يصبون غضبهم على الإعلام الغربي لانحيازه الكامل لإسرائيل بينما المحتوى لا يصل إلى المتلقي المستهدف أصلاً

الانحياز سمة تغطية الحروب  (غيتي)

ملايين العرب يلتصقون على مدى اليوم بالشاشات التلفزيونية الإخبارية لمتابعة حرب القطاع . الالتصاق لا يقتصر على شاشة واحدة أو مصدر دون غيره أو جنسية قناة معينة. في متابعة الحرب هذه المرة جمهور ناضج يبحث عن مجرياتها عبر عيون مختلفة، فإن تطابقت رؤى العين فالتناول يختلف والرسالة لا تتطابق.

الحدث في غزة واحد، لكن الأثر الإعلامي ليس واحداً، فالرسائل المصورة تبث حاملة روح المنصة وقلب الجهة المالكة وعقل الرؤى المستقبلية للمؤسسة الإعلامية، سواء كانت تابعة لدولة أو مملوكة لشركات أو رجال أعمال، أو محسوبة على أحزاب أو برلمانات أو كيانات معلنة أو غير معلنة.

الإعلان عن الانحياز

الإعلان عن “الانحياز” في تغطية حرب القطاع على الشاشات – كل الشاشات باختلاف جنسياتها – لم يكن في حاجة إلى إشهار. الانحياز سمة تغطية الحروب، حتى وإن كان انحيازاً غير مخطط أو مجهز. مدير الأخبار في قناة “سكاي نيوز عربية” عبده جاد الله قال قبل أيام في “منتدى مصر للإعلام” الذي انعقد في القاهرة، إن انحياز الإعلام الغربي لأوكرانيا في الحرب الروسية – الأوكرانية يأتي من منطلق اعتباره أن كييف جزء لا يتجزأ من المجتمع الغربي، مضيفاً أنه “من منطق المصلحة يمكن فهم وجهة النظر في الإعلام الغربي وانحيازاته وهي مبنية على المصلحة. وهو (الإعلام الغربي) يتعامل معاسرائىل في حرب القطاع نفس تعامله مع أوكرانيا”.

رموز الإعلام العربي المكتوب والمرئي المشاركون في المنتدى اتفقوا على الانحياز الغربي شبه الكامل لإسرائيل في تغطية حرب القطاع، حتى ولو تزحزح الانحياز قليلاً ليتسع لقدر أوفر من تغطية مأساة غزة الإنسانية مع تصاعد القصف الإسرائيلي.

انحياز لمظلومية دون أخرى

تتكرر عبارات “الإعلام الغربي يقدم أمثلة صارخة على الانحياز” و”الإعلام الغربي كشف عن وجهه الحقيقي في أوكرانيا وحالياً في غزة” و”عوار بنية الإعلام الغربي الذي كشفت عنه تغطية غزة” وغيرها من اتهامات يعتبرها كثر مستحقة للتغطية الإعلامية الغربية الموصومة بالانحياز الكامل للرواية والموقف والمظلومية الإسرائيلية.

في المقابل، يعرف الغرب جيداً أن الاعلام العربي  – في ما يتاح له من ترجمات أو تقارير تحلل المحتوى – منحاز للرواية والموقف والمظلومية الفلسطينية.

مدير مركز كمال أدهم للصحافة التلفزيونية والرقمية في الجامعة الأميركية في القاهرة حسين أمين يقول لـ”اندبندنت عربية” إن “الإعلام ينحاز في الحروب، وحرب غزة ليست استثناء، فوسائل الإعلام العربية منحازة، ووسائل الإعلام الغربية منحازة، لكن الأخيرة انحازت بسفور”.

وفي كل حلقة من حلقات الصراع المتجددة يصب العرب غضبهم على الإعلام الغربي لانحيازه الكامل للطرف الإسرائيلي وتعاميه تماماً عن تاريخ الصراع ومجريات الاحتلال وعوامل الاشتعال. وفي كل حلقة من هذه الحلقات لا يعير المتلقي الغربي اهتماماً كبيراً لما يدور أو يقال أو يكتب في الإعلام العربي، لأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر أن محتوى الإعلام العربي أو ما يقوله ويتبناه لا يصل إليه أصلاً.

