ليس سهلاً أو متاحاً معرفة الأسباب الدافعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) لاقتحام مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ إنّ الوضع العام في الشرق الأوسط حتى موعد تنفيذ الهجوم لم يكن قد شهد أي تغيّرات جذرية أو فاصلة تدفع لتغيير قواعد الاشتباك النائمة هناك منذ عدة سنوات.

لاشك أنّ الحصار “الإسرائيلي” على قطاع غزّة المستمر منذ سبعة عشر عاماً لعب دوراً، ولكنه ليس دوراً لحظياً أو آنياً، وعلى الأرجح لم تتفعّل لحظة الاقتحام في ذلك التوقيت، وإذ أشار حزب الله وإيران، شريكا حماس، إلى “قرار فلسطيني” مستقل اتخذته الحركة في هجومها، فإنّ القياس هنا ناقص بالضرورة بحكم ارتباط حماس بالمشهد الإقليمي بصورة جذرية تشكك باستقلالية القرار.

ومع أحاديث إعلامية إسرائيلية عن قصف طيران إسرائيلي للمشاركين في حفل “ريعيم” الموسيقي الذي كان مقاماً عند أطراف المستوطنة وقت هجوم حماس (وفق صحيفة هاآرتس)، فإنّ هناك هواجساً محقة ما إذا كانت “حماس” وقعت ضحية فخ إسرائيلي، وتزداد هذه الهواجس مع تكشّف خمسين يوماً من الحرب على غزّة عن نتائج ليست في مصلحة الفلسطينيين رغم المقاومة البطولية التي تبديها المقاومة في القطاع الأكثر كثافة سكانية حول العالم (2.2 مليون فلسطيني بما في ذلك مليون طفل)، واحتمالات متزايدة أن تقع غزّة من جديد ضحية ترتيبات دولية وإقليمية لا قبل لحماس بالفكاك منها .

لا يتعلق الأمر فقط بدمار وحشي للبنى التحتية والمساكن والمشافي والطرقات وعدد الضحايا الكبير، بل يتعلّق بما يمكن وصفه بـ “نكبة” جديدة يتعرض لها فلسطينيو القطاع، المساحة الوحيدة من فلسطين التي لم يطلها التهجير والتطهير العرقي مباشرةً، على مرأى العالم ومسمعه، وبهندسة إسرائيلية تبني دائماً على الاستفادة من أي معطى أمني مفاجئ وتحويله إلى عمل استراتيجي يعلو على ارتكاسات اللحظات التالية للإخفاقات الاستخباراتية الأخيرة وتحقيق نتائج لم تخطر في بال مهاجمي حماس وفصائل المقاومة الأخرى.

بعد أسبوع على “طوفان الأقصى” سُئل عضو مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي ووزير الزراعة “آفي ديختر” (من الليكود) في مقابلة تلفزيونية عما إذا كانت صور سكان شمال قطاع غزة الذين أُخلوا جنوباً بأوامر الجيش الإسرائيلي يمكن مقارنتها بصور النكبة، وقد وصل العدد حتى الآن قرابة نصف مليون شخص، أجاب: “نحن الآن في موضِع أبعد من نكبة في غزة”. وفي حديثه شدّد على استخدام كلمة “النكبة” لوصف الوضع في غزة، وقال مرة أخرى: “إنها نكبة غزة 2023، وهكذا ستنتهي”. وفي حديثه استخدم مفردة “النكبة” العربية التي تشير إلى احتلال فلسطين العام 1948 (عن صحيفة هاآرتس).

هذا الكلام في حدوث نكبة جديدة في  القطاع العام 2023، هو لمسؤول من قلب المجلس الأمني الإسرائيلي يستقرئ بوضوح مآلات اليوم التالي للحرب في القطاع، ومبني على مقاربة النتائج التي حصلت حتى الآن على الجانبين، ففي الخمسين يوماً الماضية قتلت إسرائيل أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني من بينهم خمسة آلاف طفل، وهجّرت العمليات العسكرية نصف سكان شمالي قطاع غزّة في قطاع غزة أي 70% من السكان، مع إتلاف أو تدمير نصف إجمالي المساكن هناك حسب الصور الجوية للأمم المتحدة، وما سبق يعني أنّ عدد الفلسطينيين الذين أصبحوا بلا مأوى هو بالفعل أضعاف العدد الرسمي للنازحين، وبالمقارنة فإنه، وفق الوثائق الإسرائيلية فقد شهد العام 1948 تهجّر 750 ألف فلسطيني وقتل 12 ألف شخص، وتدمير مئات القرى وتسويتها بالأرض، وهي أرقام قريبة مما حدث في الخمسين يوماً من الحرب الأخيرة على غزة، في حين أنّ ما حققته حماس حتى الآن عملياً وفق منطق القوة الصلبة هو تحرير عدد من الأسرى الذين لن تعدم إسرائيل طريقة لاستبدالهم بآخرين.

