ملخص
يقيم مركز “مرايا للفنون” في الشارقة معرضاً تكريمياً تحت عنوان “ناديا صيقلي ومعاصروها” ويضم مجموعة من مراحل الرسامة الكبيرة الفنية التي تمتد من السبعينيات إلى التسعينيات من القرن الـ20.
بعد غياب قسري طوال عقد من الزمن عن المعارض والأنشطة الثقافية، تعيش الفنانة اللبنانية ناديا صيقلي (مواليد بيروت 1936) عزلتها الآمنة التي وطدتها في بيتها ومحترفها الباريسي، في الباتو لافوار (مونمارتر)، في روتين يومي تحافظ فيه على الدروب نفسها التي تسلكها كل يوم، في التعاطي بعناية مع صحتها بعد تماثلها للشفاء إثر جراحة خضعت لها منذ بضعة أعوام. تعيش بين أشيائها وأدواتها الفنية ولوازمها وكتبها، كي تحافظ على ماضيها بل تراثها الفني الفسيح، وهي تغالب النسيان الذي بدأ ينهش ذاكرتها لتستفيق بين الحين والآخر على أسماء اصدقائها القدامى (وأنا من بينهم) وتسترجع بعض الوجوه والأحداث والمناسبات التي مرّت بها وكأنها تستحضرها من خلف الضباب. بين ذاكرتها الحاضرة والغائبة، أمواج بل بحور وآفاق وغيوم وجزر نائية وشواطئ وبصمات أيدٍ وأركيولوجيا آثار وألوان مشعة بالذهب مدفونة في المشاعر، غاصت فيها ورسمتها في عمرها المديد الذي شغلته بالفن دون الحياة لأن حياتها كانت فضاء كبيراً للعمل والإنتاج الفني، بل كانت متنفساً حراً للّعب والتجريب والانغماس والدخول في مشهدية العصر وثقافة المحاور واقتحام الفضاء وقرع أبواب الزمن.
thumbnail_ناديا صيقلي، عمل تركيبي من مرحلة الحركية- الضوئية- بلكسي غلاس وكولاج- العام 1973- من كتاب الفنانة هلن الخال نظرة على فن النساء.jpg
عمل تركيبي – بلكسي غلاس وكولاج العام 1973 (أرشيف الرسامة)
“تحسبها متعافية لفرط ما هي قوية ومتماسكة في إدارة شؤونها بنفسها”، هذا الانطباع الذي نقلته لي الفنانة التشكيلية ندى عقل المقيمة أيضاً في باريس (منذ أواخر السبعينيات) خلال زياراتها لها في الأسابيع الماضية، ولكنها لم تعُد ترسم شيئاً جديداً، بل ثمة لوحة على الحامل لديها تقول إنها تقوم بترميمها، غير أنها في واقع الحال، تظل كما هي على نقصانها… لكن ميزة ناديا صيقلي أنها أنجزت كل ما تريد إنجازه من معارض وكتب وإصدارات فنية، قبل أن يرحل عنها زوجها ودعامتها في الحياة المهندس الفرنسي هنري كابوريو وقبل أن يداهمها المرض.
آخر حبة من عنقود الحداثة
لبنان لم يكرم الفنانة ناديا صيقلي ولا جيلها ولا أي أحد على المستوى الرسمي، لكأن هذا البلد منشغل بنفسه ومكاسبه الصغيرة عن كنوزه وأغلى ما لديه. ولكن الغرب كرمها بجوائز كثيرة، وقدّر فنها في اقتناء متاحف عدة لأعمالها، لا سيما في أوروبا وفرنسا خصوصاً، حيث دخلت لوحاتها في مقتنيات عدد من المتاحف، من بينها متحف الفن الحديث- مدينة باريس ومتحف الفن المعاصر ومركز جورج بومبيدو والمتحف الوطني للفن المعاصر Cagnes sur mer، فضلاً عن بعض المتاحف العربية. من جهة أخرى شهدت الأعوام الأخيرة تهافتاً على تداول أعمالها في أسواق الفن والمزادات العربية وجامعي الفن، بحثاً عن آخر حبة من عنقود الحداثة. فقد كثرت المعارض التي أقيمت عربياً ودولياً خلال السنوات الأخيرة تحت شعار “الفن النسوي العربي” كنوع من إعادة الاعتبار لقدرات الفنانات العربيات في إثراء المشهدية الفنية الحداثية في العالم العربي طوال القرن الـ20.
في هذا السياق يأتي المعرض التكريمي الذي يقام حالياً في مركز مرايا للفنون في الشارقة تحت عنوان “ناديا صيقلي ومعاصروها” ويضم مجموعة من مراحلها الفنية اختيرت من مجموعة متحف “بارجيل للفنون”.
