لسوء طالع السويداء أن الأحداث العاصفة في المنطقة جعلت من انتفاضتها حدثاً هامشياً، أو منسيّاً، في لجة الأحداث التي تدور رحاها في غزة. لكن هذا الحراك الاحتجاجي على درجة من الأهمية لجهة أنه أعاد للسوريين هناك الحق في “امتلاك الكلام” على ما تنطوي عليه ممارسة هذا الحق من تضارب في الأقوال، ذلك أن نظرة إلى لافتات وتعليقات محتجي السويداء تكشف الاختلافات في ما يراه المحتجّون؛ فالأمر أقرب إلى برنامج “ما يطلبه الجمهور” (وهو حقّ لجمهرة المحتجّين على أيّ حال)، إذ سنلحظ من يركّز على “إسقاط النظام” وحسب، ومن يرى في النظام والائتلاف، أو النظام وجماعة الإخوان المسلمين وجهان لعملة واحدة. وبينما يصرّ البعض على سلمية الاحتجاجات ويرفض العنف، تبرز إشارات عن حق الأهالي في الدفاع عن النفس وأن “الرصاصة في بيت النار”، بمعنى أن حق اللجوء للعنف سيكون فيما لو ردّ النظام على سلمية الاحتجاجات بالعنف.
واقعياً، حسمت السويداء موقفها من نظام دمشق رغم كل ما يدور داخل وفي محيط سوريا، فيما الفئة المؤيدة للنظام فيها أو خارجها تؤثر الصمت بوصفه طريق السلامة في مواجهة أغلبية غاضبة ومفقرة وفاقدة لكل رجاء بنظام لا يراكم إلّا المشاكل. حسم السويداء لا يقابله حسمٌ للنظام حول أيّ الحلول الواجب اتباعها للتعامل مع ما يمكن أن نسميه “عقدة السويداء”، إذ إن طبيعة النظام قائمة على رفض منطق الحوار والانصياع لمطالبات السوريين مهما كانت متواضعة، فيما جوهر النظام قائم على مضامين القسوة والإخضاع والقهر. هذا الفهم الابتدائي لطبيعة وجوهر النظام يحتّم على المراقبين طرح السؤال المتصل بمستقبل الجبل وإمكانية أن يدخله النظام في دورة العنف المجرّبة والمدمّرة.
من بين الأمور المقلقة هو احتمال لجوء النظام لحلّ الحسم العسكري لتطويع السويداء. مثل هذا السيناريو لا يزال يلوح في الأفقين المتوسط والبعيد حال نضوج ظروف التدخّل العسكري، وربما بعد أن تبرد الحرب في غزة التي ما زالت قابلة للتمدد إلى جبهات أخرى من بينها إقحام سوريا في مجرى الأحداث. لكن، ثمة مسائل، قد تكون إحداها أو كلها، حائلاً دون لجوء النظام إلى العنف والقمع العاري، من ذلك:
طبيعة المجتمع الدرزي الذي أبدى مقداراً من المدنيّة، والانحياز التام للعلمانيّة بما يقطع مع كل ما هو “جهاديّ” يخيف العالم والغرب على وجه التحديد، الأمر الذي يضع النظام وحلفائه في وضع صعب ومحرج، إذ لا مبرر لشنّ حربٍ قد لا يقف فيها العالم على الحياد طالما أنها حرب لا تستهدف قوى جهادية.
السبب الآخر يتمثّل في أن الوشائج والتضامن الدرزي العابر للحدود السورية قد تعرقل رغبة النظام في الاعتماد على عضلاته العسكرية بوصفه سلوكاً مثيراً لدروز الجوار، في لبنان وإسرائيل، وهو ما لا يريده النظام في هذه الأثناء خاصة وأن دروز البلدين يتمتّعان بشبكة علاقات داخلية ودولية قد تؤذيه حال اعتماده على وصفته المتّبعة بغير مكان في سوريا.
