في لحظة التحولات الكبيرة، كتلك التي تعيشها سورية، بعد سنوات الثورة التي توجت بسقوط طاغيتها، تظهر أسئلة كثيرة يفرضها الواقع الجديد وما يبدو عليه من مظاهر، قد تبدو غريبة بعض الشيء خاصة على المستوى الاجتماعي، إنما في الواقع هي ليست غريبة أو مفاجئة إذا ما استرجعنا نصف القرن الماضي من تاريخ سورية.
من الأسئلة المهمة ربما، ما يتمحور منها حول شكل الدولة السورية المأمولة، وهوية المجتمع السوري الجديد، الذي أصابه كثير من التشظي، ودور الفرد السوري في هذا البناء الصعب ما دام أنه فوق ركام عقود من الخراب والتدمير الممنهج والفساد، ليس ركام العمران فحسب، إنما الدمار الذي لم يسلم منه بنيان الفرد السوري والمجتمع السوري.
ومن أجل أن يكون للفرد السوري دوره المنتج في إعادة إعمار وطنه والمساهمة في بناء دولته المنشودة، لا بدّ لمفهوم المواطنة من أن يكون واضحًا في وعي الأفراد، ومعززًا من قبل الحكومة، المواطنة التي حُرم منها باضطراد على مدى عمر الطغيان.
لقد كانت المواطنة موضوعًا لعمليات إعادة ترتيب وتحولات متعددة في محتواها الدلالي، والتي هي في حدّ ذاتها عوامل ومؤشرات للتغيرات الاجتماعية والتاريخية العميقة.
للمواطنة تاريخ طويل
في اليونان قديمًا تشير المواطنة إلى العضوية في الهيئة السياسية السيادية (demos)، التي تتداول وتضع القوانين التي تحكم المدينة، كان يمكن للمواطنين الاجتماع في مكان واحد لمناقشة القضايا الرئيسية التي تهم المدينة (الحروب، والمعاهدات التجارية، والانتخابات لمختلف المناصب، وما إلى ذلك). لكن هذه المواطنة القديمة كانت تخصّ أقلية صغيرة. وهكذا، على سبيل المثال في أثينا، 10% فقط من السكان كانوا يتمتعون بوضع المواطنين. كلهم رجال أحرار، تم استبعاد النساء والعبيد و”الميتيك”، أي الأجانب.
تأسست خلال فترة الثورة السورية العديد من منظمات المجتمع المدني (Getty)
وفي القانون الروماني أشارت المواطنة إلى وجود مجموعة من الحقوق والحماية الشخصية التي يهدف القانون تحديدًا إلى ضمانها. ومع توسع إمبراطوريتها، أعطت روما عددًا متزايدًا من الأفراد الحق في العيش فيها. كانت المرحلة الأخيرة من هذا التطور هي مرسوم كركلا (212 م)، والذي تم بموجبه الاعتراف بجميع سكان الإمبراطورية على هذا النحو.
“المواطنة هي ضرورة من مستلزمات الانتماء للمجموعة السياسية أو للدولة كوحدة سياسية متكاملة والتي تتألف من وطن هو إقليم جغرافي وشعب ونظام وسلطة”
ثم شهدت فكرة المواطنة كسوفًا في عصر الملكيات. كمجتمعات امتيازية، حيث استبعدوا أي مشاركة لرعاياهم في صنع القرار السياسي. لكن الحداثة السياسية، التي ولدت تدريجيًا في الغرب، والتي فرضت نفسها في زمن الثورات السياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا، أحدثت قطيعة جوهرية، ولم تعد المواطنة الحديثة تمتد إلى العصور القديمة.
