من “لزرعلك بستان ورود”، إلى “عالروزانا”، مروراً بـ”يابو ردين يابوردانه”، وصولاً لـ”سوريا بدها حرية”، نمرّ اختصاراً ليس اشتمالاً، لنستنتج أن فن الغناء متأصل في السوريين منذ القدم. فتراهم يغنّون بكل حالاتهم، حين يعملون ويكتبون، وحين يشيعون شهداءهم، وحين يحاربون ويزارعون ويتنقّلون ويتغزّلون، ولا شك حين يثورون. فالغناء الثوري حالة استمرارية لهذا الفن.
وبالعودة السريعة للتاريخ، فإن التحولات السياسية في النصف الأول من القرن العشرين انعكست على المشهد الثقافي والموسيقي السوري لسنوات عديدة، وذلك مع غياب الاستقرار وتقسيم بلاد الشام، فضلاً عن الفوضى السياسية الداخلية حتى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سلطة الحكم عام 1963، الذي جنّد الموسيقى والفن السوري بكل أنواعه لخدمته، حتى تاريخ الثامن من ديسمبر عام 2024.
مع بداية الاحتجاجات والمطالبات برحيل نظام بشار الأسد ومن ثم المعارك والحروب التي راح ضحيتها آلاف المدنيين، وصولاً إلى اللجوء ومخاطر الهجرة ونشأة المخيمات في الشمال السوري، فإن الفن الغنائي عاصر جميع هذه المراحل، والجدير بالذكر أن الإنشاد والغناء حينها نشأ من كلمات وألحان السوريين أنفسهم، فقد شكلت هذه الأغاني جزءا هاما من الهوية الثورية للشعب السوري، لأنها نقلت رسائل سياسية وثقافية ووحدت الأصوات المعارضة ضد القمع والقتل وطالبت بالحرية والعدالة.
أغانٍ لمعت في الأشهر الأولى من الثورة السورية
نبدأ من حماة التي ضمّت التظاهرات فيها حشوداً مليونية في ساحة العاصي، استمرت لشهرين منذ بداية الثورة، حتى اقتحمها جيش النظام وأنهى الحراك فيها برمضان 2011. ولأن أغاني الثورة تبدو أقرب لذاكرة الشعب إذا كانت تُصنع من واقع الأحداث ليس من قواعد اللغة أو عبر التصنّع، برز اسم المنشد الحموي إبراهيم القاشوش، الذي غنى الأنشودة الشهيرة “يلا ارحل يا بشّار” بمدينة حماة السورية في تموز 2011، والتي باتت رمزاً للاحتجاجات، وأخرى بعنوان “سوريا بدها حرية”.
ومن كلماتها:
وبدنا نشيلو لبشار وبهمتنا القوية
سوريا بدا حرية… سوريا بدا حرية
وبلا ماهر وبلا بشار وهالعصابة الهمجية
بعد ذلك اختُطَف القاشوش وقُتِل بحسب روايات الأهالي، وانتشر خبر مقتله في القنوات الإعلامية، حيث نشرت صور لجثة مرمية عند نهر العاصي من دون حنجرة، قالت مصادر إعلامية إنها تعود له، ليأتي عازف البيانو السوري مالك جندلي، ويخلّد كلماته ضمن سيمفونية أدخلت الثورة بقالب الموسيقى الغربية، كما أطلق الجندلي أغنيته “وطني أنا”، التي أدت لتعرض والديه للضرب بعد اقتحام منزله في حمص من قبل نظام الأسد.
انتقلت التظاهرات إلى حلب، بعد اقتحام النظام لمدينة حماة، وكانت الأهازيج والأغاني الثورية أساسها. حينها برز اسم الحلبي جهاد سقا الملقب بـ”أبي الجود”، الذي يتقن العزف على آلتي البيانو والعود، ويشارك بهما في الاحتفالات، ويتحدث سقا في تصريحات إعلامية: “نحن في حلب لا غنى لنا عن الطرب، وكان الوسيلة التي نعبر فيها عن مطالب ثورتنا. وكنت أغني في التظاهرات وكثيراً ما كان يرافقني منشدون آخرون أبرزهم عبد الوهاب الملا”.
