طُرح علي سؤال كبير: كيف نفسر الخطر الوجودي لمعنى لبنان من خلال ما تتعرض له الثقافة؟ هل الخصوصية اللبنانية أو الحالة اللبنانية التي سادت سابقاً ما زالت موجودة، في منطقة تتجه نحو مستقبل قاتم بمسألة الحريات والثقافة مع توطد نفوذ الأنظمة الاستبدادية؟ وما هو تأثير الواقع السياسي والبيئة السياسية على الهوية الثقافية اللبنانية؟

أيضاً تضمن السؤال: ما هي هوية لبنان في هذا الواقع، وكيف يمكن العبور إلى المستقبل؟ وهل من إمكانية لصوغ رؤية ثقافية تعيد دور وموقع لبنان المميز على الخريطة الثقافية العربية والعالمية؟

بالتأكيد، لا جواب جاهزاً وجازماً. مع ذلك، سأحاول الدفاع عن وجهة نظري بأن لبنان المتخيل أو المأمول الذي حرض على السؤال الكبير المذكور آنفاً، لم يعد موجوداً.

بعيداً عن أي سخرية من السردية التاريخية التي تشوبها الأسطرة والمبالغة الشعرية، سأقول أن تحالف الأمير فخر الدين مع آل ميديتشي حكام توسكانا، لم يكن فقط تجارة وسياسة. إنه التقاء مباشر مع منبع النهضة الأوروبية وأفكارها وإنجازاتها.

إنها لحظة بالغة الأهمية، وتتساوى في أثرها مع توطيد العلاقة بين الموارنة والفاتيكان والعالم الكاثوليكي الأوروبي.

هذه البقعة، جبل لبنان، بدأت منذ القرن السابع عشر تحاول مغادرة العالم العثماني. وستكون أرضاً للبعثات التبشيرية والتعليمية وللمطبعة ولعمارة جديدة وإدارة غابات وأحراج وأنظمة مواصلات ومدارس وجسور وشبكات ريّ، والأهم نمو الملكيات الزراعية الصغيرة على حساب الإقطاع، قبل أن تأتي فيما بعد ثمار الصناعات الزراعية وعلى رأسها الحرير، وما نتج عنها من ولادة طبقة عاملة وخروج النساء إلى العمل، ونشوء طبقة تجارية وازدهار مرافئ وما تأتي به من اختلاط وتواصل وتبادل ثقافي وشيوع أفكار جديدة.

صحيح كان هناك إرادة سياسية عثمانية أيضاً بالتحديث وباللحاق بأوروبا، لكن جبل لبنان تحديداً كان يتقدم بإيقاع مختلف، ويطلب استقلالية حقوقية وسياسية وثقافية عن العالم العثماني.

لجميع الأسباب التاريخية المتراكمة على مدى قرنين، والتي يصعب حصرها، كان جبل لبنان وبيروت منبع النهضة العربية، ومقراً لأولى الجامعات الحديثة، وللطباعة والترجمة والصحف والتعليم الحديث. من هنا سنبدأ نقرأ أدباً جديداً، سنشاهد المسرحيات لأول مرة، سنلبس موضات لم نعرفها من قبل، سنشيد مباني بطرز لم نعهدها، سنأكل طعاماً مختلفاً، سنسمع موسيقات لم يخطر ببالنا وجودها، سنتعلم طباً لا يقوم على غلي البابونج. سنخوض في سجالات حول نظرية داروين، وعلم النفس أيضاً والفلسفات الجديدة، ونظريات الفيزياء وعلم الكون، بل سنتعلم ونقرأ بلغات عدة: الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنكليزية. إنها ثورة ثقافية أو صدمة حضارية، ستحمل معها طبعاً أفكار الثورة الفرنسية وكل ما قدمته عصور التنوير والنهضة الأوروبية..إلخ.

هذا ما كانه لبنان المتخيل والواقعي، والذي على أساسه قامت جمهورية اختارت مبدأين أساسيين: الديموقراطية والاقتصاد الحر.

اليوم، بعد نصف قرن على انفجار أسس تلك الجمهورية، وبعد 34 عاماً على محاولة بناء الجمهورية الثانية باتفاق الطائف المؤود، وبعد 18 عاماً على انتفاضة الاستقلال المقتولة، وبعد 4 سنوات على انتفاضة الحرية والعدالة الفاشلة فشلاً مميتاً.. ماذا بقي من لبنان؟

بلا تردد أقول: لم يبق من الديموقراطية إلا حفنة ديموقراطيين يائسين، ولم يبق من الاقتصاد الحر سوى المساحة المظلمة التي تنتعش فيها أسوأ أنواع المافيا.

أي حديث عن الحرية أو بلد الإشعاع والنور، يمكن وضعه في خانة “الزجل” الكاذب والممجوج.

