دمشق ـ «القدس العربي»: على بعد كيلومترات قليلة غرب العاصمة السورية دمشق، تقع منطقة يعفور. هنا، خلف أسوار مشددة وحواجز عسكرية تابعة للفرقة الرابعة، كانت تنبض حياة مختلفة تماماً عن بقية سوريا. قصور فاخرة، فلل بتصاميم أوروبية، حدائق مترامية الأطراف، وسراديب تحت الأرض ليست فقط لتخزين النبيذ الفاخر، بل أيضاً لإدارة صفقات مشبوهة.
هذه المنطقة لم تكن مجرد حي راقٍ، بل أصبحت بمرور السنين رمزاً للترف الفاحش لعائلة الأسد والمقربين منهم، ومنصة لتنسيق أعمال تجارية وأمنية غامضة، بما في ذلك تجارة المخدرات التي قادها ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد.
«القدس العربي» جالت في المنطقة، حيث رافق مراسلها ناطور إحدى الفلل في المنطقة منذ أكثر من 25 عاماً، ويدعى أبو عبدو.
خلال حديثه معنا، أشار إلى تفاصيل مذهلة عن المنطقة وما تخفيه خلف أسوارها. وأثناء تجولنا برفقته في فيلا ماهر الأسد، دهشنا من طول السرداب الذي يمتد من الفيلا إلى خارج منطقة يعفور بالكامل. هذا السرداب، الذي وصفه أبو عبدو بأنه «شريان سري» يعكس جانباً من أساليب النظام في تأمين ممرات خفية تُستخدم لأغراض متنوعة، من التنقل الآمن إلى نقل المواد المحظورة.
في مقابلة مع «القدس العربي» يكشف أبو عبدو عن كواليس المنطقة التي عاصر تحوّلها إلى «معقل للنخبة». ويقول: «يعفور ليست مكاناً عادياً. لا يوجد هنا أي فيلا أو منزل لمدنيين عاديين. جميع الفلل والقصور تخصّ آل الأسد أو شخصيات مقربة منهم، إما بشكل مباشر أو عبر وسطاء».
ويضيف: «المنطقة مغلقة بالكامل، وكل ما يحدث هنا يتم تحت غطاء أمني مشدد. حتى العمال الذين يدخلون لإصلاح شيء بسيط يخضعون للتفتيش الدقيق، ولا يُسمح بالدخول إلا بإذن من شخصيات عليا».
أسماء وهمية
يتحدث عن فيلا شهيرة كانت تابعة لرئيف الأتاسي، والتي استأجرتها لاحقاً منال جدعان، زوجة ماهر الأسد، قائلاً: «كنت أرى منال تتردد على الفيلا مع عائلتها. كانوا يعيشون هنا لكن بأسماء مستعارة. علمت لاحقاً أن الفيلا كانت مستأجرة من رئيف الأتاسي، لكنهم استخدموا هذه الأسماء لحماية هويتهم. هذا النوع من السلوك كان شائعاً في يعفور. الجميع هنا يعرفون أن الأسماء التي تُستخدم غالباً ليست حقيقية».
ويستطرد «لم يكن أحد يسأل أو يعترض. كل شيء كان يتم بشكل يبدو عادياً، لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت هناك قصص لا تنتهي».
من مخلوف إلى شاليش
وحسب أبو عبدو، كان هناك توزيع غير رسمي لممتلكات المنطقة، حيث استحوذت عائلة الأسد وأقرباؤهم على النصيب الأكبر من القصور والفلل.
كانت منطقة مغلقة أمنياً… والمالكون استخدموا أسماء مستعارة… بعض العقارات يباع حاليا بأسعار منخفضة
ويقول: «يمكنك أن ترى الفلل الفخمة لكل من رامي مخلوف وحافظ مخلوف. هناك أيضاً قصر ضخم لذو الهمة شاليش، أحد الشخصيات المقربة من النظام. إلى جانب ذلك، يمتلك إياد مخلوف قصراً هنا، وهناك فيلا لوزير التعليم السابق هاني مرتضى».
وأشار إلى فيلا أخرى مؤجرة لصهر هلال الأسد.
وبيّن أن رئيس اتحاد المصدرين يمتلك بدوره قصراً في المنطقة.
وزاد: «كل هؤلاء الأشخاص كانوا يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر مع النظام. حتى التجار هنا لديهم علاقات وثيقة مع آل الأسد».
الأمن المشدد
كانت المنطقة تحت حماية أمنية صارمة. حاجز تابع للفرقة الرابعة، يديره أفراد مشتركون بين الفرقة وعناصر رامي مخلوف، كان يمنع أي شخص غير معتمد من دخول المنطقة.
يقول أبو عبدو «لا يمكنك الدخول إلى يعفور إلا إذا كنت شخصًا معروفًا للنظام أو لديك صلة قوية بشخصيات المنطقة. الأمن هنا كان تحت إشراف العميد ياسر عجيب، من مدينة جبلة. كان يسيطر على كل شيء في يعفور والصبورة وقرى الأسد وحتى قطنا. وجوده كان يعني أن المنطقة محمية بالكامل من أي تدخل خارجي».
بذخ وترف
داخل الفلل كانت مظاهر البذخ واضحة بشكل صارخ.
يقول أحمد سرحان من الأمن العام لـ«القدس العربي»: «حين دخلنا إلى يعفور كنا مذهولين مما وجدناه؛ صناديق فارغة لساعات رولكس وكارتييه متناثرة في المخازن. زجاجات نبيذ فرنسي وفودكا فاخرة كانت منتشرة. وجدنا عبوات ذخيرة فارغة بجانب المسدسات التي تُستخدم للحماية الشخصية». وأشار إلى أن «تصميم الفلل والمعمار في يعفور كان مختلفًا تمامًا عن بقية سوريا. الفلل هنا تم بناؤها وكأنها من كوكب آخر. سراديب تحت الأرض، قاعات رياضية خاصة، ومسابح داخلية وخارجية. هذا المكان لم يكن يشبه أي مكان آخر في البلاد».
الفلل تباع بأسعار بخسة
منذ سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول، بدأت شبكات من مروجي العقارات بالعمل على بيع هذه الممتلكات بأسعار مخفضة. فيلا بمساحة 800 متر كانت تُباع بـ1.5 مليون دولار، في حين كان سعرها قبل سقوط الأسد يصل إلى 3 ملايين دولار على الأقل.
المحامي حسان بقلة، كشف في تصريح لـ «القدس العربي» عن الحيل القانونية التي تستخدمها هذه الشبكات لتبييض الممتلكات.
وأوضح: «يلجأ المروجون إلى توقيع عقود بيع بتواريخ قديمة، ثم تسجيلها في الطابو بأسماء أولاد أو زوجات رموز النظام. بعد ذلك يتم بيعها مجددًا عبر وسطاء لإخفاء الأسماء الحقيقية».
وأضاف: «هذا النوع من التحايل يُستخدم لحماية الممتلكات من أي مصادرة محتملة. لكن يجب تشكيل لجنة قانونية لمتابعة هذه العمليات ووضع حراسة قضائية على هذه الممتلكات».
بين البذخ المفرط والفساد العميق، تبقى يعفور رمزًا لحقبة مظلمة من تاريخ سوريا. مع سقوط الأسد، باتت المنطقة تواجه تغييرات جذرية، لكن المحاولات المستمرة لإخفاء ثروات النظام السابق تثير تساؤلات حول مستقبل العدالة وإعادة بناء الدول.