لا يوجد في سوريا عرفٌ بأن يقوم رئيس البلاد، بغض النظر عن الطريقة التي تولى بها الرئاسة، بزيارة المحافظات ولقاء فعالياتها، غير أن بعض الرؤساء الذين جاؤوا إثر انقلاب عسكري فعلوا ذلك، وهو ما رسّخه الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي زار كل المحافظات السورية قبل توليه الرئاسة دستورياً، في أعقاب الانقلاب الأبيض الذي قام به على رفاق الأمس وأطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية” عام1970.
وعلى الأرجح تنطلق الحاجة إلى مثل هذه الجولات المكوكية بين المحافظات من ضرورة تعزيز شرعية شخص الرئيس شعبياً بعدما تبوأ منصبه بقوة السلاح أو عبر انقلاب، لذلك ربما لم يشعر الرئيس السابق الفارّ بشار الأسد، بضرورة تنظيم مثل هذه الجولة بشكل عاجل في أعقاب توليه الرئاسة خلفاً لوالده، لأنه استمد شرعيته من تاريخ والده أولاً ومن الاحتضان الإقليمي والدولي لتنصيبه من دون أي تحفظات حينها، ثانياً.
وتصحّ هذه القاعدة على أحمد الشرع الذي اعتمد داخلياً مبدأ “الشرعية الثورية” لتكريس دعائم حكمه، وأيّاً تكن نسبة النجاح في ذلك تبقى الحقيقة لدى الخارج هي أنه لم يصل إلى كرسيه عبر صناديق الاقتراع وإنما عبر قوة السلاح وبعد 14عاماً من الحرب الأهلية –كما أطلق عليها الغرب ورفضها النظام السابق- التي مزقت البلاد وتركت ندوباً عميقة في المجتمع.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن يقرر الشرع القيام بجولة على المحافظات الواقعة تحت سلطته، إذ هناك محافظات لا تزال خارج هذه السلطة، بالتزامن مع انطلاق أعمال اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار السوري، في إشارة قد تكون الأوضح إلى هدف الجولة المركزي وهو تدعيم الشرعية الداخلية في ظل الإحساس بعدم اكتمال ظل الشرعية الخارجية أو بقائه مقيداً بشروط ومطالب عدة.
علاوة على ذلك، حملت جولة الشرع التي انطلقت الجمعة لتكون محافظة إدلب، حاضنة الشرع السابقة، أولى محطاتها، وشملت بعدها كلاً من حلب واللاذقية وطرطوس، دلالة رمزية على انتهاء عهد الأسدين ودخول سوريا في حقبة تاريخية جديدة.
ولا شك في أن الشرع أراد تحقيق أكثر من هدف من وراء هذه الجولة قد يكون من بينها الاطلاع على واقع المحافظات، والتعرف إلى ناسها ومطالبهم، وكذلك تقديم نفسه بصورة جديدة مغايرة للصورة التي عرفه من خلالها السوريون كقائد لتنظيم سلفي جهادي اختلفت الآراء حوله وتعددت المواقف منه، متراوحة بين القبول الضمني نكاية بالنظام السابق وبين العداء بدرجات متفاوتة، سواء من النظام أو من طيف واسع من معارضة الأمس.
واحتشدت في هذه الجولة لحظات وتفاصيل غنية بالإشارات والدلالات، لا سيما مع الاستقبال الذي حظي به الشرع في ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية التي كانت تعتبر معقل النظام السابق والحاضنة الشعبية الأقوى له.
وقد اعتبر مراقبون هذا الاستقبال بمثابة إعلان وفاة رسمي للنظام السابق، وانتقال شعبيته لمصلحة النظام الجديد، غير أن البعض الآخر يجادل في أنه ما زال من المبكر استخلاص أي نتيجة من جولة الشرع، خصوصاً أن الفضول وليس التأييد قد يكون وراء نزول الناس إلى الشارع لاستقباله.
والمفارقة أنه بعكس الاستقبال الذي حظي به الشرع في اللاذقية، كان استقباله في إدلب التي منها انطلق ليصل إلى القصر الجمهوري في 8 كانون الأول/ ديسمبر، متواضعاً وشبه خالٍ من أي تجمعات حاشدة. وحتى زيارته مخيم النازحين والوعود التي أطلقها بهدم المخيمات قريباً لم تحظ بتفاعل شعبي كبير.
