Skip to content

السفينة

alsafina.net

cropped-1صيانة.png
Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • نازك سابا يارد: حضور الباحثة يتجدّد في الغياب جورج كعدي…..المصدر : ضفة ثالثة
  • مقالات رأي

نازك سابا يارد: حضور الباحثة يتجدّد في الغياب جورج كعدي…..المصدر : ضفة ثالثة

khalil المحرر فبراير 14, 2025

دفعني غياب الكاتبة والباحثة المقدسيّة نازك سابا يارد (1928 – 2025) إلى إعادة توطيد معرفتي بإرثها البحثيّ والنقديّ والأدبيّ، والتوقّف مجدّدًا أمام القيمة الاستثنائية لمبحثها المهمّ “الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة” (دار نوفل، بيروت، 1979، في 512 صفحة من القطع الكبير) وهو في الأصل أطروحتها للدكتوراه من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1976، متناولةً أدب الرحلة لدى المفكرين والأدباء العرب عقب احتكاكهم بالغرب، وما نجم عن هذا الاحتكاك من تأثيرات أحدثت صدمة في مجتمعاتهم العربية. وعن غَرَضِ هذا البحث الضخم ومنهجه تقول الباحثة الراحلة إنّها اختارت أدب الرحلة في القرنين التاسع عشر والعشرين تحديدًا، فاتصال المثقفين العرب بالحضارة ظلّ محدودًا وضئيلًا حتى أواخر القرن الثالث عشر، ثم قوي إثر حملة نابليون على مصر عام 1798، ثم بعثات محمد علي، فانتشار مدارس الإرساليات التي أنشأها الغربيون في الولايات العثمانية، ولا سيما سورية ولبنان وفلسطين. أما في القرن التاسع عشر فكانت رحلات العرب إلى الغرب من أهمّ الوسائل التي عرّفتهم بمظاهر الحضارة الأوروبية، وَوَصَفَ بعض الرحالة مشاهداتهم في الغرب، ودوّنوا انطباعاتهم، فقرأها مواطنوهم الذين لم يتمكنوا من زيارة أوروبا بأنفسهم. ولذلك، لعب أدب الرحلة دورًا في تعريف بعض العرب بالحضارة الأوروبية، وفي نشر ما نجم عن الاحتكاك بالغرب من أفكار ومبادئ ونظم جديدة أثّرت في المجتمع العربي تدريجيًا، ولهذا التأثير وجوه عديدة، أبرزها إثنان: تغيير الإنسان العربي من جرّاء تلقيّه هذه الحضارة الجديدة وردّه على ما تلقّى، ثم تغيير مظاهر الحياة والمجتمع. الهمّ الأساسيّ الذي انطلقت منه الباحثة هو تفكيك حالة التمزّق والصراع التي عانى منها الإنسان العربيّ الذي تنازعته (ولا تزال تتنازعه حتى اليوم) مؤثّرات متناقضة، فهو يتمسك من ناحية بهويته الشرقية العربية القائمة على الموروث المستمرّ في الزمن، ويقلقه من ناحية ثانية سؤال عمّا إذا لم يكن تمسكه بهذا الموروث يتسبّب بجموده وتخلّفه، فمن هنا كان اقتباسه للحضارة الغربية التي كان يحسبها (وما برح يفعل) عنوانًا للقوة والتطور، مع خشية من أن يكون هذا الاقتباس سببًا للضياع وفقدان الهوية. وقد تجلّى هذا الصراع الفكريّ والحضاريّ بوضوح في أدب الرحّالين إذ لمسوا عن كثب الفروق بين الحضارتين العربية والأوروبية، أي بين “الأنا” و”الآخر”، وبين الثابت والمتحوّل، وبين الموروث الأصيل والمجتلب المقتبس في السياسة والاجتماع والأخلاق والعلم وغيرها من ميادين الفكر والحياة.
