قبل أن تأسرك الكاتبة العراقية إنعام كجه جي بروايتها الجديدة “صيف سويسري” الصادرة عن منشورات تكوين بالتعاون مع دار الرافدين، يحضرك مذاق لغتها العالق في ذهنك منذ آخر عمل قرأته لها، والذي قد يكون “النبيذة” الرواية التي خانها الحظ لتنال “البوكر العربية” في إحدى دوراتها السابقة.
أتحدث عن لغة كجه جي أولًا لأن اللغة دعامة أساسية في أي عمل أدبي، فقد تزكي فصول القصة المسرودة فيما بعد، وقد لا تزكيها. كل إبداع يحتاج إلى بصمة لغوية تميزه عن غيره. كل إبداع يحتاج إلى لغته الخاصة، وقاموس مفرداته الذي يبني حقول دلالاته ويشكل معانيه وأهدافه.
لروائيتنا هذا المتاع اللغوي الفاخر، تؤثث به معمار روايتها، بدون أي شعور بأنه “مصطنع”، إذ تنساب اللغة كما لو أنها شلال ينهمر نزولًا من مرتفع عالٍ دون أي عقبات.
بعد أن تقدم لنا كجه جي أولى شخصياتها “حاتم الحاتمي” واصفة إياه بالجنين العملاق الذي يغمض عينيه فتنتشر أجنحته وتأخذ روحه مداها بين الصحو والغياب، تنفتح ستائر المخيلة لتصبح لعبة القراءة ممتعة والتوغل في النص مغامرة لذيذة تمامًا كما نبهنا إلى ذلك رولان بارت ذات يوم.
لا يفوت روائيتنا أن تسارع لتضعنا أمام الحقيقة المعقدة لهذه الشخصية، وترسم لنا حدود الماضي والحاضر، بين ما حدث في العراق ذات يوم، وما سيحدث في مدينة “بازل” السويسرية الوادعة. يبدو الأمر كما لو أنه معادلة رياضية سهلة الحل، لكن لا، فكل معادلة تحتاج إلى تفكيك وإعادة ترتيب لفهمها. فماذا يفعل حاتم في بازل؟ ماذا يفعل الرفيق سور الصين الحامل لأطنان من ثآليل الماضي في مدينة سويسرية شديدة النظام والنظافة؟ لاجئ؟ وليكن كذلك، فمختصر القصة يقول إن الحكاية تدور حول تجربة عقار لعلاج الإدمان العقائدي، يخضع لها أربعة لاجئين من العراق لتصحيح أعطابهم التي تسببت فيها أحزابهم في الوطن.
كل توقع لأحداث الرواية ونهايتها تفادته روائيتنا، لقد أرادت أن تكسر سقف توقعاتنا، لهذا اعتمدت فك شيفرات شخصياتها، لتنكشف عبر فصولها كما لو أنها كلها كانت تحظى بوجه تخفيه العتمة وآخر براق تحت ضوء ما.
نتوقع هذه الازدواجية عبر تحليل لأعماق هذه الشخصيات الخارجة من بيئة مظلمة، كونها عرفت معاناة كثيفة أفقدتها جزءًا كبيرًا من إنسانيتها، تأتي التغيرات البطيئة ليس بسبب العقار السحري، بل بسبب بيئة جديدة فيها متسع من الحرية، ولهذا تسهب الكاتبة في وصف المدينة، وهكذا يصبح القارئ فردًا متنقلًا في جغرافيا ثقافية جديدة. فتبدأ الشخصيات تبرز الواحدة تلو الأخرى، برشاقة سردية لافتة. حاتم يقدم نفسه بمدمن قومية، غزوان بخريج سجون ومن محبي آل البيت، بشيرة حسون باليسارية، ودلاله بالمبشرة. يجلسون في حلقة في مواجهة “حلال العقد” الأستاذ بلاسم، المشرف على مجموعة بازل.
هل تنحاز إنعام كجه جي لعراقها أم للبيئة السويسرية “النظيفة”؟
من ذكاء الكاتبة أنها تذهب إلى أقاصي الأمور، فلا شيء كاملًا في الحقيقة. الوجه المضيء للقمر ليس مضيئًا دائمًا، والعكس صحيح.
في بازل الجميلة النظيفة الهادئة، لا تهدأ الذاكرة عن إخراج أثقالها المتفحمة، إذ يبدو أن العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة لم يعد بمقدوره أن يغالط التاريخ ويتوقف عند “صيف سويسري” واعد بحياة هادئة.
كل شيء عند إنعام كجه جي متصل بخيوط صلبة مثل شبكة عنكبوتية وكلما اهتز خيط اهتزت الشبكة كلها. كل خاضع لفعل تلقى ردة فعل. وهذه براعة الروائية لطرح حبكتها. لم تكن منحازة للغرب ولا للشرق، لقد وضعتهما معًا تحت عدسة مجهر واحد.
ليس من حقي أن أسرد تفاصيل الرواية، وإزاحة الستار عن فصولها الجميلة، لكني على يقين من أن قارئها سيعيش متعته ولسوف يتوقف عند محطات عديدة لمناقشة أفكار الكاتبة.
إنها نموذج من النماذج الناضجة للرواية المكتوبة باللغة العربية، وكل أمنياتي ألا تظلم كما ظلمت أعمال سابقة لكجه جي، على الأقل لإنقاذ المشهد الأدبي العربي من الصورة السيئة التي أصبحت لصيقة به بسبب ضعف أغلب الأعمال الأدبية التي تتصدره إعلاميًا.
عنوان الكتاب: صيف سويسري المؤلف: إنعام كجه جي