أصدرت وزارة الإعلام السورية تعميماً يطالب وسائل الإعلام في سوريا بـ «ضرورة الامتناع عن إجراء مقابلات أو نشر تصريحات منسوبة لشخصيات ورموز مرتبطة بالنظام السابق، التزامًا بالتوجيهات الوطنية لحفظ المصلحة العامة ووحدة الصف»، مُحذرةً من أن «أي مخالفة ستُخضِع القناة والجهة للمساءلة القانونية الفورية.» آملة التعاون والالتزام «بأخلاق المهنة وعدم الترويج للمجرمين والمتورطين بدم شعبنا ومعاناته».
وعلى ما يبدو، فإن التعميم جاء في ضوء مقابلة تلفزيونية مع وزير داخلية النظام السابق محمد الشعار على قناة تلفزيونية، من داخل مقر للسلطات السورية بعد تسليم نفسه للسلطات الجديدة.
ليس من حق وزارة الإعلام أن تمارس دور الرقابة والقمع، بل يقتصر دورها على تنظيم القطاع الإعلامي، لا التحكم فيه
كان مثيراً للاشمئزاز بالفعل أن يظهر أحد أقطاب النظام، الذي خدم المافيا الأسدية في أكثر المواقع حساسية، وبراءة الأطفال في عينيه، لكن يا وزارة الإعلام، هل تظنون أن الشعب، بما فيه أولئك الذين كانوا مع النظام حتى اللحظة الأخيرة، من السذاجة بحيث ينطلي عليهم هذا الإنكار! لكن المشكلة ليست هنا تماماً، بل في محاوريه، الذين اكتفوا بتركه يتكلم، من دون سجال أو دحض لما يقول، وما أسهل ذلك لو أرادوا.
بلا معايير واضحة
لكن تعميم الوزارة لم يقتصر على مشتبه فيه قيد التحقيق، بل تعدّاه لمنع كل «شخصيات ورموز النظام السابق»، والتعميم لا يعني المجرمين المدانين قانونياً، وأساساً لم يلحق القضاء السوري الجديد أن يحاكِم ويدين، وحين ذاك ستكون لهؤلاء قواعد أخرى، واضح أن التعميم يتحدث عن شريحة واسعة من مناصري النظام، قد تبدأ بجميل الحسن، رئيس فرع المخابرات الجوية سيىء الصيت، ولا تنتهي بنائب في برلمان النظام، أو ممثل تلفزيوني، وعلى هذا المنوال، قد يطال المنع آلاف الناس، وستكون القواعد مطاطة، بلا حدود ولا ضوابط، إذ يصعب أن يكون هناك فصل كامل بين المجرم والمتورط وغير المتورط.
إن كان المرء مجرماً فمكانه أروقة المحاكم والسجون، وبالتالي سيتعاطى الإعلام معه وفقاً لذلك، أما إذا كان طليقاً، من دون اتهام رسمي، فليس لأحد أن يحرم الإعلام من حق الوصول إليه، وإذا كانت النتيجة الإعلامية شكلاً من التبييض فحينها سيكون الإعلامي ووسيلته هما المسؤولان. وإذا عدنا لمقابلة الشعار فإن المسؤولية مهنية، إذ إن محاوره تركه من دون تدخّل أو محاججة.
إذا كان المرء مجرماً، فمكانه المحاكم، أما إذا كان طليقاً بلا اتهام، فلا يحق لأحد حرمان الإعلام من الوصول إليه
ومع ذلك، هل كنا نتوقع أن يعترف الشعار، ومنذ إطلالته الأولى، حتى قبل بدء تحقيق جديّ، بأنه مجرم! من البديهي أن ينكر، ويدّعي ما ادّعاه، وسيأتي يوم، حين تكون الحقائق دامغة، يزعم فيه أنه مجرد عبد مأمور. ما من مجرم في العالم، وعلى رأسهم المخلوع بشار الأسد، إلا وسيتكئ على نظرية محبوكة لتبرير جريمته.
هذا المنع ليس من حق وزارة الإعلام، فهو يتعارض أولاً بوضوح مع مبدأ حرية الصحافة، وأساساً ليست مهمة وزارة الإعلام المنع والسماح وفرض قيود على المحتوى، فصلاحيات وزارة الإعلام تنحصر بتنظيم قطاع الإعلام، ولذلك نجد من يطالب بإلغاء وزارة الإعلام من أساسها، كما في دول كبرى.
هناك مخاطر بالفعل أن ظهور تلك الشخصيات قد يسهم في تشويه الحقائق التاريخية، أو محاولة تبييض الجرائم، والتأثير على توثيق الانتهاكات، إلى جانب إيذاء مشاعر الضحايا وعائلاتهم، وإثارة الانقسامات المجتمعية، أو تعميم خطاب الكراهية، فإن كان هناك ما يستحق العقوبة، فالوجهة هي القضاء، أو أن المواجهة المهنية والتوثيق الدقيق والمحاججة هي الحل.