وتبدو مراحلها محورية مثل حياتها ومثل تقلبات اهتماماتها واختباراتها. ومواضيعها تشبه أفكارها ووجهة نظرها المتعلقة بمجريات الأزمنة الفنية التي عايشتها ما بين حداثة مدرسة باريس الجديدة في النصف الثاني من القرن الـ20، بتعدد مدارسها واتجاهاتها في التجريد (ما بين الغنائي والبقعية والحركية)، وما تلاها في تجارب كبار التجريديين في مدرسة نيويورك. وعلى رغم التنوع الكبير لديها في الخامات والتقنيات والتعارض ربما في سياق تجاربها، فإن ثمة رابطاً حقيقياً وخفيّاً يجمع مراحلها كلها بعضها بعضاً، شبيهاً بطبقات الذاكرة، أو طبقات الأرض المتراكمة، حيث التنقيب فيها يحتاج إلى عملية خدش وقحط القشرة الخارجية لسطح العمل الفني لاستنباط تداعيات المراحل التي سبقت تلك السطوح اللونية الظاهرة للعيان. يكفي أن ننظر إلى الإمضاء الخاص الذي تمهر به الفنانة لوحتها لنكتشف أنه ليس فوق اللون، بل تحت اللون في العمق على جلد القماش.
إنها نقش عميق في النفس، لوحة ناديا صيقلي التي بدأت ببساطة في بيروت المدينة المتوسطية الكوزموبوليتية الجميلة والرحبة التي ظلت كذلك في عينيّ الفنانة طوال الوقت على رغم أهوال الحروب، وهي تحنّ إليها وتتمنى أن تعود كما كانت في الزمن الماضي على رغم الاستحالة. ولم يبقَ سوى الفن للتعويض عما هو ضائع، عملاً بقول الفيلسوف نيتشيه “لدينا الفن كي لا نموت من الحقيقة”.
نشأت صيقلي في بيئة فنية محاطة برعاية والدها طبيب الأسنان سامي صيقلي الذي شجعها على الفن، فكان يصطحبها إلى مختبره لطب الأسنان حيث كان يعمل، ويضع بين يديها الطين والجص والشمع، لكي تصنع منها أشكالاً طفولية متخيلة. وتطورت مهارة يديها لتعمل بمادة السيراميك ثم درست الموسيقى وتدربت لتكون راقصة باليه، ولكن أمنيتها لم تتحقق في احتراف الرقص، لذا دخلت أكاديمية الفنون الجميلة (ألبا) وكان من بين فناني جيلها أمين الباشا ومنير نجم ورفيق شرف… بعدها تابعت تحصيلها العالي في أكاديمية “غراند شوميير” في باريس، وتتلمذت في محترف هنري غوتز، الفنان التجريدي الذي طبع ذاكرتها بنصائح متصلة بالعودة للتعلم من مفردات الطبيعة وطريقة الرجوع إلى الذات لإيجاد النفس، وكيفية بناء اللوحة بعناصر من خطوط غرافيكية وضربات لونية وبقع، وكيفية التحرك في فراغ اللوحة. وتعلمت صيقلي أن ترسم بالسكين وأن تبني الشكل ببضعة ضربات سميكة بمهارة وبأسلوب تبسيطي أقرب إلى التجريد اللاشكلي وهذا كان إحدى ميزاتها التي جعلتها تدخل بسرعة في تجريد “مدرسة باريس الجديدة” قبل أن تعود لبيروت وتعمل كأستاذة في أكاديمية (ألبا) ومعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية (1965- 1974). تزوجت في صيف عام 1957 مهندساً إنجليزياً أنجبت منه صبيين، وبعد هَجر حصلت على الطلاق عام 1970 (مع حق الأمومة).
الحركة والضوء
عام 1962، أحدث اكتشاف فلسفة الزان البوذية صدمة عميقة لدى نادية صيقلي، دفعتها إلى التأمل والبحث عن ذاتها وتجاوز نكستها العاطفية. انطلقت نحو الفن الحركي في لوحاتها باستخدام الألوان الزيتية بطريقة مخففة وشفافة لتبدو قريبة من إحساس المائيات ، لكنها مليئة بالاندفاعات البقعية والخطوطية، أقلام وقضبان ولطخات وكتابة غرافيكية متموجة بالانفعال الحركي ودوائر مثل أقمار في سماء غائمة. وكانت تلك المرحلة نابعة من الحاجة لكسر الصمت وشهوة الحياة. وحصدت معارضها الأولى في بيروت نجاحاً واهتماماً من قبل النقاد، لا سيما بعدما حازت الجائزة الأولى للرسم من متحف نقولا ابراهيم سرسق عام 1969. فكانت جزءاً من مشهدية الثقافة في بيروت خلال عصرها الذهبي منذ أواخر الخمسينيات حتى أواخر الستينيات.
