حصل تبادل قصف ليل الاثنين – الثلثاء بين “حزب الله” واسرائيل عبر الحدود اللبنانية في إطار استمرار التوتر منذ تفجر حرب غزة، وحذر المستشار الالماني اولاف شولتز ايران و “حزب الله” من فتح جبهة الجنوب، ضمن تبادل تحذيرات بين مسؤولين غربيين وايرانيين منذ 7 اكتوبر. لكن هل تدفع ايران “حزب الله” لفتح معركة في الجنوب اللبناني؟
“طوفان الاقصى”
استقطبت عملية “طوفان الأقصى” منذ انطلاقها يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، الاهتمام الدولي، وأضحت قضيته الأولى، وهي مستمرة كذلك إلى أجل ليس بقريب. ويبدو أن العملية المتصلة بالاستقرار والأمن الدوليين في أكثر مناطق العالم إشكالا، ستنعكس تداعياتها على تصويب العلاقات الإقليمية والدولية التي أعقبت اتّفاق كامب ديفيد وإعادة تعريف كل التسويات التي عُقدت حتى اليوم.
لقد أيقظت عملية “طوفان الأقصى” ذاكرة عربية كامنة لمرحلة من النضال اعتقدنا أنها طويت إلى غير رجعة؛ مرحلة كانت مليئة بالتضحيات على امتداد ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولم يكن حينها العمل المقاوم حكرا على طائفة أو مذهب أو عرق أو إنجاز يسجّل لنظام سياسي. تلك المرحلة التي أذهلت العالم وفاجأت العدو الإسرائيلي في أكثر من موقع، وتنافست فيها المنظمات والجبهات- التي جمعت تحت رايتها مناصري القضية الفلسطينية من جنسيات متعددة- لتقديم النموذج النضالي القادر على المواجهة وإعادة الثقة بالقدرات العربية بعد انتكاسات مؤلمة في إدارة الصراع. لقد أعادت “طوفان الأقصى” إلى الخطاب العربي ومنه الخطاب الرسمي لقادة الدول العربية أدبيات ومفردات غابت لفترة طويلة، واستدعت إحياء مفاهيم العمل العربي المشترك، بما يؤشر إلى بدايات لتعديل المنهج الذي اعتُمد في التسويات العربية الإسرائيلية التي لم تؤدِ سوى إلى وأد إرادة القتال وتدجين المقاتل العربي الذي ولد من جديد مع “طوفان الأقصى”.
أين “حزب الله”؟
تحوّلت الأنظار العربية والدولية- بعد ساعات قليلة على انطلاق العملية الفلسطينية– من غزة إلى جنوب لبنان، لرصد موقف “حزب الله” ودوره المرتقب عبر الحدود الجنوبية. إنه الظرف المناسب في الزمان والمكان لاختبار حقيقي لمفهوم وحدة الساحات الذي أطلقه من عواصم عديدة ومنها بيروت قادة “محور الممانعة” من “حزب الله”، و”الجهاد الإسلامي”، وحركة حماس.
لقد كان الاعتقاد المنطقي وربما المسلمة الأولى لدى جمهور “الممانعة” أن طهران لن تتردد لحظة واحدة في دعمها لـ”طوفان الأقصى”، وأنها ستدفع “حزب الله” لتشتيت جهد الجيش الإسرئيلي في الأيام الأولى الحرجة للعملية عبر عمليات تستهدف الأراضي الإسرائيلية. لكن يبدو أن احتمالات التصعيد وانضمام لبنان إلى ميدان القتال في غزة لا يمكن تلمسها إلا من خلال اعتبارات يعود لطهران وحدها اتخاذ القرار بشأنها.
إيران تنأى بنفسها عن أي تورط مباشر في “طوفان الأقصى” أو في ما سيستتبعها من تداعيات ميدانية سواء عبر “حزب الله” أو إحدى أذرعها في سوريا، وهو مسار ينسجم مع الموقف الأميركي.
أتت المفاجأة الأولى من خلال ما عبّر عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، بأن “لا دلائل على تورط إيران في أحداث غزة”. بدوره قال المرشد الإيراني علي خامنئي إن “طوفان الأقصى” عمل فلسطيني، يحاول البعض زج إيران فيه. وأضاف: “إن أنصار النظام الصهيوني وآخرين نشروا إشاعات في اليومين أو الثلاثة أيام الماضية بما في ذلك أن إيران الإسلامية تقف وراء هذه العملية. إنهم على خطأ”.