في الصيف الماضي، وإذ كنت أهنّئ البروفسور فضلو خوري على افتتاح الجامعة الأميركية في قبرص، قلت له: أخشى أن يكون ذلك مقدمة لهجرة الجامعة من بيروت.

وهذه الخشية مردها أن أي مؤسسة مهما كان نوعها، لا بد لها من مجتمع أو مدينة أو دولة، لا بد لها من بشر يطلبونها ويحيونها ويمدونها بأسباب البقاء.

وأتحدث عن هذه الجامعة لأنها آخر الرموز التي تدل على ذاك اللبنان. فحتى المتحف الوطني، أو القصر الرئاسي، أو ثلج صنين، أو غابة الأرز، أو ساحة الشهداء، أو قلعة بعلبك، أو التبولة، أو الصحافة الحرة، لم يعد أي منها صالحاً كرمز.. وإذا ما غابت فيروز، فسيكتمل معنوياً ورمزياً الأفول الكلي.

إن جولة عشرة دقائق على التلفزيونات اللبنانية، تكفي لندرك بأي انحطاط ثقافي وأخلاقي وسياسي نعيشه، وبعدنا الهائل عن الحد الأدنى من مقومات المجتمع السوي. هذه التلفزيونات مع قلة إعجابي بها، كانت في التسعينات رمزاً للقوة الثقافية الناعمة التي اجتاحت العالم العربي، وها هي اليوم في حضيضها.

يكفي أن نعرف أن الأغلبية الساحقة من الطلاب المتفوقين لن يقيموا في لبنان فور تخرجهم. كما أن النخبة الاقتصادية والعلمية والثقافية باتت أصلاً مغتربة. بالطبع، ما من نخبة سياسية إلا إذا ارتضيتم أن نسمي العصابة الحاكمة نخبة.

علينا أن نعترف أن التغيير الديموغرافي العميق، معطوفاً على التحول الطبقي وأنماط الإنتاج والاقتصاد، غيرا جذرياً من الهوية المجتمعية الثقافية، ما أدى أيضاً إلى تهافت النظام السياسي وخرابه. وحان الوقت لنتحى جانباً للغالب الذي لديه نموذج مختلف تماماً عن اللبنان الذي كنا نتمناه.

في الحقل الثقافي، يكفي أن نسرد أفاعيل الرقابة الذاتية التي اعتدناها والرقابة الرسمية التي باتت أكثر غباء. وربما يكفي أن نقول أن القاضي محمد مرتضى (وما يمثّله) وزير الثقافة اللبنانية.

على أي حال، وكما كانت النهضة تتنكب همّ العالم العربي، فإن لبنان ليس معزولاً بمصيره عن محيطه. إذا نظرنا شرقاً وشمالاً، سنرى واحداً من أبأس البلدان في العالم، سوريا التي وقعت في براثن الوحشية والديكتاتورية ولن تقوم لها قائمة في المستقبل المنظور. وأبعد منها شرقاً سنرى العراق الذي تتجسد فيه على نحو متضخم كل المفاسد والمساوئ والأمراض والانحطاطات التي نعيشها. وإذا نظرنا جنوباً، سنرى الفاشية العنصرية بنسخة التعصب الديني-القومي تحكم كياناً استعمارياً استيطانياً حفر هوة سحيقة بين الشرق والغرب، بين شعوبنا والحداثة، بين مجتمعاتنا وقيم الليبرالية والديموقراطية.

عندما نتحدث عن الثقافة في لبنان، ليس صدفة أن نستعمل صيغة الماضي أو نبدأ بالتذكر وحسب. لقد انتهى الدور، وحان إسدال الستارة.

أعتقد جازماً، أن نموذج لبنان فشل تماماً وليس مرغوباً في هذه المنطقة، التي تذهب إلى حروب وجودية دينية في أسوأ الأحوال، أو إلى جمهوريات تختلط فيها الأوليغارشية والأوتوقراطية. بل إن المجموعات اللبنانية نفسها، ابتعدت تماماً بكامل إرادتها عن أي مشترك وطني، إن في الثقافة أو السياسة، وبات لديها حتى اقتصادات رديفة خاصة بها. وما يبقي لبنان الحالي ككيان سياسي هو فقط هذا التهيب الكبير من الحرب الأهلية.

مع التذكير دائماً، أن موت الحرية في لبنان وفشل محاولات إعادة بناء الدولة، كانا ثمناً دفعناه طوعاً لنتجنب تجدد تلك الحرب الأهلية.

المأمول فقط، وما يحاوله سكان لبنان حالياً، هو تجنب المصير السوري أو تكرار ما حدث في غزة عندنا، أو الاضطرار لرمي أنفسنا بقوارب البحر المتوسط. فالغالب والمتسيد حتى الآن، لا يعدنا نموذجه بأفضل من ذلك.

(*) كتبت كمداخلة في ندوة حوارية نظمتها الجامعة الأميركية في بيروت، ضمن برنامج “لبنان في قرنه الثاني- رؤية مستقبلية”.