من رحّالي (أو رحّالة) المرحلة الأولى اختارت نازك سابا يارد المصريّ رفاعة الطهطاوي، والتونسي خير الدين باشا (المعروف بخير الدين التونسي)، واللبناني أحمد فارس الشدياق، والسوريّ مراش الحلبي. فثقافة الطهطاوي والتونسي كانت مشبعة بروح الإسلام والعلوم التقليدية، فيما تأثّر الشدياق بالإرساليات المسيحية التي عمل معها ردحًا قبل اعتناقه الإسلام، وكان لا بد من أن يترك التخصص في الطب أثرًا في فكر الحلبي المسيحي مراش. وقد لعب الطهطاوي دورًا كبيرًا جدًا في توجيه الثقافة المصرية، ومثله خير الدين التونسي الذي لا يقل دوره أهمية إن في تونس أو في الآستانة، فضلًا عن مكانة الشدياق في الصحافة العربية والنهضة الأدبية الحديثة، فيما فتح كتاب مراش “غابة الحق” بابًا جديدًا في النثر العربي ولجه في ما بعد جبران خليل جبران وآخرون. هؤلاء الرحّالون الأربعة خير من يمثل أدب الرحلة قبل حلول زمن الاحتلال والانتداب الأوروبيين. فمن فترة الاحتلال البريطاني لمصر اختارت الباحثة محمد أمين فكري وأحمد زكي ومحمد ابراهيم المويلحي ومحمد فريد. كما اختارت لهذه الفترة جرجي زيدان، لا لوفرة ما كتبه في أدب الرحلة بل للدور الذي لعبه في الصحافة العربية، ولأن موقفه من الحضارتين العربية والغربية نموذج لتفكير اللبناني المسيحي المثقف في تلك الحقبة. واختارت السوري المسلم المثقف محمد كرد، واللبناني الدرزي الأمير شكيب إرسلان الذي شغل مناصب عديدة في الدولة العثمانية قبل أن تنفيه سلطات الانتداب الفرنسي بسبب مواقفه السياسية. إلى أمين الريحاني، نموذج اللبناني المسيحي المهجري الذي تعرّف إلى الشرق بعد تكوّنه ثقافيًا في أميركا فكان لا بد من أن يتخذ الصراع في تفكيره مظهرًا مختلفًا عن مؤلفات الرحالة العرب الذين نشأوا في الشرق وتعرّفوا بالغرب لاحقًا، ومنهم طه حسين أهم أدباء تلك المرحلة وأبعدهم تأثيرًا في أدب النهضة والشباب المثقف في عصره.
نظر الأدباء والفكرون العرب الرحّالة إلى الحضارة الغربية بعيون شرقية كوّنها موروثهم التاريخي والحضاري والفكري والديني، ومن هنا نشأ الصراع الفكري والحضاري، موضوع البحث. كما تأثّر هؤلاء بالإنتاج الفكري والأدبي الغربيّ، فها رافعة الطهطاوي (1801 – 1873) يذكر في مؤلّفه “تخليص الأبريز” أنّه قرأ مؤلفات فولتير وروسو ومونتسكيو، ومثله خير الدين التونسي (1810 – 1890) الذي قرأ ديكارت ومونتاني وكورناي وراسين وشكسبير وغوته، وقرأ الشدياق (1804 – 1887) شاتوبريان ولامارتين ورابليه، وتأثّر فرنسيس مراش (1836 – 1873) بالأدب الرومنطيقي والفلسفة الروحانية الفرنسية… إلى هذا الاطلاع على الإرث الأدبي والفلسفي والفكري الغربي، تضاف المشاهدات في أنماط الاجتماع والعادات والتقاليد الغربية المختلفة عن أنماط الحياة في المجتمعات الشرقية، ما ولّد في داخل كلٍّ من الرحّالة صراعًا، أو صدامًا، بين الأصيل والمقتبس.