وجهة نظر القيادة الإيرانية المتأرجحة بين الاتساق مع الموقف الأميركي والإمساك بقرار حلفائها وقيادتهم من المقعد الخلفي، نَقلها إلى بيروت وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان خلال مؤتمر صحافي عقده في مقر السفارة الإيرانية. منح عبداللهيان لنفسة الحرية في تقدير الموقف ووضع السيناريوهات المحتملة فيما ألقى على “حزب الله” وفصائل “الممانعة” مسؤولية اتخاذ القرار. يقول عبداللهيان: “في حال توسيع نطاق الحرب فإنّ المقاومة اللبنانية هي التي ستقرّر ما ستفعله… إنّ قادة المقاومة متمسكون وينسقون معا بشكل ممتاز، وقد حددوا جميع السيناريوهات معا وأياديهم على الزناد… إنّ الإعلان عن ساعة الصفر لأيّ إجراء مقبل في حال استمرار جرائم كيان الاحتلال هو بيد المقاومة في لبنان”. وأضاف أنّ “الرد من المقاومة سيجعل الكيان والجميع يندمون وسيغير خريطة الأراضي المحتلة (….) إنّ الأمين العام لحزب الله رجل الميدان ولطالما كان له الدور الأبرز في تحقيق أمن لبنان والمنطقة”. وتابع أنّ “الخطوات التي ستتخذها المقاومة ستُحدث زلزالا كبيرا بالنسبة للكيان الإسرائيلي”.
تدرك طهران وسواها أن قيام إسرائيل باجتياح بري لغزة لتدمير البنية التحتية لـ”حماس” يستلزم موافقة واشنطن التي لديها اعتبارات كثيرة تحول دون ذلك.
مؤشران يمكن قراءتهما من خلال المواقف الإيرانية:
– الأول أن إيران تنأى بنفسها عن أي تورط مباشر في “طوفان الأقصى” أو في ما سيستتبعها من تداعيات ميدانية سواء عبر “حزب الله” أو إحدى أذرعها في سوريا، وهو مسار ينسجم مع الموقف الأميركي.
– الثاني أن إيران غير الراغبة في التدخل فيما يجري قادرة على لعب دور الوسيط والمفاوض من خلال قدرتها على السيطرة على أذرعها والتحكم في خياراتها. وبهذا المعنى فإن تزامن زيارة عبداللهيان إلى المنطقة مع زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هو إشارة واضحة لترسيم حدود تقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة من وجهة نظر طهران على الأقل.
مسألتان أمام الحزب
كان الأمين العام لـ”حزب الله” واضحا في مناسبات عديدة، وفي معرض التأكيد على قوة الحزب العسكرية وقدراته حيال أي هجوم تقوم به إسرائيل ضد لبنان، أن المواجهة المقبلة ستكون على أرض فلسطين، وأن نقل المعركة إلى قرى الجليل هو أحد الخيارات المحتملة. المبادرة المنتظرة من “حزب الله” أتت من غزة عندما تمكنت حركة حماس من النجاح في اختراق ثلاثي الأبعاد، بري وبحري وجوي، لجدار غزة وللعمق الإسرائيلي. لقد أحرج هجوم “حماس” الجميع ومن ضمنهم إيران، إذ لم يعد من السهل استيعاب تداعياته على “محور المقاومة” برمته، كما لم يعد ممكنا للأميركيين تلقف الإخفاق الإسرائيلي وتجاوز نتائجه من دون الأخذ في الاعتبار الوهن الذي تعانيه إسرائيل.
تدرك طهران وسواها أن قيام إسرائيل باجتياح بري لغزة لتدمير البنية التحتية لـ”حماس” يستلزم موافقة واشنطن التي لديها اعتبارات كثيرة تحول دون ذلك. فواشنطن تحاذر في المغامرة بصداقاتها العربية وتفاهماتها التي استعادتها مؤخرا مع دول الخليج العربي ومصر والتي تحتاجها في مواجهة روسيا والتمدد الصيني وتوسّع منظمة “بريكس”، وهي في الوقت عينه مقتنعة بأن إسرائيل أضحت عاجزة عن حماية نفسها في محيط معادٍ، وأن العملية البرية محفوفة بالمخاطر وقد لا يكتب لها النجاح، وفي النهاية ما هو الهدف التالي بعد اجتياح غزة وهل تستطيع إسرائيل توسيع رقعة احتلالها؟
بالرغم من التطورات الميدانية التي تلت المناوشات في مزارع شبعا وارتفاع حدة القتال وسقوط عدد من مقاتلي “حزب الله” وتحقيق إصابات في المواقع الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى الانتقال من حرب المواقع الثابتة إلى مرحلة تجاوز الخطوط أو القيام بعمليات خاصة في الداخل بما يبقي الوضع تحت السيطرة.
وفي حين تبدو الظروف غير مواتية بل مستحيلة أمام إسرائيل للقيام بعملية برية واسعة النطاق، يتقدم الخيار الدبلوماسي على ما عداه مع ارتفاع وتيرة المواقف الدولية المنددة بالتدمير الإسرائيلي لقطاع غزة والمطالبة بإدخال المساعدات الإنسانية إليه والذهاب نحو حل دائم للقضية الفلسطينية. وفي هذا الإطار فإن الدور الذي ترومه طهران لا يمكن أن يكون إلا امتدادا لأدوارها السابقة التي أتقنتها في العراق واليمن وسوريا ولبنان وهو ما تطمح إلى استنساخه مجددا في فلسطين، أي دور الدولة الفاعلة وغير المتدخلة المؤهلة لإدارة الحروب بالواسطة والتفاوض في الوقت عينه.
