لا يمكن الوثوق بالنظام السوري الجديد إلا إذا منح لامركزية حقيقية لجماعات الأقليات في البلاد.
بعد أكثر من خمسين عاماً من الحكم بقبضة حديدية، تمت الإطاحة أخيراً قبل بضعة أسابيع بنظام الأسد في سوريا. قاد الهجوم الذي شنه المتمردون ضد النظام أحمد حسين الشرع، المعروف أكثر باسمه الحركي محمد الجولاني (أبو محمد الجولاني). ولد الشرع في سوريا، وأصبح يُعرف بالجولاني أثناء قتاله ضمن صفوف تنظيم القاعدة في العراق بين عامي 2003 و2006. وبعد أن قضى حوالي خمس سنوات في السجن لدى القوات الأمريكية في العراق، عاد في 2011 إلى سوريا لتشكيل جماعة جبهة النصرة الجهادية هناك، وهي واحدة من فروع تنظيم القاعدة المحلية. في عام 2016، انفصل الشرع عن تنظيم القاعدة وأسس هيئة تحرير الشام . وبالرغم من محاولته تقديم صورة جديدة أكثر اعتدالاً، سرعان ما اتُهمت هيئة تحرير الشام بقمع المعارضين في أجزاء من شمال غرب سوريا التي سيطرت عليها وفرضت فيها حكماً استبدادياً إلى جانب تطبيق الشريعة الإسلامية.
الآن، يأمل الجولاني في حكم سوريا بالكامل. لقد كثّف جهوده لإظهار الاعتدال والشمول بهدف طمأنة المجتمعات الدينية والإثنية المختلفة في سوريا، وأصدر تعليمات لقواته بعدم الانخراط في أعمال النهب أو الهجمات الانتقامية. ويبدو أن هذه الجهود تؤتي ثمارها. فبعد اجتماع مع دبلوماسيين أمريكيين في دمشق مؤخراً، وصفه الدبلوماسيون بأنه “جيد” و”مثمر للغاية”، قامت الولايات المتحدة برفع المكافأة المالية بقيمة 10 ملايين دولار التي كانت قد وضعتها على رأس الجولاني قبل عدة سنوات. يبدو أن الأوروبيين بدأوا كذلك باتخاذ موقف أكثر إيجابية تجاه هيئة تحرير الشام، وشرعوا في مناقشات لإلغاء تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية الذي فرضوه سابقاً.
مع ذلك، يبدو أن كل من تحدثت معهم من أبناء المنطقة بشأن الجولاني وهيئة تحرير الشام لا يصدقون أياً من هذه الادعاءات. عندما سألت أحد أصدقائي الإيرانيين عن ذلك سخر قائلاً: “لقد رأينا هذا من قبل في إيران. إنها لعبة قديمة، تماماً كما حدث في عام 1979 عندما كان الناس يقولون إن الخميني ديمقراطي. ثم رأينا ما حدث.” شخص آخر من العراق ضحك قائلاً: “هو ومن حوله جهاديون. ماذا يظن الناس؟ هل يظنون أنهم فجأة غيروا ألوانهم؟”.
يكمن الخطر، بالطبع، في أنه وبمجرد أن يثبت نظام الجولاني الجديد، المقاد من العرب السنة، أقدامه ويبدأ في الشعور بمزيد من الأمان، قد تعود ألوانهم الحقيقية إلى الظهور. وحين يحدث ذلك، سيكون هناك نظام إسلامي متطرف في سوريا، وهي دولة ذات أهمية أكبر بكثير من أفغانستان أو السودان أو غيرها من الأماكن التي شهدت تطورات مشابهة.
ما الذي يمكن أن تفعله الدول الغربية أو الشعب السوري لمنع مثل هذه النتيجة؟ لا يمكنهم تغيير طبيعة مقاتلي هيئة تحرير الشام الذين تشكلت شخصياتهم بفعل سنوات طويلة من الحرب. ولا يبدو أن أحداً يرى ضرورة للقيام بذلك الآن، في هذه المراحل المبكرة، حيث تكون الجماعة ضعيفة وبالتالي تقدم جميع الإشارات التصالحية المطلوبة.
لكن يمكن للدول الغربية والشعب السوري الدفع بقوة من أجل تقاسم السلطة بشكل لا مركزي في سوريا الجديدة للحد من الأضرار التي قد يتسبب بها الجهاديون. فإذا اقتصر حكم الجهاديين على دمشق وحمص وحماة ومحافظة إدلب، مع فرض قيود على قدرتهم على ممارسة حكم ديكتاتوري مركزي على كامل البلاد، فقد يكون الوضع أكثر قابلية للإدارة. يمكن للطائفة العلوية أن تظل آمنة داخل إداراتها المحلية على الساحل، وينطبق الأمر نفسه على الدروز في الجنوب الغربي، والكرد في الشمال الشرقي، والمجتمعات المسيحية المنتشرة في أنحاء البلاد.