قال الطهطاوي: “أما الحرية التي تطلّبها الإفرنج دائمًا فكانت في طباع العرب في قديم الزمان”

صوّر الرحّالون في كتاباتهم ما شاهدوه في أوروبا من مظاهر “الحرية والمساواة”، فأبدى الطهطاوي مثلًا إعجابه بأن الدستور في أوروبا يساوي بين الملك نفسه والشعب، مبيّنًا أن هذه المساواة هي السبب في شيوع العدل وتقدم الحضارة في فرنسا، مشيرًا إلى الفرق بين أوروبا والشرق تحت الحكم الأوتقراطيّ المستبدّ. كذلك رأى خير الدين التونسي أن الثورة الفرنسية نقلت الإنسان إلى مجتمع جديد زالت فيه العبودية وتحققت الحرية والمساواة أمام القانون. وهذا ما ذهب إليه فرنسيس مراش أيضًا قائلًا إن من دعائم التمدن المساواة أمام القانون من دون أدنى تمييز بين الأشخاص، مدافعًا في الوقت عينه عن حرية تأويل الدين. غير أنّ وجه الصراع الذي يظهر كأنّه داخل كلٌ رحّالة، فيتجلّى في بذل كلٍّ من الطهطاوي والتونسي ما في وسعهما ليبيّنا أنّ الحرية والمساواة ليستا غريبتين عن العرب والإسلام. كذلك ما بيّناه في كلامهما عن الحرية إذ قال الطهطاوي: “أما الحرية التي تطلّبها الإفرنج دائمًا فكانت في طباع العرب في قديم الزمان”. بيد أنّهما يُغفلان كل ما يناقض الحرية والمساواة في الإسلام، وما يتعلق بالأحكام الدينية التي لا تساوي بين الحر والعبد أو بين المسلم والذمّي، خاصة في عصرهما. ولم يقبلا الأسس الفلسفية التي تستند إليها حرية الثورة الفرنسية، ولا المبادئ العلمانية الأساسية في هذه الثورة، أي سيادة الإنسان وإحلال سلطة العقل البشري محل السلطة الإلهية. إنّه وجه من وجوه الصراع الداخلي بين الموروث والمقتبس، فثقافتهما لم تؤهلهما لتحليل التاريخ تحليلًا فلسفيًا. حتى مراش أراد التوفيق بين مسيحيته المشرقية وتلك الحرية الغربية التي آمن بها، مبيّنًا في كتابه “غابة الحق” أن “مملكة الحرية” لم تقم “إلا منذ قيام مملكة الروح” القديمة التي وحدها تكبح جماح الشر والفساد والاستغلال والاستثمار والكذب فتضمن بذلك حرية الإنسان. أمّا الشدياق فقد اتخذ الصراع في موقفه من الحرية والمساواة مظهرًا مختلفًا تمامًا عن معاصريه الثلاثة، منبّهًا إلى أنّ مساوئ الحرية أكثر من حسناتها، فيقول في وصف مالطا: “أي إنصاف أن يطوف السكارى في الأسواق ضاجّين زائطين بالغناء واللغط، ثم يقال إن ذلك حرية. لعمري إنّ فلق المحتسب في بلادنا خير من هذه الحرية… فتبًا لحرية تفضي إلى تسويد اللئيم على الكريم”، منتهيًا إلى القول: “لا جرم أن الحرية أمر حسن يتمنّاه جميع الناس إلّا أنّها متى آلت إلى انتهاك الأدب وجب منعها”. نظر الشدياق إلى الحرية والمساواة من الوجهة الأخلاقية، متأثّرًا بالاشتراكيين المسيحيين الذين ظهرت حركتهم في إنكلترا سنة 1848.

“وجه آخر من الصراع واجهه الرحالون المسلمون إلى الغرب إذ تنازعهم مفهوم مثلّث: مفهوم الأمة الإسلامية، ومفهوم الوطن، ثم مفهوم القومية العربية”

 

وجه آخر من الصراع واجهه الرحالون المسلمون إلى الغرب إذ تنازعهم مفهوم مثلّث: مفهوم الأمة الإسلامية، ومفهوم الوطن، ثم مفهوم القومية العربية، فحاولوا الوصول إلى تحديد هويتهم وسط تضارب هذه المفاهيم الثلاثة. فبالنسبة إلى الرعيل الأول متمثلًا في الطهطاوي والتونسي، يُلاحظ أن المشكلة التي واجهته هي “التنازع بين مفهومي الأمة الإسلامية والوطن”، إذ لم يكن التخلي عن الإيمان بالأمة الإسلامية لحساب الإيمان بالوطن أمرًا يسيرًا، فرأينا الطهطاوي متذبذبًا بين المفهومين الإسلامي والوطني. وكتابات خير الدين التونسي مفعمة كذلك بالإيمان العميق بالأمة الإسلامية، بل بالخلافة الإسلامية، رغم إيمانه بالحرية السياسية، إلى حد مداهنته بقوة الدولة العثمانية، متجاوزًا تنبيه إبن خلدون إلى أنّ الدولة لا يمكن أن تقوم من غير العصبيّة (أي أواصر الدم وما يشبهها) وأن الشريعة الدينية وحدها لا تستطيع أن تنشئ دولة. فقد استمرّت نظرة المسلمين التقليدية إلى الدولة حتى القرن التاسع عشر على أنها الأمة الإسلامية، ويلوح أنهم لم يعرفوا “القومية” أو “الوطنية” بالمفهوم الغربي الذي كان شائعًا في بلاد أوروبا التي زاروها. على عكس الشدياق الذي ارتدّ عن المسيحية (بسبب ظلم وتعذيب لحقا بأخيه على أيدي رجال دين مسيحيين) واعتنق الإسلام تحت إسم أحمد فارس الشدياق، ولم يكتفِ بتأييد فصل الدين عن الدولة بل شنّ هجومًا عنيفًا على رجال الدين المسيحيين منتقدًا “خبثهم وجهلهم واستغلالهم الشعب وكَلَفهم بالجنس والمال وظلمهم وقساوتهم”، محمّلًا إياهم مسؤولية التعصّب الطائفي والحروب الدينية بين الشعوب.