توثيق الرواية
التحدث إلى شخصيات مرتبطة بالنظام السوري في هذه الأيام جزء هام جداً من التوثيق، لا يقل أهمية عن الشهادات التي وثقت من جانب الضحايا. هي النصف الآخر للحكاية، وفي كل مقابلة من المقابلات التي شاهدنا في الشهرين الماضيين كان هناك حقاً ما يملأ فراغاً ما في الصورة التي عرفناها عبر سنوات طويلة، ولا شك أن عدداً كبيراً من السوريين، وغير السوريين، لا يعرفها، ولا أحد بإمكانه إنكار أن بعض الشهادات من جانب مناصري النظام، أو موظفيه الأساسيين، قد يكون أكثر إقناعاً لبطانة النظام الباقية، لنتخيل مثلاً شهادة حيدرة سليمان، نجل رجل المخابرات السوري بهجت سليمان، الذي اعتُبر (الأب) عراباً لبشار الأسد، وهو يتهم بشار بقتل والده، أو يعترف بمساهمته بتأسيس «الجيش الإلكتروني السوري» الذي أنشئ لشيطنة الضحايا ورواياتهم، لنتخيل أثرها وأهميتها كوثيقة.
ثورة السوريين قامت من أجل الحرية أولاً، فهل يُعقل أن نبدأ تقييد الإعلام في أول الطريق!
صحيح أننا أحياناً ندفع الثمن بالمشاهدة والاستماع إلى الشخصيات الأكثر إجراماً في العالم، كما نضطر أحياناً إلى تحمّل غلظة وثقل دم فطريين عندهم، لكن هناك تفاصيل يصعب معرفتها من دونهم. نتذكر مقابلة مدير المكتب الإعلامي لبشار حتى اللحظات الأخيرة وهو يروي ساعات ما قبل الهروب، وبعض انطباعاته عن بشار، في حلقة شوهدت أكثر من مليونين ونصف مشاهدة، ما يؤكد تعطّش الجمهور لمعرفة ما يدور على ضفة المجرمين تلك.
ثم إن هناك شخصيات أثارت جدلاً إثر ظهورها في مقابلات، وعلى سبيل المثال هذا جهاد مقدسي، المتحدث باسم خارجية النظام قبل أن يستقيل ويتحول إلى المعارضة، ليغادرها أيضاً ملتفتاً إلى شؤونه الخاصة، يثير جدلاً بتصريحات اعتبرها البعض تبييضاً لصورته، مع أنها شهادة استثنائية (اعتبِرْها اعترافاً منه) على الكيفية التي كان يلفق فيها النظام بياناته ومؤتمراته الصحفية، عند حديثه كيف خرج لدحض الاتهام بارتكاب مجزرة الحولة.
ومفلح الزعبي، نجل رئيس وزراء النظام الأسبق محمود الزعبي، أين سيحسب؟ ألن تكون مفيدة روايته لقتل والده على يد بشار، وإعلانه للناس منتحراً؟
بيئة اقتصادية آمنة
هناك مثال ساطع آخر، كيف ينظر الإعلام السوري إلى بشار الجعفري، السفير السوري المستمر من عهد النظام المخلوع في موسكو؟ هل هناك شك بأن الرجل كان أحد صقور نظام الأسد؟ كيف ينبغي للإعلام السوري التعامل مع تصريحاته؟ بل إن وزارة الإعلام نفسها قد تضطر لنقل تصريحات له.
ثورة السوريين قامت من أجل الحرية أولاً، فهل أقل من تكريس حرية التعبير والإعلام وحمايتها بمواثيق وقوانين ومواد دستورية؟
المشكلة ليست فقط في ظهور شخصيات النظام السابق، بل في طريقة محاورتهم التي قد تسمح لهم بتبييض ماضيهم
لقد ظل أحد المدافعين عن تعميم وزارة الإعلام يكرر، في حوار تلفزيوني، جملة واحدة حول أن الدافع وراء ذلك التعميم عدم إيذاء شعور الضحايا، فيما الضحايا أنفسهم يشاهدونها بالملايين.
مشكلة حقاً أن نبدأ من الصفر، أن نبدأ من شرح معنى أن يكون الإعلام وحرية القول بلا قيود، في وقت يجب إرساء، إلى حد المبالغة ربما، وبالذات بسبب قهر وقمع ستين عاماً، قوانين تكفل الحريات قبل أي شيء.
في واحدة من مقابلاته، تحدث الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عن إطلاق قضاء عادل ونزيه للمساهمة في بيئة اقتصادية آمنة، فهل يمكن الحديث عن هذه البيئة الآمنة من دون إعلام حر، من دون صحافة، سلطة رابعة تسند القضاء والسلطة التنفيذية في مهماتها؟
* كاتب من أسرة «القدس العربي»