الأصل في استهلاك الأخبار

الأصل في استهلاك الأخبار في أزمنة الحروب والصراعات والكوارث الكبرى هو اللجوء إلى الصورة والنشرة والتحليل والخبر العاجل. إنها الوسائط التي ترسم وتحدد وتحفر توجهات الرأي العام المبنية على ما يتلقاه الفرد على مدى الساعة من وجبات إعلامية مكثفة.

المتلقي الغربي يتناول وجبات إعلامية مكثفة عن الحرب قوامها ما تبثه شاشاته فقط في الأغلب. عربياً، يحصل المتلقي على وجباته من مصادر متعددة يختار بينها أو يمزج بين مكوناتها بحسب رغبته. في الأقل الرغبة خيار، حتى لو اختار شاشة واحدة لا أكثر.

شاشات الغرب الموجهة للعرب كثيرة. شاشات إخبارية وعامة ناطقة بالعربية مصادرها الرئيسة الصين وأميركا وروسيا وتركيا وإيران وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل نفسها. سنوات طويلة وهذه الشاشات تخاطب المتلقي العربي بلغته وثقافته، وتبعث برسائل وأهداف وأغراض كل بحسب انتمائه ومصالحه وسياساته. سنوات البث هذه نجمت عنها قاعدة جماهيرية عربية تتابع ما تبثه هذه الشاشات، تأخذه مأخذ الجد والخبر حيناً، وتتعامل معه بحذر حيناً، لكن محصلة المتابعة تظل تشكل جزءاً ولو صغيراً من وعي المتلقي.

الوعي غربي

وحين فوجئ العرب أن وعي المتلقي الغربي في ما يتعلق بالحرب على غزة وبخلفية الصراع لا يحتوي إلا ما تبثه قنواته، انصب الاهتمام على تكييل الاتهام للغرب لأنه لا يستمع للجانب الإعلامي العربي من الرواية.

الجانب الإعلامي العربي يعاني خللاً في التدفق لغير العرب. مئات القنوات العربية تبث على مدى الساعة أخباراً وتحليلات ووثائقيات وحوارات وتفنيدات عن حرب القطاع وذلك لجمهورها العربي مع اختلاف مكوناته وتوجهاته. وينتهي التدفق من حيث بدأ، في بلاد العرب.

“هذا الخلل الإعلامي العربي أعمق وأقدم من حرب غزة. ومن يتحكم في محتوى وتوجهات الرسالة الإعلامية في الغرب يتحكم في الرسالة الإعلامية في العالم”، بحسب ما يقول رئيس تحرير صحيفة وموقع “الأهرام ويكلي” وعضو الهيئة الاستشارية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية عزت إبراهيم لـ”اندبندنت عربية”. ويضيف “من يتحكم في الرسالة الإعلامية في الغرب هو اللوبي اليهودي الذي فرض خطاباً وسياقاً محدداً منذ اليوم الأول لاندلاع حرب القطاع. ولولا الدور الضخم الذي تلعبه السوشيال ميديا في كشف ما يجري في داخل غزة للعالم، لما تزحزح قليلاً الخطاب الإعلامي والشارع الغربي لصالح غزة وأهلها”.

لماذا تخلو الساحة؟

غزة وأهلها، والقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي الدائر على مدى 75 عاماً تطرح سؤالاً استفسارياً، ويفضله البعض استنكارياً، حول خلو الساحة من قناة عربية ناطقة بغير العربية. يقول إبراهيم “إن الساحة الإعلامية العامرة بقنوات أجنبية ناطقة بالعربية مثل (الحرة) و(دويتشه فيله) و(فرانس 24) وغيرها، وتخديم كل منها على سياسة الدولة التابعة لها ومصالحها، وتضارب هذه السياسات والمصالح، ومن ثم التغطيات الإعلامية عن الحرب جميعها يعني أن السوق الإعلامية العربية في حاجة ماسة إلى قناة تلفزيونية عربية إخبارية تخاطب غير العرب بلغتهم، لا من حيث الأبجدية والكلمات فقط، بل بالثقافة والطريقة التي يفهمونها ويستوعبونها”.