الساروت… وأمسيات الثورة
لا يمكن أن نكتب عن أناشيد الثورة السورية، من دون أن نذكر أهم منشديها في حمص، وهو عبد الباسط الساروت، حارس نادي الكرامة السوري ومنتخب سوريا للشباب سابقاً، الذي اعتاد على إحياء التظاهرات بصوته وأغانيه، أشهرها “جنة جنة جنة… جنة يا وطنا”.
وبحسب روايات الأهالي الذين أحيوا التظاهرات رفقة الساروت، فإنه كان يطلق أمسيات ثورية في مدينة حمص-مسكنه- وتحديداً في حي الخالدية، مستفيداً من اللهجة المحلية الحمصية. وكانت تشاركه الممثلة السورية فدوى سليمان.
كذلك عاش الساروت أحداث بداية الثورة، اذ بقي في حمص، وغنّى لها: “لأجل عيونك يا حمص”. وعندما اشتدت المعارك حينها، أطلق أنشودة “يايُمّا بثوب جديد… زفيني جيتك شهيد”، ولحّنها من المغترب “وصفي المعصراني” الذي سنذكره لاحقاً. وبعد وصول الساروت لإدلب قاتل هناك حتى توفي عبر قصف مكثف في حزيران 2019.
حنجرة شعبية ثورية
وانضمت دمشق لهتافات المنشدين بخاصةً في الغوطة الشرقية، وهنا نذكر أبو ماهر صالح الذي غنّى أثناء حصار الغوطة “سوريا يا أرض الكرم… شعبك الجبّار وقت المحن”. وهناك العديد من المنشدين الذين برزوا في صفوف الثوّار وغنّوا ضمن الألحان الشعبية والمواويل والقدود الحلبية، مثل أبو مالك الحموي، خاطر ضوّا، أحمد القسيم من حوران، وقاسم الجاسوس.
وبالانتقال إلى الجنوب السوري، انتشر صوت الفنان السوري أحمد القسيم من سهل حوران -الحراك، الذي بدأت رحلته مع الموسيقى في مدرسته واصدر الكثير من من أغاني الدبكات والمجوز كفن غنائي شهير في الجنوب السوري، وعن الثورة فهو صاحب أغنية “أنت سوري حر” التي غنّاها أخيرا العديد من نجوم الوطن العربي ومنهم الفنانة أصالة.
وكان للشعراء أيضاً دور غنائي في الثورة، أهمهم الشـاعر والمطـرب السـوري سـميح شقـير صاحب أغنيـة “يـاحيف” التي أهداها لشهـداء درعـا السورية وأطفالها، هذه المدينة التي يعرف أبناؤها بأنهم أول مـن وقف في وجـه نظـام الأسـد.
وعن أغنية “ياحيف” قال شقير في لقاءات إعلامية عدّة إنه “بعد صدمته من المشاهد التي بُثت على الإنترنت، أمسك العود وخرجت معه الكلمات تلقائياً دون تحضير مسبق، ثم سـجلها ونشرها علـى يوتيـوب، وفي اليوم التالي حصدت الأغنية أعـداداً كبيرة من المشاهدات، وأصبح الناس يرددونها في ساحات التظاهرات وحتى المساجد”.
“سكابا يا دموع العين”
في الاغتراب، برز وصفي المعصراني الذي سار مع انتفاضة الشعب، وغنّى لها منذ بداية الحراك في درعا، و من أشهر أغانيه: “سكابا يا دموع العين سكابا على سورية وشبابها، حلم الشهادة، أصابع نصر، شدّو الهمّة” وغيرها، وأحيـا المعصراني احتفالات عدّة مناصرة لثورة الشعب السوري في أوروبـا وبعـض البلـدان العربيـة.