ويمكن فهم موقف إدلب في ضوء تفسيرات عدة، أبرزها أن الأهالي اعتادوا رؤية الشرع، وعرفوه على مدار سنوات بأحوال متباينة من القوة والضعف، كما أنهم اختبروه كحاكم منذ 2017 وكانت علاقتهم به تتراوح بين التأييد والمعارضة، بل قبل معركة “ردع العدوان” لم يكن قد خبا بعد “الحراك الثوري” الذي كان يطالب بإسقاطه على خلفية افتضاح ملف العملاء.
وكانت لزيارة طرطوس خصوصية كبيرة كونها تعتبر معقل الطائفة العلوية. ولدى وصول موكب الشرع إلى مبنى المحافظة كان الاستقبال متواضعاً، وهو ما عزاه بعض المسؤولين إلى عنصر المفاجأة، بحسب قولهم، مضيفين أنهم لم يعلموا بالزيارة إلا قبل وقت قصير جداً. ولكن احتشد مئات المواطنين مساءً للتعبير عن فرحهم بزيارة الشرع الذي خرج على شرفة في الطبقة الأولى من المبنى ولوّح لهم بيديه، لكنه لم ينزل بينهم كما فعل في اللاذقية.
وبالنسبة إلى وجهة النظر الرسمية، فإن مجرد القيام بالجولة، يعتبر بحد ذاته إنجازاً يُسجّل للشرع، ويصب في مصلحة اكتسابه مزيداً من الشرعية والقبول الشعبي.
لكن السمة العامة التي طغت على الاجتماعات التي عقدها الشرع في اللاذقية وحلب وطرطوس، هي غياب معايير واضحة لدعوة الشخصيات والوجهاء إلى هذه الاجتماعات، وسط ملاحظة تكررت في هذه المحافظات الثلاث أن طبقة الوجهاء لم تتغير بين الأمس واليوم، فمن كانوا يجتمعون مع بشار الأسد هم أنفسهم من كانوا مدعوين إلى الاجتماع مع الشرع، وهو ما انعكس سلباً على انطباع الارتياح الذي خلفته الجولة.
ففي حلب كان واضحاً غياب تمثيل العائلات الحلبية العريقة، إذ كان التمثيل في معظمه محصوراً في أشخاص يتشابهون في الرؤى والوجوه. كما أن الحضور افتقر إلى التنوع المدني ما يقلل من تمثيل المجتمع السوري بكل أطيافه، وفق ما كتب الدكتور كوران أحمد على صفحته في فايسبوك، وهو أحد المدعوين الذين حضروا الاجتماع مع الشرع.
وفي اللاذقية، لوحظ وجود أشخاص كانوا محسوبين على النظام السابق، وسط غياب شخصيات كان لها دورها في “الثورة السورية”، وهو ما رسم علامات تعجب من هذا السلوك في ظل تحفظ عن التمادي بانتقاد الشرع نفسه معتبرين ذلك خطأ من مسؤولي المحافظة.
وكذلك في طرطوس، كان الحضور الطاغي في الاجتماع لرجال الدين ومديرين وعاملين في مؤسسات الدولة، مع حضور بعض المدنيين العاديين. وكان لافتاً أن يُدعى بعض رجال الدين العلويين من طرطوس إلى حضور اجتماع اللاذقية، فيما خلا اجتماع الأخيرة منهم، وهو ما يعزز فرضية ألا تكون طرطوس موجودة على جدول الأعمال كما تذرع مسؤولو المحافظة لتبرير الاستقبال المتواضع.
وفيما اختلفت الآراء والانطباعات عن الجولة، اعتبر زياد حيدر، وهو صحافي وكاتب روائي أنه فيما يستكمل الشرع جولته سيرى سوريا وتنوعها أكثر من السابق ، وسيعرف أن تشكيل وجهها الجديد يحتاج مشاركة كل السحنات وكل الفئات. وأضاف أن انعدام ثقة السلطة الجديدة بكل من بقي في مناطق النظام السابق أو عمل معه ليست صائبة وتنبع من خلفية قاصرة وأن تجاوزها والتقدم نحو الأمام وليس المراوحة في المكان هو الخطوة التالية .