إن نتيجة كهذه ستكون في مصلحة معظم سكان سوريا، وكذلك في مصلحة القوى الغربية التي تخشى ظهور نظام إسلامي متطرف جديد في دمشق. لكن ذلك سيواجه معارضة شديدة من تركيا، التي تسعى حالياً إلى تدمير نموذج الحكم الذاتي المحلي الذي يقوده الكرد الموجود في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا. وقد كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 23 ديسمبر تصريحات أدلى بها في مناسبات عدة، معارضاً اللامركزية، حيث قال: “الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وبنيتها الموحدة تحت أي ظرف من الظروف هو موقف تركيا الثابت. لن نتراجع أبداً عن هذا.”
لا تزال تركيا، بالطبع، الداعم الرئيسي لهيئة تحرير الشام، كما أنها تستخدم قوة سورية أخرى بالوكالة تعرف بالجيش الوطني السوري ، والذي يتكون من جهاديين سنة ومرتزقة. الجيش الوطني السوري يهاجم حالياً الإدارات الذاتية التي يقودها الكرد وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال وغرب سوريا. ويجب علينا أيضاً أن نتذكر أن تركيا، ومنذ فترة ليست بالبعيدة، كانت هي التي سمحت لمجندي وموارد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالمرور عبر تركيا إلى سوريا.
النتيجة مأساوية، سيما وأن الإدارات الذاتية في شمال شرق سوريا تبقى الشيء الجيد الوحيد الذي انبثق من الحرب الأهلية السورية (بالإضافة طبعاً إلى الإطاحة بالأسد الآن). هذه الكانتونات ذاتية الحكم العلمانية وفرت ملاذاً آمناً للكرد والعرب والمسيحيين والإيزيديين والأرمن والسوريين العلمانيين وآخرين، الأمر الذي أبقى ملايين اللاجئين بعيداً عن حدود أوروبا. كما أن المناطق الذاتية تشجع حقوق المرأة وترتقي بالنساء والأقليات إلى المناصب القيادية العليا.
في أواخر نوفمبر 2024، زرت الإدارات الذاتية في شمال شرق سوريا. كانت هذه أول رحلة لي إلى سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية في 2011، وكنت أريد أن أرى بنفسي كيف تبدو هذه المناطق ذات الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع. كنت أتوقع، نظراً للتقارب الأيديولوجي بين المجموعات الكردية السورية التي تدير المنطقة وحزب العمال الكردستاني وهو تنظيم يقاتل الدولة التركية منذ الثمانينيات، أن ألتقي بأيديولوجيين وأناركيين راديكاليين يشبهون أحياناً الأكاديميين “الثوريين” الحالمين الذين أقابلهم أحياناً في الغرب.
بدلاً من ذلك، قابلت فقط، من القيادة ونزولاً إلى الناس العاديين الذين تحدثت معهم، أناس براغماتيين مهتمين بتحسين حياتهم، والحفاظ على سلامتهم، ومتمسكين بالاستقرار الذي حققوه من خلال الهزيمة التي ألحقوها بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المنطقة. كانت أسئلتهم لي هي: “من سيساعدنا؟ هل ستقف أمريكا إلى جانبنا؟ هل ستساعدنا إسرائيل في الدفاع عن أنفسنا؟ ماذا يمكننا أن نفعل لإقناع تركيا بتركنا وشأننا؟ نحن لسنا حزب العمال الكردستاني، ولا نريد قتالاً مع تركيا.”
عندما سألتهم عن كيفية إدارتهم للمنطقة، كانت إجابتهم تدور حول اتخاذ القرارات بشكل لا مركزي ومن خلال اعتماد مبدأ التجربة والخطأ. عندما رفضت القبائل العربية في دير الزور والرقة (عاصمة داعش السابقة) جهودهم لحظر تعدد الزوجات، قالوا: “حسناً، افعلوا ذلك بطريقتكم في البلديات التي تديرونها. لكننا سننظم حملة توعية لتشجيع الحد من هذه الممارسة.” وعندما جاء ناشط من إسبانيا ورفع علم قوس قزح الخاص بمجتمع الميم في وسط الرقة، طردوه، معللين ذلك بأنهم مع حقوق مجتمع الميم، ولكنهم لا يحتاجون إلى شخص يثير غضب المجتمعات المحافظة ويزعزع استقرار المنطقة. وعندما سألتهم عن الرأسمالية، ضحكوا وقالوا: “نحن لسنا ضد الرأسمالية. نحن نريد التجارة، ونريد الاستثمار، ونريد أن نكون جزءًا من الاقتصاد العالمي. نحتاج إلى حدود مفتوحة ومزيد من السلع.”