راقصة الباليه وفراشة الضوء ربطت طويلاً بين الحركة والضوء واللون والإيقاع. وهي من أوائل التجريديين الذين تعاطوا بعمق منذ أواخر الستينيات مع موسيقى الألوان وإيقاعاتها وتموجاتها، فدرست تأثيراتها البصرية في مراحل آفاق اللون الواحد Monochromie قبل الألوان المتعددة Polychromie ، فوجدت الشعر الحقيقي كامناً في التجريد الصافي، أي في السلم الموسيقي للألوان.
انتقلت بعدها منذ عام 1974 إلى العيش والعمل في باريس، واستقرت منذ عام 1979 في المحترف نفسه الذي كان يشغله بيكاسو في مرحلة البؤس ومنه خرجت تحفته الشهيرة “آنسات أفينيون”. وتمكنت صيقلي من إيجاد أسلوبها الخاص، فاحتلت مكانتها في مشهدية الفن الحداثي هناك. جذبت أعمالها أقلام كبار النقاد ومؤرخي الفن، لا سيما بعدما عرضت أعمالها في صالونات باريس، لا سيما صالون “الحقائق الجديدة” (منذ عام 1972 حتى عام 1976) وصالون الفنون المقارنة، وشاركت في بينالات عالمية من بينها بينالي البندقية وساو باولو وبينالي الإسكندرية، فضلاً عن معارضها التي جالت في ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وكندا ولندن وبروكسل.
فنانة سبقت عصرها في الخروج من لوحة الحامل إلى “الفن البصري المتحرك” حين بدأت منذ عام 1970 بإنشاء منحوتات ضوئية- متحركة نفذتها بمادة البلكسي- غلاس الشفافة المثبتة بالكروم، مع مرايا عاكسة للضوء تعمل وتتحرك بواسطة محركات كهربائية. وجاءت هذه الأعمال من وحي قصائد الهايكو اليابانية، وكان ذلك حدثاً ثورياً في أوائل السبعينيات. وقد عرضت هذه الأعمال في باريس في غاليري “كلود لا كلوش” عام 1973. وتحدثت الفنانة والناقدة هلن الخال (في كتابها بالإنجليزية “نظرة على فن النساء”)، عن تلك المرحلة بالقول “كان تطور عمل نادية عملية تدريجية لاتباع الجمالية التي لم تكُن شائعة في تطور معظم الفنانين المعاصرين لها، بل كان منتشراً في الغرب. ومع ذلك، كان دخولها إلى الفن البصري المتحرك kinetic كحركة عالمية، بمثابة انطلاقة مهمة في حياتها المهنية، فقد منحها التميّز بأنها أول فنان (ذكر أو أنثى) في لبنان (وربما في العالم العربي) يعمل بصورة كمّية وناجحة في تلك الوسيلة التكنولوجية”.
الرسامة تغريد درغوث تطرح أسئلة الانتماء والاغتراب
الرسامة منى نحلة تستلهم أحوال الاغتراب الإنساني
في محترفها الباريسي، قطعت صيقلي بحثها الحركي وعادت للرسم، إذ أن مرحلة الحرب اللبنانية أعادت إلى الفنانة السؤال الكبير ما هو الإنسان؟، وما يمكن لعطاء يديه أن يترك أثراً؟. هكذا ظهرت بصمة اليدين في سلسلة كبيرة من التجارب بدأت برسوم “جيولوجيا الجلد” كموضوع فلسفي وإنساني ينطلق من خصوصية بصمة اليد الأولى للإنسان على جدران الكهوف، كأقدم أثر بشري (المرحلة استمرت طوال الثمانينيات). ثم تطورت هذه البصمة نحو بصمة الجسد والمكان وأركيولوجيا الأثر والبصمة الصورة الذاتية والهوية. واستمرت هذه التجارب بمختلف الخامات والتقنيات، فكان أكثرها جمالاً تلك التي نفذتها على الأوراق اليابانية بكل ما تحفل به خصائص هذا الورق بتعرجاته وأليافه وشبكة خيوطه ونسيجه الطبيعي النباتي المصدر، مما يجعله سريع الامتصاص للون.
في أوائل التسعينيات، انفجرت البصمة ألواناً في فضاء تجريدي مستوحى من الطبيعة، خصوصاً بعد تنقلاتها في الريف الفرنسي، فرافقتها هذه المناظر حتى مرحلتها الأخيرة الموقعة عام 2005، وكأنها عادت لأسلوبها في الستينيات بجرأة في التلوين وفق طبقات متتالية بين قشط وقحط وحيوية في إشعال نار الألوان التي تتخطى المألوف في تضادها، من دون اللجوء إلى قاموس الطبيعة التي أضحت جزءاً من ذاكرتها وأحلامها التي لم تجد مكانها الحقيقي سوى في عالم اللون الذي يحتل فضاء اللوحة. أليس ذلك مهنة الفنان؟.