 

تمضي الباحثة في محاور إضافية خاصة بهذه الفترة التاريخية (بين 1826 و1880) لتتناول الصراع في الفكر الاقتصادي، والصراع في الفكر الاجتماعي والأخلاقي، وفي الموقف من الثقافة الغربية وفنونها (المسرح، اللغة، الأدب، الصحافة…)، والصراع في الفكر العلمي، وبين العلم والدين، ممّا لا يتسع المجال لعرضه في هذه العجالة – التحيّة، كي يسعنا التنويه بفترتين تاريخيتين أخريين. فالقسم الثاني تفرده الباحثة نازك سابا يارد لرحّالة الحقبة الثانية، بين عامي 1880 و 1918، وتحت محاور القسم الأول نفسها (أي الصراع في أوجه السياسة والاقتصاد والفكر الأخلاقي والاجتماعي والثقافة والعلم والدين) مع أعلام جدد من الرحّالة العرب هم: محمد أمين فكري (1856 – 1899)، أحمد زكي (1866 – 1934)، محمد ابراهيم المويلحي (1868 – 1930)، محمد فريد (1868 – 1919)، جرجي زيدان (1861 – 1914) ومحمد كرد علي (1876 – 1953). وقد جابه رحّالو هذا الجيل مشكلة لم يتعرّض لها أسلافهم إذ جاءت الحضارة الغربية تتحدّاهم في عقر دارهم فتهدّد الهوية الشرقية بالزوال وتقضي على معتقداتها وقيمها وتقاليدها، بعدما قضت على حريتها واستقلالها، بحيث بات محسوسًا ألم الشرقيّ المستعمَر يصعد من صرخة المويلحي (المعبّر جدًا حتى عن حالة عالمنا العربيّ اليوم): “أوليس من صواب الرأي أنّ نصف ما القوم (أي الغربيون) فيه، من القوة والمنعة ومظاهر العز والعظمة في النعيم المقيم، وأننا لا نزال راقدين رقادنا الطويل في كهوف التراخي والخمول، يقولون فنسمع، يأمرون فنصدع، ويقتسمون أرزاقنا فنشكر، ويُنقصون من أرضنا فنحمد، ويحتلّون أرضنا فنقبل، أفلا أقلّ من أن نسهب في بيان الأسباب التي ارتقت بهم في الوجود، ونطنب في شرح القواعد والأصول التي أسّسوا عليها بنيانهم، لنحذو حذوهم؟”. وقد عبّر جرجي زيدان عن شعور الشرقيين بأن هويتهم مهدّدة بالزوال حين كتب: “توخّينا النظر على الخصوص في ما يهمّ قرّاء العربية من أحوال تلك المدنيّة (الغربية) التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل، ونحن نخبط في اختيار ما يلائم أحوالنا منها (…) ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا”. لم يستطع رحّالو هذا الجيل التخلّص من إحساسهم بأن هذا الغرب عدوّهم المباشر (سبحان عدم مغيّر الأحوال!)، مع أنّه لا يزال “المعلّم” أيضًا.