كذلك، برزت أنواع مختلفة للأغنية الثورية، مثل “الراب”، فأطلق أمير المُعَري أغنية بهذا الأسلوب في أيلول 2019، قال فيها:
هون معقل اتفاقيات الروسي
فحدّد انتماءك بين القاعدة أو الحكم المجوسي
لأنو صواريخن ما بتصيبك لو كنت بصفّن
وعندما نقول أغنية وطنية، فإن أول ما يتردد لمخيلتنا حشد من الناس يتظاهرون ويغنّون لرفع أصواتهم. لكن القضية لدى نظام الأسد لم تكن مجرد أغنية، بل كانت تهديد صريح للسلطة وأداة إعلامية تنقل للعالم الخارجي مجريات الثورة ومطالب الشعب. ولهذا كان الأمن العام التابع لنظام الأسد يتعامل معها بصرامة وباستخدام القوّة عبر القتل والتهديد والمداهمات كنوع من قمع حرية التعبير وإبداء الرأي، وكل من كان يشارك بهذه الهتافات يلاحق بتهمة التحريض ونشر الفتنة وتهديد السلم والامن في البلاد.
وبالانتقال لكلمات الأغاني في الثورة السورية، فهي غالباً ما تكون من رحم الواقع الذي يعيشه مؤلف الأغنية أو ملحّنها، أو السوريون عموماً الذين هتفوا في التظاهرات. ونستذكر منها كلمات أغنية “يا عيني ويا روحي السوري شايف حالو”، التي انتشرت في تموز 2011، وتتضمن:
يا عيني ويا روحي والسوري شايف حالو
والحمصي خفيف الدم ضحكو بنسيك الهم
ما همو رصاص ولا دم وعايش ولا على بالو
ونعرض في هذا السياق كلمات أغنية “الجيش الحر” لوصفي المعصراني، وهي:
جبينك عالي وما بينطال يا هالجيش السوري الحر
شرفك مضـــــــــــرب للأمثال هديرك من موج البحر
واحد متلك يسوى مية أنت يا جيش الحـــــرية
بالنسبة للجانب التمثيلي أيام الثورة، فيجب التنويه إلى قلّة المسرحيات والتمثيليات التي تحدثت عن الثورة السورية، رغم وجود بعضها مثل أعمال الفنان نوار بلبل. كذلك ظهرت بعض الأفلام القصيرة، مثل فيلم “الملك لا يموت” للمخرج يامن المغربي، والأعمال السينمائية التوثيقية، مثل فيلم “العودة إلى حمص” للمخرج عبد الرحمن النحاس.
أما درامياً، فإن مسلسل “الولادة من الخاصرة” من أهم المسلسلات التي تحدثت عن الثورة السورية منذ البداية وجسدت واقع نظام الأسد مع مشاركة ممثلين موالين له، بالإضافة لمسلسل “دقيقة صمت” الذي تحدث عن المخابرات السورية، ومسلسل “ابتسم أيها الجنرال” واحد من أشهر المسلسلات التي عرضت حكم نظام الأسد بطريقة ذكية.
صوتٌ للحاكم… بحسب المعطيات!
ومن جهة أخرى، وفي البلاد ذاتها، ولكن على ضفة حكم نظام الأسد، تجد إيقاع الفرقة الموسيقية الوطنية وترانيمها بقيادة المايسترو عدنان فتح الله. وفي مثل هذه الأمسيات، كان يقدم عدد من الفنانين السوريين والإيرانيين أغاني وطنية من أجل تضحيات جيش النظام السابق وتخليداً لأرواح الشهداء كما كان يرد في إعلانات الأمسيات. وليس غريباً أن تجدها تخليداً لذكرى استشهاد أحد القادة الإيرانيين، مثل إحياء الذكرى الرابعة لاستشهاد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. والجدير بالذكر أنها كانت تقام على خشبة مسرح دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق -سابقاً.