إن الخيار الميداني الذي اعتمده “حزب الله” لا يمكن أن يفضي إلى المغامرة بما تريده طهران، من هنا كان لا بدّ للحزب أن يجيب على مسألتين:
– الأولى، المشاركة في الحرب الدائرة في غزة لاستحالة الوقوف على الحياد.
– الثانية، عدم تورط طهران على نحو مباشر في القتال بما يقصيها عن دورها التقليدي ويضعها في مواجهة الولايات المتحدة. أمام هذه الاعتبارات جاء خيار “حزب الله” بمناوشة إسرائيل في الأيام الأولى عبر مزارع شبعا، وهي منطقة لبنانية متنازع عليها مع سوريا قبل أن تحتلها إسرائيل في العام 1967 وقد أضحت المكان المتعارف عليه لتبادل الرسائل النارية بين الحزب وإسرائيل منذ العام 2006.
قد يكون من الصعب الذهاب لرسم سيناريو متكامل لما بعد “طوفان الأقصى” مع غياب الأهداف السياسية النهائية المعلنة من قبل قيادة “حماس” وتداخل وتعقيدات المصالح الإقليمية والدولية في المنطقة.
وبالرغم من التطورات الميدانية التي تلت المناوشات في مزارع شبعا وارتفاع حدة القتال وسقوط عدد من مقاتلي “حزب الله” وتحقيق إصابات في المواقع الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى الانتقال من حرب المواقع الثابتة إلى مرحلة تجاوز الخطوط أو القيام بعمليات خاصة في الداخل بما يبقي الوضع تحت السيطرة. وبمعنى آخر أصبحت المناوشات والاشتباكات عبر الحدود إضافة أساسية على قواعد الاشتباك المعمول بها منذ تطبيق القرار 1701 في العام 2006، ويبدو أنها ستواكب العملية العسكرية المتعثرة إسرائيليا في غزة، كما ستواكب عمليات التفاوض الأميركية مع دول الإقليم للوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار ومباشرة العملية السياسية.
هل تسقط قواعد الاشتباك الجديدة؟
قد يكون من الصعب الذهاب لرسم سيناريو متكامل لما بعد “طوفان الأقصى” مع غياب الأهداف السياسية النهائية المعلنة من قبل قيادة “حماس” وتداخل وتعقيدات المصالح الإقليمية والدولية في المنطقة. لكن استمرار الوضع الميداني على حاله وتحول جدار غزة إلى خط تماس بين إسرائيل و”حماس” قد يكون أحد الأشكال المرجحة لاستمرار الصراع، وعليه فإن الحدود الجنوبية اللبنانية ستبقى ملتزمة بقواعد الاشتباك اليومية مواكبة لما يحصل في غزة.
لكن ما يمكن تلمسه أن هناك مجموعة ثوابت لا يمكن إلا أن تؤخذ في الاعتبار:
أولها، هشاشة الدولة الإسرائيلية وعجزها عن حماية حدودها وتحولها إلى عبء على الولايات المتحدة مما يستلزم الذهاب إلى تسويات نهائية لوقف الصراعات عبر الحدود، بما في ذلك مباشرة البحث عن حل نهائي للمسألة الفلسطينية.
ثانيتها، عدم القدرة على احتواء تطور القدرات العسكرية لـ”حماس” بالرغم من كل أنواع الحصار التي استخدمت حتى الآن بما ينذر بتفجير الوضع بشكل دائم وربما في ظروف أميركية غير مواتية.
ثالثتها، أن التمادي في التدمير الممنهج لغزة وعدم التوصل إلى حلول حقيقية سيؤدي إلى تحول النموذج الذي قدمته غزة إلى ظاهرة عربية تدعو إلى التمرد على كل الاتفاقات الموقعة وإسقاط كل التسويات التي عقدت سابقا.
إن تجاوز خيار قواعد الاشتباك المستحدثة في الجنوب اللبناني نحو خيارات أكثر خطورة يرتبط على نحو مباشر بإخفاق طهران في الانضمام إلى المسارات الدبلوماسية القائمة أو بعدم الملاءمة بين ما ترومه طهران وما تسعى إليه واشنطن وحلفاؤها. إن الفشل في وضع ترتيبات نهائية لحل قابل للحياة في غزة، كما عدم القدرة على إلزام المعنيين بها، سيتيح المجال أمام تطورات غير محسوبة على مساحة المنطقة وسيكون جنوب لبنان جزءا أساسيا فيها. في هذا الإطار تصبح احتمالات نقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي كما إلى الداخل اللبناني وربما السوري خيارا مطروحا وتتحول مسألة احتساب ميزان القوى شأنا إقليميا يتجاوز قدرات “حزب الله” وإسرائيل وتتبين حينها الحاجة من وصول حاملتي الطائرات الأميركيتين إلى البحر الأبيض المتوسط.