“تعذر تحديد مدى اطلاع محمد فكري ومحمد فريد على الفكر الأوروبي، إلّا أنّ مؤلفات معاصريهما حافلة بالبراهين على المؤثرات الغربية في أدبهما”

 

لم يبقَ “الاتصال الفكري” مقتصرًا على أقلية ضئيلة من المثقفين بعد أن ازداد عدد المدارس التبشيرية في سورية ولبنان إثر حوادث 1860، وبعد ازدهار الصحافة العربية وحركة الترجمة، ومزاحمة اللغتين الإنكليزية والفرنسية اللغة الأم في البلاد العربية التي احتلّها الإنكليز والفرنسيون. وإن تعذر تحديد مدى اطلاع محمد فكري ومحمد فريد على الفكر الأوروبي، إلّا أنّ مؤلفات معاصريهما حافلة بالبراهين على المؤثرات الغربية في أدبهما. وقد أتقن أحمد زكي، في المقابل، الفرنسية والإيطالية مع إلمام بالإنكليزية والإسبانية واستشهد في مؤلفاته بالفيلسوف باسكال وبالكاتب الإسباني العظيم ثرڨانتس وبشيخ الأدباء الفرنسيين فكتور هوغو والشاعر الألماني شيلر، وآخرين كثر. كذلك أتقن المويلحي الفرنسية والإيطالية وقرأ سبنسر وشوبنهاور والأدب والأسطورة اليونانيين وفلاسفة اليونان. أما زيدان فأتقن الإنكليزية وبرزت في كتبه ومقالاته (في “الهلال”) سعة اطلاعه على كتب أوروبية في العلم والتاريخ والاجتماع والأدب يصعب حصرها. أما محمد كرد علي فقرأ فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام ورينان وسانت بوڨ وآخرين كثرًا. كان هذا الجيل أكثر ثقافة واطلاعًا من سلفه وأوسع اطلاعًا على مختلف التيارات الفكرية والاجتماعية والأدبية والتاريخية والعلمية. ولأنّ اللبنانيّ والسوريّ ذاقا استبداد العثمانيين وظلمهم فقد أعجب اللبناني زيدان والسوري كرد علي بفرنسا لتعشّقها الحرية. غير أن المويلحي الذي ذاق في بلده الاحتلال الغربيّ فقد نشب في داخله الصراع بين إعجابه بالغرب وبمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، ونقمته عليه إذ رفض تطبيقها على الشعوب الأخرى فميّز بين الغربيّ والشرقيّ، بين القوي والضعيف، بين المستعمِر والمستعمَر. ويقول محمد فريد بدوره: “يعامَل المسلمون في الجزائر بقوانين مخصوصة غاية في الشدة والصرامة. فهم محرومون من حرية الكتابة وحرية الاجتماع، بل من حرية السفر والانتقال، وحرية مطالعة الكتب والجرائد. نعم، يصعب على الذي يعرف حب الفرنساويين للحرية والمساواة ويرى هذه الألفاظ السامية منقوشة على أبواب جميع المصالح والإدارات الأميرية أن يصدّق ذلك. ولكن من يتكلّف مشقة زيارة بلاد الجزائر يتحقق من أن ما هو جائز في بلاد فرنسا غير مباح للمسلمين في المستعمرات، وإن كان مباحًا للفرنساويين أو المتفرنسين”. لذا يرى المويلحي وفريد أن الغربيين يدّعون تلك المبادئ ليفتنوا بها الشرقيين فيتخلّى هؤلاء عن مبادئ حضارتهم ليعتنقوا ما يظنونه أفضل وأرقى وأعدل، وإذا بهم قد خسروا كل شيء، الحرية والإخاء والمساواة التي خلبتهم في الحضارة الغربية، والقيم الإنسانية الكامنة في حضارتهم الشرقية، والتي كانت سبب خلود هذه الحضارة عبر الأجيال.

الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946)

