أدعياء المقاومة، بل لأنّ هؤلاء يدركون الثمن الباهظ الذي سوف يدفعونه من أرواحهم وممتلكاتهم واقتصادهم ومستقبلهم، فدرس حرب تموز/ يوليو 2006 لا يزال ماثلًا في الوجدان والأبدان، ففيما أصيب اللبنانيّون بنكبة كانت لها تأثيراتها الكبيرة في الانهيارات الاقتصادية والمالية اللاحقة، كان “حزب الله” يرفع رايات الانتصار!
ولا تنفرد “حماس” وإسرائيل بتطبيق استراتيجيّة تحويل المدنيّين إلى أهداف عسكريّة، بل هي قاعدة متّبعة في كل الصراعات والحروب، أقلّه منذ الحرب العالميّة الثانيّة كاستلهام متأخّر من غزوات أزمنة الظلام، ونادرًا ما يشذ أحد عنها!
ولا تخلو الخطط العسكريّة، مهما كانت “نظيفة”، من تكتيكات استهداف المدنيّين، وذلك من أجل تحويلهم إلى عبء على السلطة المعادية، حتى تستسلم أو على الأقل حتى تخفض سقف شروطها!
ولكنّ هذا السلوك يُمنى، في معظم الأحيان بفشل ذريع، ما يحوّل المدنيّين إلى ضحايا مزدوجين، بحيث تتشدّد السلطة ضدّهم بالتكامل مع استهداف العدو لهم!
وهذا ما يلاحظه الجميع في الأنظمة الدكتاتوريّة التي تتمّ محاصرتها، مثل ما هي عليه الأحول في سوريا وإيران، بحيث يتحوّل المدنيّون المحرومون إلى خطر على السلطة فترفع منسوب استهدافهم، كلّما طالبوا بحق، تحت عناوين مثل التواطؤ مع العدو!
ولو تُرك مصير نظام صدّام حسين في العراق لإرادة شعبه المحاصر، لكان لا يزال حتى تاريخه أحد صانعي القرار في الإقليم!
والأخطر من كل ذلك أنّ تحويل المدنيّين إلى أهداف عسكريّة يصبح كارثة إنسانيّة وسياسيّة وأمنيّة، حيث توجد قضيّة!
في إسرائيل، هناك شعب مقتنع بأغلبيّته، في أنّ له حقًا في إقامة دولة على أرض فلسطين، وهو، بعد كل استهداف لمدنيّيه، يتطرّف ضد جميع الفلسطينيّين، ويراكم عليهم أحقادًا عميقة.
وفي فلسطين، شعب مقتنعة أغلبيّته، بأنّ الإسرائيلي مغتصب لأرضه، وهو يتحوّل بعد كل استهداف لمدنييه إلى متصلّب أكثر فأكثر في ما يعتبر أنّه حق مكتمل له، الأمر الذي يغذّي القوى المتطرّفة كلّما أقدمت على عمل يترجم هذه القناعة، وفق ردود الفعل التي استقبلت بها الغالبية الفلسطينيّة والعربيّة الهجوم على غلاف غزّة، على الرغم من إدراك الجميع بتداعياته الجسيمة!
وعليه، فإنّ المنادين بأنّ الرد على العنف بالعنف وعلى الإرهاب بالإرهاب وعلى المجازر بالمجازر، ستزيد المستقبل اسودادًا، لا يجانبون الصواب، فلا إزالة تنظيم ولا تغليظ العصا يحلّان المشكلة الأساس، بل السعي الحقيقي إلى إرساء سلام عادل ووضع آلة الحرب التي تستهدف المدنيّين جانبًا!
وحتى تاريخه، تعمل إسرائيل المستحيل حتى تتلاعب على تحقيق هذا الهدف الذي وحده يمكنه أن يحفط دماء شعبها!