المواطنة بمفهومها الحديث
لقد رددنا كلمة المواطنة لدرجة أنها تبدو “طبيعية” بالنسبة لنا، لكنها فكرة أو مفهوم تخييلي، لا تصبح ملموسة إلا بتحققها في المواطن، والمواطن هو موضوع القانون. على هذا النحو، لديه حقوق مدنية وسياسية، يتمتع بالحريات الفردية، وحرية الضمير والتعبير، وحرية الحركة، والزواج، وافتراض براءته إذا ألقت الشرطة القبض عليه ومثوله أمام المحاكم، وأن يكون لديه محامٍ للدفاع عنه، وأن تعامل المحاكم الماثلين أمامها وفقًا لقانون متساوٍ للجميع. له حقوق سياسية: المشاركة في الحياة السياسية والانتخاب والترشح لجميع المناصب العامة. ومن ناحية أخرى، يقع على عاتقه التزام باحترام القوانين، والمشاركة في النفقات الجماعية وفقًا لموارده، والدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه، إذا تعرض للتهديد وغيرها من الواجبات التي يقرها الدستور ويحميها القانون. فالمواطنة وفقًا لمفهومها الحديث تتألف من مجموعة من الحقوق والواجبات، حقوق المواطن على الدولة، وحقوق الدولة على المواطن، وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته وفهمه إياها يعدّ أساسيًا في مساهمته في الأمور العامة، خاصة لناحية دوره في رسم السياسات الخاصة بدولته، وقبلها دوره في تحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، هذا ما يقره بالتفصيل دستور البلاد.
إدراك المواطنة هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع (Getty)
عن ضرورة الشعور بالمواطنة
إن المواطنة هي ضرورة من مستلزمات الانتماء للمجموعة السياسية أو للدولة كوحدة سياسية متكاملة والتي تتألف من وطن هو إقليم جغرافي وشعب ونظام وسلطة، لذلك من المهم بمكان أن يدخل هذا المفهوم في الوعي الجمعي، وأن يكون كل فرد في المجتمع واعيًا بهويته مواطنًا، فيدافع عن حقوقه المدنية والسياسية، ويتحمس لواجباته، لا أن يشعر أن الدولة خصم له، تتمادى على كيانه وتمسخه حد أن يصبح بلا ملامح، لا يعدو أن يكون رقمًا بين مجموع كبير، رقمًا ألصقته أجهزة النظام البائد على جبين ضحاياه الذين عذبوا في أقبيته ومعتقلاته حتى الموت.
ما جرى الاشتغال عليه في سورية على مدى أكثر من نصف قرن تركز بشكل أساس على انتزاع هذا الشعور من وجدان الفرد السوري، مع إعلاء لمفهوم الوطنية كما روج له النظام وفق تطلعاته ورؤاه المستقبلية، كانت بداياته مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة ومن بعده انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، إذ تم تأطير الوعي العام ضمن كوادر بعيدة عن مفهوم المواطنة والوطن والمشكلات التي تخص المجموعة البشرية التي تعيش ضمنها، فصارت الشعارات القومية والوحدة العربية والاشتراكية مفاهيم شاسعة، إنما مغلقة تحشر الشعب ضمن أطرها وتشغل وعيه عن خصوصيته وطموحاته ومستقبله، مع تعطيل، بل إلغاء، دور مؤسسات المجتمع في الحفاظ على البنية السليمة لوعي المواطن وممارسته للمواطنة، ما نجم عنه، بعد سنوات من هذا التأسيس والعمل، محو فكرة المواطنة وإلغاؤها من التداول، إلا بما تراه السلطة القائمة مناسبًا لخدمة أجندتها، فتعمل على إخراج مدونات الدستور والقوانين إلى العلن والتبجح بمفردة مواطن في توجيه خطابها إلى الشعب: أيها المواطنون. بعد أن دمجت الشعور بالانتماء والولاء للوطن بالانتماء إلى القيادة السياسية متمثلة برأس النظام، وبعد أن عملت على تثبيت فكرة “سورية الأسد” فجعلت الوطن ملكية خاصة بعائلة وحيدة.
لم يشعر الأفراد عامة بأنهم مواطنون إلا تحت تلك اليافطات التي تروج لها السلطة، وهذه المشاعر كانت معجونة بالقهر والشعور بالظلم وانتقاص الكرامة، فلم يكن الفرد في المجتمع قادرًا على التعبير عن نفسه، أو المطالبة بحقوقه والدفاع عنها، كانت حريته تنتهك في أبسط ممارسة لها، وحقوقه تغتصب، في الوقت الذي تصدع سمعه وروحه المفردات الممجوجة من حرية وديمقراطية وعلمانية وغيرها من المصطلحات التي أوصلت الشعب في قسم منه إلى نبذها وشيطنتها، فقد شوهت ممارسات النظام هذه المفردات حتى صارت ترتبط في وعي شرائح واسعة بالكفر والسطوة الغربية على هويتنا وثقافتنا، في الوقت الذي كان فيه الشعب يبحث عن ملاذ آمن لروحه وكيانه من تجاوزات النظام وبطشه، فلم يجدها إلا في الملاذ الديني الذي ساعد النظام السياسي على تقويته فكريًا وعمليًا كي يكون لديه حليف قوي يسانده في بسط سيطرته على المجال العام والخاص، وتأطير الشعب في كوادر تخدمه، مع تنمية وتعزيز الشخصية الامتثالية، الفردية والجمعية.