ويضيف إبراهيم أن ما يسميه بـ”حالة عدم الاتفاق” العربي على رسالة واحدة في شأن القضية وحرب غزة يضعف رسالة الإعلام العربي ويشتت جهوده. وعلى رغم وجود نماذج حاولت كسر هيمنة وسطوة الاحتكار الإعلامي الغربي لسردية القضية الفلسطينية.

ويفسر إبراهيم ذلك في ضوء اعتياد المشاهد في الغرب على نمط معين في تلقي الأخبار يعتمد على توليفة من الأخبار والسياسات الداخلية وما يريد المتحكمون في الإعلام أن يعرفه. يقول “مثلاً، في حرب القطاع يتم تكرار رسائل بعينها بغرض التعاطف مع إسرائيل فقط، وكسر هذا النمط عبر قناة تلفزيونية عربية واحدة فجأة أمر بالغ الصعوبة”.

صعوبة كسر النمط

صعوبة كسر النمط الإخباري المعتاد لدى المتلقي الغربي ليست المعضلة الوحيدة. الكلفة الباهظة لتأسيس قناة مهنية محترفة قادرة على جذب المتلقي الغربي، واستدامتها وتطويرها ومواكبتها لكل جديد في عالم الإعلام والتواصل، ومنافسة القنوات الأخرى جميعها تمثل صعوبة، بحسب مما يؤكد مدير مركز كمال أدهم للصحافة التلفزيونية والرقمية حسين أمين. ويشير إلى خطوات عديدة اتخذها عدد من الدول العربية لتطوير المنصات والمحتوى الإعلامي، ومنها مصر التي أطلقت فضائيات وأقماراً اصطناعية في تسعينيات القرن الماضي، “إلا أننا لم نطور ما بدأناه بقوة الإطلاق نفسها”.

ويشير أمين كذلك إلى تجربة قناة “نايل تي في” بالإنجليزية والفرنسية التي أطلقتها مصر في عام 1994 مستهدفة الجمهور في الخارج، كما أضيفت خدمة باللغة العبرية موجهة إلى إسرائيل، لكنها كانت غير مؤثرة بسبب الرقابة الصارمة التي كانت تفرضها إسرائيل على ما يتم استقباله، وتوقفت عام 2000. ويضيف “كل هذه المشروعات تحتاج إلى دراسة جدوى جيدة وخطة تسويقية مدروسة، لكن إطلاق قناة إخبارية مهنية والإبقاء عليها في دائرة المنافسة مسألة بالغة الكلفة وليست مجرد إطلاق منصة جديدة أو إطلاق مشروعات كثيرة غير ذات جدوى”.

طلقات الإعلام

“كثرة القنوات التلفزيونية ليست المقياس الحقيقي في القدرة على التأثير. وإطلاق قناة مهما كانت قوية من دون دراسة جدوى أمر غير مجد”، بحسب ما تقول المذيعة المصرية في قناة “روسيا اليوم” التي عملت في كل من التلفزيون المصري و”الجزيرة” سنوات طويلة منى سلمان. وتضيف أن تأثير الإعلام يجب ألا يكون منحصراً فقط في قدرته على تصويب طلقات أو فرقعات إعلامية صاخبة، لكن التأثير الهادئ المستمر يؤتي أيضاً ثماره. وتضرب مثلاً على ذلك بأثر عدد من القنوات العربية التي يتابعها المهاجرون العرب وأبناؤهم وأحفادهم في الخارج، والتي أثبتت نجاحها في ربط هؤلاء بأوطانهم الأصلية، لا سيما وقت الحروب والأزمات.

وتتحدث سلمان أيضاً عن معضلة الكلفة الباهظة التي يجب أن تدرس جيداً قبل التسرع بالإطلاق.