الجيل الثالث والأخير (لحقبة ما بين الحربين العالميتين) قد يكون الأهمّ والأشهر للقارئ، إذ يضمّ أسماء كبرى مثل الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946) وأمين الريحاني (1876 – 1940) وطه حسين (1889 – 1974). لكنّ هؤلاء الأعلام الكبار لم يُعنوا كثيرًا في مؤلفاتهم وكتب رحلاتهم بوصف ما شاهدوا من مظاهر الحضارة الغربية في البلاد التي زاروها إذ أضحت من الأمور المعروفة لدى القارئ العربي. فلا تصوير للمؤسسات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية، ولا وصف للشوارع والحدائق والساحات العامة، بل التفتوا أحيانًا إلى مظاهر الحياة الفنية، ووصفوها بما ينمّ عن ذوق وثقافة فنّيين لا نلمسهما عند الرحّالة السابقين. كما تلفت نظرنا سعة اطلاع هذا الجيل على الآداب الغربية وإتقان كتّابه عددًا من اللغات مكّنهم من التأليف أو ترجمة الروائع الأدبية منها أو نقدها فنيًا. اهتمّ أرسلان بالتاريخ والجغرافيا والسياسة الحديثة، وطالع الريحاني آداب الغرب قبل تعرّفه إلى الأدب العربي فقرأ كارلَيْل الإنكليزي وثرڨانتس الإسباني وهوغو ولامارتين وزولا وبلزاك الفرنسيين، وتولستوي وغوركي الروسيين، واقتفى أثر الشاعر الأميركي والت ويتمان في نظم الشعر المنثور. أمّا طه حسين الذي عاش ردحًا في باريس فقرأ موليير وروسو وفولتير وهوغو وجيد وڨاليري (الذي تأثّر به كثيرًا) وسارتر وكامو وكافكا وكوكتو. وكان في تكوين الريحاني وطه حسين الثقافي أثر بعيد للفلسفة أكثر مما نلمس في ثقافة الرحالة السابقين.
لناحية الصراع بين الشرق والغرب في فكر هذا الجيل الثالث من الرحالة وأدبه، نرى أنّه يشبه في فكر أرسلان ذاك الذي رأيناه في مؤلفات الطهطاوي والتونسي، معتبرًا على طريقة الحديث الشريف أن “ليس لعربي فضل على أعجميّ وليس لأعجميّ فضل على عربيّ إلّا بالتقوى”. وقد أوّل الإسلام على ضوء مبادئ الفكر الأوروبي الحديث لإظهار الاتفاق التام بين الإسلام والحضارة الغربية. تألّم لضعف المسلمين وما لحقهم من ذلّ على أيدي الغرب إثر الاحتلال والانتداب، فكَرهَ الغربيين ونقم عليهم وشعر بأن التمسك بالإسلام ضروري للحفاظ على الكرامة والهوية معًا. بيد أنّه وعى في المقابل أنّ المبادئ السياسية التي قامت عليها المدنية الغربية الحديثة هي من العوامل المهمة في قوة الغرب وتفوّقه وسلطته، ومن المستحيل أن ينكر المرء ما في الغرب من حرية ومساواة وإخاء ليست في البلاد الإسلامية الحديثة.
من ناحيته، انطلق طه حسين من نظرة عقلانية إلى الإسلام فناقض جميع الرحّالة المسلمين الآخرين، إذ يرى أنّه إذا لم يدرك المسلمون المساواة التي يتمتع بها الغربيون فلأنهم أهملوا متابعة التطوير الذي بدأه دينهم الإسلامي الذي خطا، في نظره، خطوة هائلة حين سوّى بين الحر والعبد أمام الله فكانت هذه الخطوة “حدثًا خطيرًا في تاريخ الناس” بحسب تعبيره الحرفيّ، مردفًا: “لو مضت الأمور على وجهها لامّحى الرق تمامًا”. من هذه النظرة العقلانية إلى الدين نستخلص مدى تأثر طه حسين بالفكر الغربي الذي لا يعدّ شرائع الدين حقيقة ثابتة منزلة بل ظاهرة اجتماعية تمثل مرحلة معينة من مراحل التاريخ وتطور الشعوب. استطاع طه حسين أن يزيل التناقض بين الإسلام والفكر السياسي الحديث، متبنّيًا نظرة الغرب العقلانية إلى الدين، من غير أن يتخلّى عن هويته. ومع ذلك، لم ينج من اتهامات ومحاربات كثيرة في حياته من “الغيارى” على الدين.
أمّا الريحاني فاتخذ الصراع في موقفه من المستعمر الغربي مظاهر أخرى. انصبّت نقمته العارمة على الفرنسيين دون الإنكليز (!)، ربما لأنّ وطنه اللبناني عانى من الانتداب الفرنسي لا الإنكليزي، كما أنّ نشأته المهجرية في الولايات المتحدة (مع جبران ونعيمة وآخرين) جعلته أقرب إلى الأنكلوسكسونيين منه إلى اللاتين. لكن الحقيقة أن لميوله الإنكليزية (أو البريطانية) أسبابًا أعمق متعلقة بنزعته القومية العربية الداعية إلى الوحدة، خاصة بين لبنان وسورية والعراق وفلسطين (يلتقي مع أنطون سعاده في هذه الرؤيوية)، فنقمته على الانتداب الفرنسي أعنف من نقمته على الإنكليز ويردّها (في زعمه الذي لا يستقيم منطقه كثيرًا) إلى فوائد اقتصادية جنتها البلاد الخاضعة لسلطة الإنكليز (!) الذين استجابوا للحركات الوطنية أكثر من الفرنسيين (!)، ففيما بطش الفرنسيون بكل نشاط وطنيّ في سورية، رأى الريحاني أن النضال الوطني في العراق أدى إلى توقيع عدد من المعاهدات بين الإنكليز والعراقيين (!). إلّا أن نقمة الريحاني على المستعمر الغربي، وشعوره القومي العربيّ، جعلاه يناقض ما قاله في تحديد القومية. اصطرع في نفس الريحاني شعوران، واحد أنّه غربيّ، وآخر أنّه عربيّ أُهين على يد الغرب… ومع ذلك يبقى “العيب” الأكبر في أفكار الريحاني إغفاله حقيقة أنّ الانتداب البريطاني هو الذي أهدى فلسطين للصهاينة وتسبّب بأكبر المآسي في تاريخ العرب، مسيحيين ومسلمين.
تحيّة إلى نازك سابا يارد في غيابها، فإلى مؤلفاتها الكثيرة التي تركتها لنا بين دراسة أدبية (إحداها عن جبران خليل جبران) ورواية وسيرة ذاتية (هي المولودة في القدس قبل رحلة المنفى)، أنجزت بحثها القيّم هذا الذي يتردّد صداه في واقعنا العربي الراهن، الثابت غير المتحول. وهو أهم الأبحاث والدراسات في المكتبة العربية إذ يطرح أكثر من قضية إشكالية يلزمها مزيد من القراءة النقدية، مثل إشكالية “تفضيل” الريحاني استعمارًا على استعمار، بنحو مثير للعجب!

٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

Continue Reading

Previous: دمشق وموسكو… مصالح استراتيجية توفّر فرصة لعلاقات جديدة محمد أمين…..المصدر :العربي الجديد
Next: برجس: روائي يتعافى من وجع الحياة بالكتابة أحمد طمليه…….المصدر : ضفة ثالثة

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

السلم الأهلي في سوريا لا يزال ممكناً فيما لو… عمر قدور…المصدر: المدن

khalil المحرر مايو 3, 2025
صيانة
  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

قيد الصيانة

admin مايو 3, 2025
  • مقالات رأي

سؤال العدالة بوصفه تأسيساً ممكناً لطغيان جديد في الطبيعة المُلتبسة للعدالة وتحدياتها في سوريا موريس عايق.المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر مايو 3, 2025

Recent Posts

  • السلم الأهلي في سوريا لا يزال ممكناً فيما لو… عمر قدور…المصدر: المدن
  • قيد الصيانة
  • سؤال العدالة بوصفه تأسيساً ممكناً لطغيان جديد في الطبيعة المُلتبسة للعدالة وتحدياتها في سوريا موريس عايق.المصدر:الجمهورية .نت
  • علينا ان نختار: التقسيم أم الفيديرالية؟ غسان صليبي المصدر: النهار
  • لبنان يعود إلى الإمارات وأول الغيث رفع الحظر….سابين عويس المصدر: “النهار”

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • السلم الأهلي في سوريا لا يزال ممكناً فيما لو… عمر قدور…المصدر: المدن
  • قيد الصيانة
  • سؤال العدالة بوصفه تأسيساً ممكناً لطغيان جديد في الطبيعة المُلتبسة للعدالة وتحدياتها في سوريا موريس عايق.المصدر:الجمهورية .نت
  • علينا ان نختار: التقسيم أم الفيديرالية؟ غسان صليبي المصدر: النهار
  • لبنان يعود إلى الإمارات وأول الغيث رفع الحظر….سابين عويس المصدر: “النهار”

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

السلم الأهلي في سوريا لا يزال ممكناً فيما لو… عمر قدور…المصدر: المدن

khalil المحرر مايو 3, 2025
صيانة
  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

قيد الصيانة

admin مايو 3, 2025
  • مقالات رأي

سؤال العدالة بوصفه تأسيساً ممكناً لطغيان جديد في الطبيعة المُلتبسة للعدالة وتحدياتها في سوريا موريس عايق.المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر مايو 3, 2025
  • مقالات رأي

علينا ان نختار: التقسيم أم الفيديرالية؟ غسان صليبي المصدر: النهار

khalil المحرر مايو 3, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.