التلفزة تعرض فيلماً عنها لتيرينس دايفيز يسير على خطى سينما الشعراء الحقيقيين
أن يحب كثر من الناس الشعر شيء، ولكن أن يدفع بعضهم أكثر من 250 دولاراً لاقتناء نسخة من طبعة جديدة صدرت في العاصمة الفرنسية لمجموعة شعرية مترجمة من الإنجليزية إلى الفرنسية، شيء آخر تماماً. ويقيناً أن صاحبة المجموعة نفسها، اميلي ديكسنون (1830 – 1886) كان من شأنها أن تكون أول المستغربين وأشد المستنكرين لو كانت حية بيننا واطلعت على هذا الخبر هي التي بالكاد كان شعرها يربحها حفنة من الدولارات خلال سنوات حياتها القصيرة نسبياً. هذا إذا كان لديها خلال تلك الحياة ما يكفي من الوقت للاهتمام بأي شيء آخر سوى كتابة أشعارها التي لم تتمكن من نشر سوى جزء ضئيل منها خلال حياتها – عشرات القصائد لا أكثر نشرت خلال تلك الحياة من بين مئات راحت تُكتشف لاحقاً وتنتشر وتَجمع من حولها عشرات ألوف المعجبين، وبخاصة المعجبات-؛ والتمرد على مجتمعها الذي كان “يفضل المظاهر على الجوهر” بحسب ما كانت تقول دائماً؛ والصراع ضد الكنيسة التي كانت تحاول لجمها منذ سنوات مراهقتها ضد كل ما كان يبدو لديها من خرق للمحظورات. غير أن هذا التمرد لم يكن مطلقاً على أية حال فهي لم تكن من القوة بحيث كانت تتمكن من أن تقود ثورة لا في السياسة ولا في المجتمع ولا في الشعر نفسه حتى. كل ما كانت تريده لم يكن ليتجاوز أن تقبل الكنيسة بها وترضى عنها تاركة إياها تعيش بسلام للحب والكتابة والتمشي في المساحات الخضراء الشاسعة التي كانت تعتبرها قمة التمدن. ولعل المشهد الذي من شأنه أن يوضح هذه الفكرة الأخيرة هو واحد من أجمل مشاهد فيلم حققه عن إميل ديكنسون السينمائي الراحل منذ حين تيرينس دايفيز بعنوان “إميلي ديكنسون: مجرد شغف” (2016) أعادت التلفزة الفرنسية عرضه قبل أسابيع لمناسبة صدور الكتاب الذي افتتحنا هذا الكلام بالحديث عنه.
وجه ينتظر حكماً مبرماً
ففي الفيلم يبدو ذلك المشهد أروع مشاهده: الكاميرا تقترب ببطء من وجه إميلي (تقوم بالدور سينيثيا نيكسون) فيما هذه وعلى وجهها كل آيات الترقب والقلق والأمل والخوف بينما كاهن الكنيسة يقرأ قصائد لها توسلت إليه أن يقرأها. إنها تنتظر حكمه على شعرها وكأن حياتها كلها باتت متوقفة على هذا الحكم. بل تنتظر تشجيعاً من الكاهن وربما مجرد إيماءة منه تساعدها على أن تعيش بقية حياتها بأكملها بسعادة وهناء… والحقيقة أن شخصاً عاش خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحمل في بريق عينيه كل ذلك الشغف وفي ملامح وجهه كل ذينك الخوف والانتظار، ما كان من شأنه أبداً أن ينظر بغير ذهول إلى أشعاره وهي تباع عند نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في كتاب ضخم بالغ الأناقة. صحيح أنه يضم إلى تلك الأشعار عدداً كبيراً من لوحات تكاد تمثل قسطاً كبيراً من تاريخ الفن التشكيلي الأميركي خلال تلك الحقبة نفسها وبعدها (من غرانت وود إلى جورجيا أوكيفي، ومن هيلين تور إلى إدوارد هوبر…)، ولكن ليس بشكل يجعل من النصوص الشعرية لديكنسون مجرد زينة للوحات ذلك التاريخ، بل كل تلك اللوحات مجرد زينة لأشعار السيدة التي باتت تعتبر منذ زمن طويل واحدة من أعظم الشاعرات اللواتي كتبن بلغة شكسبير.
اهتمام متجدد
مهما يكن من أمر، نعود هنا إلى تضافر عرض فيلم تيرينس دايفيز مع صدور ترجمة فرنسية على مثل تلك الأناقة والثراء لأشعار إميلي ديكنسون للتأكيد على أنهما معاً إنما ينضويان في إطار تجدد الاهتمام، من ناحية بديكنسون نفسها بعد أن غابت طويلاً عن واجهات الحياة الأدبية، ومن ناحية ثانية بأفلمة حياة شعراء كبار بعدما كان يبدو لزمن طويل وكأن تلك الحياة عسيرة على الأفلمة بالنظر إلى أنها غالباً ما تكون حياة “جوانية” مصنوعة من كلام ومشاعر وخفقات قلوب وهفيف أرواح وسوى ذلك من التعابير التي يصعب أن تكون بصرية. غير أن حراكاً ما راح يظهر في الأزمنة الأخيرة بسّط الأمور بشكل مدهش. ولعل ذلك ينتمي إلى نوع من سينما شاعرية ما، تنبثق حقاً من إطلالة جديدة على حياة شعراء معينين وبخاصة بلغة سينمائيين هم أنفسهم شعراء بشكل يمكنهم من إيجاد نوع من التماهي بينهم وبين موضوعاتهم.