لكن سلمان تشير إلى معضلة أخرى تعتري فكرة قناة عربية موجهة لغير العرب، وتتساءل “هل لدى من يطلق القناة الرغبة والقدرة أو كليهما للعمل وفق الآليات الغربية في الإعلام من هوامش حرية ونقد وغيرها، مما قد يتسبب في مشكلات سياسية في الداخل، أو بشكل لا يخلق حالة من الازدواجية في المعايير؟” مضيفة كذلك معضلة الخطاب العربي الموحد، لا سيما في قضايا مصيرية ومحورية مثل فلسطين.

الدول العربية منفصلة

غياب خطاب إعلامي عربي مقنع ومؤثر لغير العرب يفسره أستاذ دراسات السلام في جامعة مصر اليابان سعيد صادق، بقوله إن “الدول العربية منفصلة، وليست لها أجندة جامعة لقضاياها المهمة. في الوقت نفسه نجد قنوات مثل (فرانس 24) الناطقة بالعربية والإنجليزية ولها مشاهدون غير فرنسيين، لا سيما في الدول التي كانت فرنسا تحتلها، وبذلك تواصل عبر هذه القنوات الهيمنة، أو في الأقل التأثير، الثقافي والاقتصادي في تلك الدول.

ويضيف سعيد أن الجانب الأكبر من أنظمة الإعلام العربي يفتقد استراتيجية وخططاً واضحة ومدروسة لمخاطبة الغرب. ويشير أيضاً إلى عدم وجود قناة تلفزيونية تتحدث باسم العرب وتروج للثقافة العربية عبر جامعة الدول العربية مثلاً.

ويظل المحتوى أكبر التحديات التي تواجه قناة عربية إخبارية. يقول سعيد إن قناة عربية إخبارية قوية تتحدث باسم العرب لغير العرب تتطلب محتوى ينأى بنفسه عن الدعاية السياسية المباشرة والإشادة المباشرة بالمسؤولين وغيرها من أنواع المحتوى الإعلامي غير المرغوب أو الجذاب في الغرب. ويضيف “نعم، الآخرون يقدمون دعاية مبطنة أيضاً، لكن غير مباشرة ومعها كم هائل من المحتوى الخبري والعلمي”.

البروباغندا الإسرائيلية

غياب المحتوى الخبري العربي الموجه لغير العرب في حرب القطاع عالجه الوجود المذهل لمحتوى الـ”سوشيال ميديا” العربي الذي ينسب له جانب كبير من الفضل في توضيح حقيقة ما يجري في حرب القطاع بعيداً من البروباغندا الإسرائيلية، وباللغة التي يفهمها غير العرب من صور وفيديوهات وحقائق ويوميات أهل غزة.

يرى حسين أمين أن الاعتماد على رؤية إعلامية شبابية ذات مرجعية تقنية حديثة في المنصات الرقمية، إضافة إلى الصحافي المواطن الذي أثبت قدرة فائقة في الصراعات الأخيرة على نقل حقيقة ما يجري، وإن كانت مسائل مثل الثقافة الرقمية والتزام قواعد إعلامية وأخلاقية بعينها لضبط المحتوى تحتاج إلى وقت وجه.

من المظلومية إلى العقلانية

وعن المحتوى العربي المطلوب للوصول إلى غير العرب، الذي لا ينبغي أن ينتظر حلقة جديدة من حلقات الحروب والصراعات. يقول عزت إبراهيم إنه ينبغي التحول من خطاب المظلومية الدائم إلى خطاب عقلاني وإنساني تفهمه الثقافات الأخرى، سواء عبر المنصات الرقمية أو على شاشات التلفزيون التقليدية، لا سيما أن العلاقة بينهما صارت تبادلية ومشتركة، ولا تستوي أو تكتمل واحدة دون الأخرى.

المستقبل القريب قد يشهد إطلاق عدد من القنوات العربية باللغة الإنجليزية من مصر والسعودية، هذا الإطلاق معقود عليه آمال كثيرة من قبل العرب حتى تصل رؤاهم وحكاياتهم وحقائقهم وسردياتهم إلى غير العرب ليس فقط بلغاتهم، لكن بوجبات إعلامية يقبلون عليها ويقدرون قيمتها المعلوماتية.