“بعد سقوط نظام الأسد، والخراب الذي خلفه على مستوى الدولة والمجتمع، تبين بشكل واضح انقسام الشعب السوري حول طبيعة الدولة المرتجاة”
بعد سقوط نظام الأسد، والخراب الذي خلفه على مستوى الدولة والمجتمع، تبين بشكل واضح انقسام الشعب السوري حول طبيعة الدولة المرتجاة، هذا الانقسام وهذه التصورات لشكل الدولة مبنية على فهم ضيّق لمفهوم الدولة الحديثة، وإهمال لمفهوم المواطنة، هذا ما كان نتيجة نصف قرن من تكميم الأفواه ومنع التعبير عن الرأي وتوجيه الفكر والثقافة باتجاه يخدم أجندات النظام الحاكم ويعزز من تمكين سيطرته على المجال العام والمجتمع، مع إضفاء الشمولية المعيقة للازدهار، خاصة بالنسبة إلى طمس الهويات الثقافية الخاصة بالمجموعات السورية المتعددة، هذا التعدد الذي كان من المفترض أن يكون سبب ازدهار المجتمع السوري.
من حقيقة هذا الواقع السوري، التاريخي والحالي، القائم على التعددية الغزيرة التي يتصف بها، من دينية ومذهبية وعرقية وقومية وغيرها، يولد سؤال شكل الدولة السورية المرجوة، لكن هذا السؤال يبقى خامدًا ما لم يشعر السوريون بمواطنيتهم، ما لم يكن كل فرد يعتز بها بدلًا من كونه يتمسك بانتماء دون هذا المستوى، عززته سنوات القمع والاستبداد، وربما يكون الشعور بالمواطنة وإدراكها عتبة أولى في فهم معنى الديمقراطية السياسية والاجتماعية، فمع الديمقراطية تتحقق المواطنة بالشكل الأمثل، ويتحقق التمثيل الشعبي بطريقة تخدم التطلعات إلى المستقبل وبناء الدولة وفق أسس مستدامة، فلا تشعر معها شريحة من الشعب أنها مبعدة أو مقصية عن الفعل الإيجابي والتشاركي في صنع القرارات التي تخص الشعب ومستقبل دولته، فالديمقراطية الحديثة هي في الغالب تمثيلية، حيث ينتخب المواطنون ممثلين لاتخاذ القرارات نيابة عنهم. وتشمل المبادئ الأساسية المساواة السياسية وحرية التعبير وحماية حقوق الإنسان ومشاركة المواطنين من دون تمييز. هذه المفاهيم ضرورية لعمل وشرعية النظم الديمقراطية المعاصرة، هذا رأي من آراء يتوزعها الشعب السوري، إنما يبقى الشعور الإيجابي بالمواطنة هو الدافع الأكبر لالتقاء الشرائح من أجل الحوار حول قضايا مشتركة تخص جميع السوريين، وربما في إعادة النظر في علاقاته السابقة والروابط الاجتماعية الأخرى كالعشائرية والمذهبية والقومية والعرقية والإثنية والدينية، كما أسّس النظام الساقط، وهذه كلها تعيده إلى مراحل ما قبل الدولة وتضع العثرات والعراقيل في طريق بنائها.
إدراك المواطنة هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع يستطيع أن يرسم معالم مستقبله، وأن يكون أفراده مؤهلين للقيام بمسؤولياتهم بروح إيجابية وليس بالإكراه. المواطنة المتساوية هي الضامن الوحيد، وهي التي تمحو فكرة أن المجتمع السوري قائم على أغلبية وأقليات، الفكرة التي تزيد من الشروخ والتصدعات في المجتمع، وتشل قدرة أبنائه، وتبقي على المظلوميات حاملًا رئيسًا للحراك السياسي في البلاد، هذا لن يخلق جوًا تنافسيًا إيجابيًا، إنما سيؤدي إلى تبديد الطاقات وحرفها عن مسارها المنتج.