شعراء مبدعون في سينما كبيرة
وإذ نقول هذا، قد نفكر أول الأمر بنيرودا الذي فجر “سينما الشعراء” قبل عقود في فيلم “ساعي البريد”، ولكن كذلك بالشاعر الإنجليزي جون كيتس الذي تمكنت السينمائية النيوزيلاندية جين كامبيون من أفلمته في فيلمها “نجم ساطع” قبل نحو دزينتين من السنين، عندما ماهت بين ذاتها كمبدعة وذات الشاعر، ثم بين ذاتها من ناحية ثانية كامرأة وذات حبيبة الشاعر هذه المرة. فكانت النتيجة لعبة سينمائية لغوية لم يتوقف كثر طويلاً عندها لكنها عرفت كيف تصمد في وجه السنين جاعلة من “نجم ساطع” فيلماً بحاجة، كما الشعر الحقيقي، لأن يكتشف من جديد في كل مرة يعرض أو يعاد عرضه فيها. ومع ذلك يبقى النموذج الأكثر جمالاً عن فيلم عن حياة شاعر نجحت السينما نجاحاً باهراً في تحقيقه، فيلم “ليوباردي” الذي حققه الإيطالي ماريو مارتوني في عام 2015 عن حياة ذلك الشاعر الذي يعتبر في إيطاليا ثاني كبار الشعراء في تاريخها تالياً لصاحب “الكوميديا الإلهية” النهضوي دانتي ومع ذلك بالكاد سمع العالم الخارجي به. والحقيقة أن هذه الأفلام التي نذكرها ليست سوى نزر يسير من أفلام تضع الشعر السينمائي في مكانه الصحيح في وقت يمكن أن نقول فيه أن جزءاً كبيراً من سينما العالم التي تستحق هذا التوصيف إنما يضم أفلاماً تغرق في الشاعرية طالما أننا نعرف أن الشعر عرف في نهاية الأمر كيف يتغلغل في الصورة واللغة السينمائيتين، وبشكل لا يمكنه إلا أن يثير رضى ما لا يقل عن فنانين – شاعرين كبيرين عرفا دائماً كيف يدافعان عن السينما وعن الشعر معاً: الفرنسي جان كوكتو والإيطالي بيار باولو بازوليني.
الشعر حياة مشتركة
ويقيناً أن تيرينس دايفيز في تصديه في “إميلي ديكنسون: مجرد شغف” لحياة هذه الشاعرة الأميركية الخارجة عن السياق، إنما استجاب ومن دون أن يدري لرغبات خفية ومشتركة دائماً ما اعتملت لدى كوكتو وبازوليني، استجابة يمكن القول إنها عفوية. وذلك لأن دايفيز تمكن هنا في هذا الفيلم “عن حياة آخرين” من أن يحقق فيلماً عن حياته الخاصة خالقاً نوعاً من التماهي الذي لا بد منه بين شخصية فيلمه المحورية وبين شخصيته هو نفسه. ومن هنا، لم يكن غريباً أن يشير النقاد، الفرنسيون بخاصة، لدى عرض هذا الفيلم للمرة الأولى قبل نصف دزينة من السنين، إلى أن هذا الفنان الذي كتب سيناريو فيلمه بنفسه “وما كان في مقدوره أن يفعل غير ذلك”، إنما سار هنا على نفس الدرب التي كانت قد وجهته في أفلام سابقة له ومنها طبعاً “أصوات بعيدة” وحتى “شعب النيون” – على رغم اقتباسه هذا الفيلم الأخير عن رواية معروفة لجون كنيدي تول -، أي أنه في تناوله لعزلة إميلي ديكنسون، لم يتحدث في نهاية الأمر إلا عن ذاته: عن المراهق الذي كانه هو في تمرده الدائم ضد السلطات الكنسية بخاصة وضد مجتمع كان لا يتطلع إلى قمعه. ومن هنا ذلك الشعور شديد الخصوصية الذي يخامر المرء وهو يتتبع ثورة إميلي وقد عزلت نفسها في محارتها الجوانية، مفضلة رفقتها على رفقة عالم شديد الأناقة والغرور وربما الجمال أيضاً. أي بالتأكيد عالم ينتمي إليه لا إلى عالمها الخاص ذلك الكتاب الفخم الأنيق الذي من المؤكد أن شخصاً من طينة إميلي ديكنسون ما كان من شأنه أن يجد في جيبه 250 دولاراً تفيض عن حاجته لشراء نسخة منه وبالفرنسية تحديداً… ولو تكريماً لصاحبة أشعاره وتكريماً لشعرها البديع…