فلسطين ليست مجرد بقعة أرض مفتوحة للمستثمرين على أطراف البحر المتوسط؛ عندما يُجبر أهل غزة على الاختيار بين الموت والتهجير سيختارون، كما فعلوا دائما، الموت على التهجير.
في 12 أكتوبر 1492 وصل كولومبوس إلى جزر بهاما ممهدا الطريق لحقبة الاستعمار الأوروبي للأميركتين. آنذاك كان عدد السكان الأصليين في المنطقة التي تُعرف حاليا باسم الولايات المتحدة يتراوح بين مليونين وثمانية عشر مليون نسمة. كان بين المستعمرين الأوائل رجالٌ طموحون اكتشفوا أهمية المنطقة وما توفره من إمكانيات للتطوير، إلا أن طموحاتهم اصطدمت بوجود السكان الأصليين الذين أُجبروا في ما بعد على مغادرة أراضيهم أو الموت. وشهدت المنطقة عمليات تهجير قسري تحت مسمى “قانون إزالة الهنود”، وعُرفت باسم “درب الدموع”، تم خلالها تهجير القبائل إلى المناطق الغربية.
بعد حفل تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة كتبت تحت عنوان “ترامب، رجل الأعمال الذي امتهن السياسة”، متسائلاً: ما هي الصورة التي رسمها ترامب في خياله وهو يصف غزة قائلًا إنها “موقع هدم ضخم.. يمكن القيام ببعض الأمور الجميلة هناك.. الساحل مذهل والطقس والموقع رائعان.. يمكن تحقيق أشياء رائعة”؟ أجبت عن هذا التساؤل قائلاً: على الأرجح، الصورة التي ارتسمت في مخيلة ترامب تشبه بشكل أو بآخر صورة لاس فيغاس، ولكن بموقع أكثر أهمية، في قلب العالم، وعلى بعد مسافة قصيرة من روما وباريس وإسطنبول. لم أبتعد كثيرا عن الجواب الصحيح.. الصورة التي ارتسمت في مخيلة ترامب كانت للريفييرا.
هذه ليست المرة الأولى التي يشير فيها مطور العقارات إلى أهمية موقع غزة، سبق أن أدلى بتعليقات خلال مقابلة في ذكرى مرور عام على هجمات حماس (7 أكتوبر – تشرين الأول 2023) على إسرائيل، قال فيها إن غزة يمكنها أن تكون “واحدة من أفضل الأماكن في العالم” بسبب موقعها على البحر المتوسط، معيبا على الفلسطينيين أنهم “لم يستغلوها أبداً بالشكل الجيد.”
◄ نتنياهو اعتبر كلام ترامب بمثابة شيك على بياض للعودة إلى استخدام القوة إذا لزم الأمر، ولم يستبعد عودة الحرب مع حماس أو مع “أعداء إسرائيل الآخرين في المنطقة”
ما اعتقد البعض أنه مزحة أو كلام عابر يمحوه النهار، ثبت بعد أيام قليلة أنه تفكير جدي، على الأقل بالنسبة إلى إمبراطور العقارات، الذي كشف يوم الثلاثاء عن خطة تتيح للولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى، سواء أرادوا المغادرة أم أكرهوا على ذلك، وتحويل المنطقة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
أعلن ترامب عن اقتراحه خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو أول زعيم أجنبي يلتقي به ترامب في البيت الأبيض بعد حفل التنصيب. ولكن لم يعط تفاصيل حول كيفية نقل أكثر من مليوني فلسطيني لتفريغ غزة من أهلها والسيطرة عليها. اكتفى بالقول إنه سيجعل القطاع المدمر بسبب الحرب “لا يصدق” من خلال إزالة القنابل غير المنفجرة ورفع الأنقاض تمهيدا لتطويره اقتصاديا.
واقترح ترامب “ملكية طويلة الأمد” لغزة من قبل الولايات المتحدة، لافتا إلى أن خطته ستجعل من القطاع المدمر شيئا بالغ الروعة.
ولم يخف ترامب، الذي أعلن أيضا عن نيته زيارة غزة، أن خطته لإعادة بناء القطاع لن تكون لصالح الفلسطينيين. قال بصريح العبارة “لا ينبغي أن تمر المنطقة بعملية إعادة إعمار وتوطين من نفس الأشخاص الذين (…) عاشوا هناك وماتوا هناك وكان لهم وجود بائس هناك،” مؤكداً أن الولايات المتحدة هي التي ستتولى السيطرة على القطاع، وأن هناك دعما من “أعلى القيادات” في الشرق الأوسط، في إشارة واضحة إلى السعودية والأردن ومصر وقطر.
◄ هذه ليست المرة الأولى التي يشير فيها مطور العقارات إلى أهمية موقع غزة، سبق أن أدلى بتعليقات خلال مقابلة في ذكرى مرور عام على هجمات حماس (7 أكتوبر – تشرين الأول 2023) على إسرائيل
كلام ترامب لم يقتصر على تصوير الجنة الموعودة التي سيبنيها، والتي سيكون لها أثر إيجابي على المنطقة كلها، ولم ينس التلويح باستخدام القوة، قائلاً إن خطته قد تتطلب وجود قوات أميركية على الأرض “إذا لزم الأمر.”
رجل يفكر بهذه الطريقة ليس غريبا أن يحظى بإشادة نتنياهو، الذي سارع إلى وصف ترامب بأنه “أعظم صديق لإسرائيل على الإطلاق،” وأن خطته للسيطرة الأميركية على قطاع غزة يمكن أن “تغيّر التاريخ.”
واعتبر نتنياهو كلام ترامب بمثابة شيك على بياض للعودة إلى استخدام القوة إذا لزم الأمر، ولم يستبعد عودة الحرب مع حماس أو مع “أعداء إسرائيل الآخرين في المنطقة،” بما في ذلك “حزب الله اللبناني وإيران”، مؤكدا أن إسرائيل ستنهي الحرب بكسبها، وأن السلام بينها وبين السعودية ليس ممكنا فحسب، بل سيتم.
وكانت الدول التي توسطت لوقف إطلاق النار، مصر والأردن وقطر، قد رفضت بشكل قاطع اقتراح ترامب نقل الفلسطينيين من غزة. وأعلنت السعودية مباشرة بعد تصريحه أنها لن تطبع مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية، وأنها لن “تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.”
تجارب ألف عام وأكثر من الحروب والصراعات في المنطقة تكفي لإقناع الجميع بأن مخطط مطور العقارات وتابعه نتنياهو لن تكفيه أربع سنوات ليتحول إلى أمر واقع.
فلسطين ليست مجرد بقعة أرض مفتوحة للمستثمرين على أطراف البحر المتوسط. عندما يُجبر أهل غزة على الاختيار بين الموت أو السير على “درب الدموع” الذي سار عليه سكان أميركا الأصليين مرغمين، سيختارون -كما فعلوا دائما- الموت على التهجير.