إضافةً إلى تحوّط النظام لاحتمالية حدوث تدخّل أمريكي إذما تطوّرت الأوضاع وبلغت مستوىً يستدعي تدخل واشنطن التي باتت توسّع نطاق تواجدها في المنطقة على ضوء الحرب في غزة، ففي لحظة غير متوقّعة إبان معركة كوباني بين وحدات حماية الشعب وتنظيم داعش، في الكيلومتر صفر، ظهر الأميركان على حين غرة وساندوا الوحدات وراكموا علاقاتهم معها عبر القوات التي تشكّلت لاحقاً (قسد)، هذا احتمال وارد في حال ظهور مقاومة داخلية (درزية).
يضاف إلى ما سبق، احتفاظ النظام بكتلة صغيرة نسبياً داخل المجتمع الدرزي في سوريا ولبنان، وكتلة حيادية متخوّفة من التصعيد، لا يريد النظام خسارتهما بفعل التصعيد العسكري.
ومن الأمور المقلقة أيضاً أن يلجأ النظام إلى إطباق الحصار على المحافظة، ومثل هذا الاحتمال قد يكون ضعيفاً أيضاً، ذلك أنه قد يجدّد فكرة المطالبة بإنشاء “ممر إنسانيّ” مع الأردن. آنذاك ستصبح السويداء خارجة عن السيطرة الرمزية للنظام الذي لا يريد أن يدفع منطقة حدودية للاعتماد على المحيط الإقليمي، خاصة وأن فكرة “الممرّ” قد تلقى قبولاً إقليمياً وتشجيعاً من قبل واشنطن وربما غض طرف روسيّ كذلك.
لكن ماذا لو أهمل النظام كل السويداء، باحتجاجاتها وانتفاضتها المتواصلة وتقريعها الساخر له، ثم أهمل “مسؤوليته الاجتماعية” تجاهها كصرف الرواتب وتأمين الوقود والخدمات وسواها، ألن يدفع سلوك النظام آنذاك المحتجين للشعور باللاجدوى والرتابة والسأم، وبالتالي وقف الاحتجاجات أو تحوّلها إلى ما يشبه الطقس اليومي لبعض النشطاء ليس إلّا؟ خاصة وأن النظام لا يشعر بضغط حقيقي لانتفاضة لا تتخطى حدود المحافظة وسكّانها رغم كل ما تحمله من شعارات وطنية.
في مجمل الأحوال، تسير السويداء مرغمة لتصبح “إدارة ذاتية” بحكم الأمر الواقع، إذ إنها ستضطر في نهاية المطاف إلى تسيير شؤونها وتنظيم أمنها وتشكيل مرجعيتها السياسيّة، ما يعني خروجها الحتميّ على مركزية سلطة دمشق الحالية. وبمعزل عن أن صيغة “الإدارة الذاتية” قد تبدو مستفزّة لكثير من المحتجّين على اعتبارها شوّهت وأُخرجت عن مراميها الفعلية لتصبح قرينة “مشاريع انفصالية” مزعومة، وبمعزلٍ أيضاً عن أن المزاج العام الدرزي لا يميل تاريخياً أو حالياً للمطالبة بأي درجة من الحكم ذاتي، فإن مشروع “إسقاط النظام” أو إرغامه على القبول بالتغيير أو حتى الموافقة على تنفيذ القرار 2245 يبدو أكبر من حجم وإمكانيات مظاهرات طرفيّة محدودة ومقطوعة الصلة ببقية سوريا، وعليه قد ينزاح المنتفضون إلى مشاريع محليّة وفق ما تفرضه الظروف.
إن كثرة الاحتمالات التي تفرضها احتجاجات السويداء، تفرض قلقاً في اتجاهين، قلقٌ محلّي ومخاوف من بلوغ مرحلة العنف المكلفة، وآخر يساور النظام من أن تسير الأوضاع إلى حيث تدخّل أطراف إقليمية ودولية لصالح المحتجين. لكن في المقابل، قد يكون هذا القلق أمراً إيجابياً لأنه قد يساهم في تجميد رغبة الطرفين في المضي نحو مواجهة دموية وعبثية.