في السياق الإنكاري المعتاد، وفي الأسبوع التالي لحديث “ديختر” سُئل “بنيامين نتنياهو” عما إذا كان يؤيد إعادة توطين الإسرائيليين في قطاع غزة بعد الحرب. أجاب: “لا أعتقد أن (إعادة التوطين) هدف واقعي” وهذا الكلام يمكن قياسه على سياسة نتنياهو ومن سبقه مع مستوطنات الضفة الغربية التي التهمت جزءاً كبيراً من أراضيها رغم الممانعة الأميركية والأوروبية والأممية، مضافاً لها مستوطنات غلاف غزة.

واستكمالاً لهذا النهج وتأكيداً لفكرة إسرائيل الاستعمارية، تُظهر وثيقة رسمية مسرّبة مؤرخة في 13 أكتوبر،تشرين الأول 2023، عن وزارة المخابرات الإسرائيلية كشف عنها بالكامل لأول مرة موقع إسرائيلي (تقيّم ثلاثة خيارات تتعلق بمستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة في إطار الحرب الحالية)، وتوصي “بالنقل الكامل للسكان باعتباره مسار العمل المفضل لديها”، وتستخدم الوثيقة تعبير Transfer ذا الأصل العبري.

توصي الوثيقة بأن تُجلي إسرائيل “المدنيين إلى سيناء” أثناء الحرب وإنشاء مدن خيام ومن ثم مدن أكثر ديمومة شمال سيناء لاستيعاب السكان المطرودين، ثم إنشاء “منطقة معقّمة بطول عدة كيلومترات داخل مصر، و[منع] عودة السكان إلى الأنشطة/المساكن قرب الحدود مع إسرائيل”. وفي الوقت نفسه، تعبئة الحكومات في جميع أنحاء العالم، بقيادة الولايات المتحدة، لتنفيذ هذه الخطوة.

إدارة بايدن، أعلنت بالطبع معارضتها للتهجير القسري للفلسطينيين خارج الحدود ولكن وفي طلبه التكميلي للكونجرس لتوفير مزيد من الأسلحة لإسرائيل، طلب البيت الأبيض ما يصل إلى 3.5 مليار دولار “لتلبية الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة”. بمعنى آخر، تتوقع إدارة بايدن (وتعترض لفظياً) حدوث التطهير العرقي الذي يتحدث عنه ديختر، عضو الليكود.

وفي وقت يقف فيه العالم والعرب أولهم متفرجين على ما يجري في غزة، فإنّ شبه المؤكد أنّ خطة النكبة الجديدة ستمضي قدماً خاصة مع عرض الاتحاد الأوروبي على مصر خطة “استثمارية” بقيمة عشرة مليارات دولار لمواجهة “تداعيات حرب غزة” بالتزامن مع استمرار العمليات العسكرية شمال القطاع حيث تقع غزة وثقلها السكاني الأكبر مقارنة بجنوب القطاع الصحراوي، هذا دون الحديث عن موارد الغاز المحتملة في بحر غزة الكافية لتحويل القطاع إلى نقطة جذب اقتصادية عالمية لإسرائيل.

هل هذه النتيجة وحدها كافية للتشكيك في دوافع حماس بشأن حدث السابع من أكتوبر، أم أنّ حماس وقعت بغباء ضحية فخ محكم أقامته لها الاستخبارات الإسرائيلية؟ التاريخ القريب سوف يحكم، فيما الحاضر فيمكن شرحه بقول لكارل ماركس: “إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة بصورة مأساة، ومرة بصورة مهزلة”.