وعلى الخشبة ذاتها أحيا نجوم عرب العديد من الاحتفالات الوطنية، وكانت الأغنية السورية الوطنية تصعد على سلم السلطة حينها. وبحسب مصادر إعلامية، فإن الدار استضاف في فترة حكم النظام عروض غنائية متمثلة بالأوبريت الغنائي، أهمها العرض الغنائي الأول لأوبريت “الحرية الحمراء” من تأليف الشاعر اللبناني نزار فرنسيس، وألحان الموسيقار السوري طاهر مامللي. والحقيقة أن هذه الأمسيات لها جمهورها. فلا أحد يستطيع إنكار وجود آلاف المستمعين والمشاهدين، فهنا للأغنية طابع آخر لأنها ممزوجة بنصر من نوع آخر.
ومدح القادة ظاهرة انتشرت قديماً عبر الشعر. ولا شك في أنها موجودة حتى يومنا هذا، خصوصاً في سوريا. فهناك الكثير من الفنانين الذين غنّوا للريئس السابق حافظ الأسد وابنه بشار وأخيه ماهر حتّى، مثل جورج وسوف، فارس كرم، معين شريف، وعلي الديك. وهذا الأمر لم يقتصر على السوريين، فاستخدم النظام مطربين عرب لتمجيد بطولاته، مثل أغاني المطرب المصري وحيد زاهر صاحب أغنية “يا كايدهم يا بشار”.
أضف إلى ذلك أغاني فراس الحمزاوي، ريم نصري، ومصطفى الخاني. وبعد انتصار الثورة السورية في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، انتشرت ظاهرة مدح القادة بالغناء من جديد. واللافت أنها بأصوات من غنّوا لحكّام سابقين، وأطلق الشعب السوري عليهم مصطلح “المكوعون”، في إشارة الى الذين كانوا يمجدون حكم الأسد، ثم ناصروا الثورة تماشياً مع الأوضاع. ونذكر هنا المطرب حسام جنيد، الذي نشر مقطع فيديو غنّى خلاله موّالاً مدحاً بـ”أحمد الشرع”، بعد أن استخدم صوته مرات عدّة لتمجيد نظام الأسد. فهو صاحب أغنية “يا بشار متلك مين”!
خلطة سحرية
وبمعزل عن الأغنية الوطنية، يمكن القول إن الفن الغنائي في سوريا هو من أصالة البيئة السورية. وأقصد هنا تنوع الأديان والطوائف والمرجعيات والقوميات، الذي أضاف الى الأغنية السورية طابعاً خاصاً. فتجد الهولية والجوفية في الجنوب، والأغنية الجزراوية في المنطقة الشرقية وفيها السريانية، والآشورية. أما في حلب والمنطقة الشمالية، فهناك مزيج بين الأغنية الكردية والشركسية والأرمينية. أضف إليها العتابا والميجانا في الساحل السوري، والأغنية الشعبية كالموال والدلعونا كنوع تشترك به معظم المحافظات السورية.
وحول ما سبق، تقول الكاتبة هلا مصطفى، وهي كاتبة وصحافية وباحثة في التراث الموسيقي في سوريا وبلاد الشام، إنه “نتيجة سنوات طويلة من التعليب والقمع الفكري والإبداعي، واحتكار أدوات الإنتاج والبث، تليها سنوات الحرب والنزوح والهجرة والشتات، نجد أن الإنتاج الموسيقي السوري اليوم هو الأفقر في المنطقة”.
وما تم ذكره ليس إلا نقطة في محيط الفن الغنائي السوري، الذي أثبت على مر العقود أنه روح البلاد بكل أحوالها. وأترك قلمي هنا لأسال من قرأ هذه المادة؟ وما نوع الغناء الذي قد ينتشر في سوريا في المرحلة المقبلة؟ وهل تتمنى العودة إلى الزمن القديم للأغنية السورية؟