المنطقة، بالطبع، ليست يوتوبيا ديمقراطية، فالأحزاب السياسية المتنافسة، بما في ذلك الأحزاب الكردية، ممنوعة من العمل في المنطقة، وتعمل قوات سوريا الديمقراطية والقوات المرتبطة بها جاهدة للحفاظ على احتكارها في استخدام القوة ومنع أي مجموعات مسلحة أخرى من الدخول. مع ذلك، ورغم الحدود المغلقة مع تركيا، إلى جانب غياب شبه كامل للتجارة مع بقية سوريا، والانفتاح المحدود للغاية على كردستان العراق، فإن المنطقة قامت بإعادة البناء من آثار الحرب بشكل مثير للإعجاب. لم يتبقَ سوى القليل من المباني المدمرة. ومع حصولهم على فقط القليل من الراحة من الحرب، رحبت الإدارات المحلية بالتنوع العرقي والديني، مما وفر مساحة آمنة لجميع المجموعات هناك لسنوات عديدة. ومع دفعة إضافية نحو التعددية السياسية، يمكن أن يصبح هذا النوع من الترتيبات نموذجاً لـ اللامركزية وتقاسم السلطة في سوريا الجديدة. فاللامركزية ستطمئن جميع المجموعات المتباينة في البلاد بأن لها مكاناً ودوراً في المستقبل.
إن الغرب، القلق من احتمال ظهور نظام سلفي ديكتاتوري في دمشق، سيكون من الحماقة أن لا يدافع عن البديل الموجود فعلياً وعلى الأرض في سوريا. ورغم أن ذلك سيتطلب صراع إرادات مع تركيا، فإن الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، بقواتها البالغ تعدادها 2000 جندي في شمال شرق سوريا، يمكنها ويجب عليها أن ترسل إشارة واضحة بأنها لن تتخلى عن المجتمعات المختلفة هناك، وفي الوقت نفسه ضمان عدم تهديد هذه المجتمعات لتركيا. يمكن لواشنطن أن تلعب دور الوسيط في عملية انتقال سياسي في سوريا تتيح تطبيق اللامركزية في سوريا الجديدة، مما يوفر الأمل لجميع السوريين.
إذا سمحنا، بدلاً من ذلك، لأنقرة ووكلائها بالمطالبة بنظام سوري جديد مركزي وسلطوي بشكل مفرط، فإن الحرب الأهلية السورية لن تكون قد انتهت حقاً. سوف يقاتل الكرد ضد أي محاولة لاستبعادهم وإسكاتهم كما حدث في السابق، وكذلك ستفعل المجموعات الأخرى من غير العرب السنة.
يشغل ديفيد رومانو كرسي توماس جي سترونغ في سياسة الشرق الأوسط بجامعة ولاية ميسوري. وهو مؤلف كتاب الحركة القومية الكردية The Kurdish Nationalist Movement (Cambridge University Press, 2006) وهو المحرر المشارك في كتابي الصراع، الديمقراطية والقضية الكردية في الشرق الأوسط Conflict, Democratization and the Kurdish Issue in the Middle East (Palgrave Macmillan, 2014) والكرد في الشرق الأوسط: مشكلات مستمرة وديناميكيات جديدة The Kurds in the Middle East: Enduring Problems and New Dynamics (Lexington, 2020). من عام 2010 إلى 2020، تولى كتابة عمود سياسي أسبوعي في موقع روداو، أكبر موقع إعلامي كردي. وفي عام 2024، عمل أستاذاً زائراً في جامعة كردستان في هولير (إقليم كردستان العراق).
رابط المقال الأصلي بالإنكليزية:
https://nationalinterest.org/feature/syrias-future-depends-kurds-214470/
Sign up to discover human stories that deepen your understanding of the world.
Free
Distraction-free reading. No ads.
Organize your knowledge with lists and highlights.
Tell your story. Find your audience.
Sign up for free
Membership
Read member-only stories
Support writers you read most
Earn money for your writing
Listen to audio narrations
Read offline with the Medium app
Try for 5 $/month
Syria
Kurds
Kurdistan
USA