رغم غياب الرقم الدقيق لعدد المنظمات الإنسانية الدولية، ولعدد شركائها المحليين المعتمدين على التمويل الأميركي في تنفيذ أنشطتهم ومشاريعهم، فإن العدد يُقدر بالمئات، ممن كانوا يتلقّون دعماً مباشراً في قطاعات الحماية والتعليم والصحة والبنية التحتية وسبل العيش والتماسك المجتمعي.
قالت “هيومن رايتس ووتش” إن هناك عشرات الآلاف من الأشخاص، ما يزالون عالقين في مخيمي الهول وروج في شمال شرق سوريا، في ظروف تهدد حياتهم، وسط تجدد الاشتباكات في المنطقة، إضافة إلى أن تعليق الحكومة الأميركية المساعدات للمنظمات غير الحكومية العاملة في هذه المخيمات، تسبب في تفاقم الظروف المهددة للحياة، وفي زعزعة الحالة الأمنية الهشة.
ووقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر الفائت، أمراً تنفيذياً، يقضي بتعليق جميع برامج المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتاً ولمدة 90 يوماً، لحين إجراء مراجعات لتحديد مدى توافقها مع أهداف سياساته، ويستثني من ذلك المساعدات الغذائية الطارئة والتمويل العسكري لإسرائيل ومصر.
وقالت منظمة “BHA” في رسالة موجهة إلى كبار مسؤوليها إن “مكتب المساعدات الإنسانية الأميركية للتنمية، لم يقدّم تأكيداً بشأن استمرار دعم مشاريع المنظمة أو تعليقها، في حين لم تتلقَ المنظمة مبالغ كبيرة مستحقة الدفع”.
ويُقيم في مخيمي روج والهول الواقعين في محافظة الحسكة، عائلات مقاتلي “داعش”، إضافة إلى الهاربين من الحرب من دير الزور والرقة خاصة، والعراق أيضاً، حيث المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم قبل الإطاحة به.
تهديد للخدمات الأساسيّة
وقال مروان خليفة أحد العاملين في مخيم الهول لــ”درج” إن “نتائج تأثير تجميد المساعدات الأميركية، انعكست بشكل مباشر على الخدمات الأساسية لسكان المخيم، وكل ما يتعلق بجوانب الاستجابة، سيكون تحت تأثير القرار، خاصة السلع الأساسية مثل المياه، والخبز، والكاز”، وأضاف خليفة أن منظمة “بلومونت” على سبيل المثال، كونها المسؤولة عن إدارة مخيمي روج والهول “تلقّت أوامر من مكتب السكان واللاجئين والهجرة التابع لوزارة الخارجية الأميركية، بوقف العمل منذ مساء 24 كانون الثاني/ يناير الماضي، ما دفع بالمنظمة إلى تعليق العمل وسحب موظفيها من إدارة المخيم”.
ووفقاً لخليفة فإن تداعيات الانسحاب وتوقّف التمويل “يؤثران على الحراس والمسؤولين عن مخازن ومستودعات المنظمات غير الحكومية، وعن حماية المخيم وتأمين الخبز ومياه الشرب لسكانه”، خاتماً حديثه أن “المنظمة عادت للعمل بشكل مؤقت لإنجاز بعض المشاريع ولإجراء بعض الترتيبات العالقة، ثم ستعود وتلتزم بقرار التوقّف”.
في حين قال أحد المدراء في منظمة “بلومونت” إن أنشطتهم الحالية “مستثناة من قرار وقف التمويل الأميركي”، وكانت المنظمة تعمل على تأمين “مازوت التدفئة، ووقود الغاز للطهي، وتوزيع الخبز والماء يومياً، ونظافة المخيمات”، وتعتبر أكثر المنظمات تأثراً وتأثيراً بالقرار، كونها تقدّم أغلب الخدمات في مخيمات العريشة، وروج، وتوينه، وسري كانيه، وتل السمن، والمحمودلي، والهول، وأبو خشب، عدا عشرات مراكز الإيواء الجماعية في الرقة والحسكة والطبقة، ويعمل إلى جانبها منظمات أخرى مثل Mercy Corps ,save the children , CARE”.
هذه المنظمات اضطرت لأنهاء عقود مئات الموظفين، علماً أنها تموّل شركاءها من المنظمات المحلية، التي تضم آلاف الموظفين الدائمين والمؤقتين. وبالعموم فإن أغلب المنظمات أوقفت عدداً كبيراً من مشاريعها، وخفضّت من تمويل بعضها الآخر، واستأنفت بعض أعمالها بعدد محدد من الموظفين.
إقرأوا أيضاً:
سوريا “الجديدة”: إعادة النظر في توازنات الشرق الأوسط
الممثل السوري والسلطة… تاريخ من الصراع والمراوغة!
قطاعات وظيفية شعبية ورسمية مشمولة بخطر التوقّف
رغم غياب الرقم الدقيق لعدد المنظمات الإنسانية الدولية، ولعدد شركائها المحليين المعتمدين على التمويل الأميركي في تنفيذ أنشطتهم ومشاريعهم، فإن العدد يُقدر بالمئات، ممن كانوا يتلقّون دعماً مباشراً في قطاعات الحماية والتعليم والصحة والبنية التحتية وسبل العيش والتماسك المجتمعي.
ووفقاً لمصادر خاصة حصل عليها معدّ التقرير، فإن كتلة الرواتب الشهرية الواردة لموظفي المنظمات الدولية المدعومة أميركياً والعاملة في شمال شرق سوريا، تتجاوز 3 ملايين دولار. وأكثر القطاعات المتضررة بالقرار هي المتعلقة بالزراعة والتنمية والصحة على المستويين القريب والبعيد.
كما أن الإدارة الذاتية نفسها ستتعرّض لعدد من المشاكل، فهي مثلاً تفرض ضريبة دخل نسبتها 5% من قيمة رواتب الموظفين العاملين في المنظمات الدولية، وهذا الأمر يقود إلى خسارة مئات الآلاف من الدولارات شهرياً. عدا أن بعض المؤسسات الخدمية في الإدارة الذاتية، تتلقّى دعماً مالياً دولياً، يساهم في توفير مئات فرص العمل بعقود مؤقتة، أو المرتبطة بعقود مع شركات اللوجستيات والخدمات الخاصة العاملة ضمن المخيمات.
ووفقاً لأرقام وزارة الخارجية الأميركية فإنها أنفقت قرابة 70 مليار دولار في عام 2023، مما يعني أن توقّف الدعم هو قطع شريان الحياة عن شمال شرق سوريا، حيث سيؤثر على الجانب الخدمي والمعيشي والأمني والعسكري والإنمائي وكافة القطاعات الأخرى.
أمريكا ومخيمات “داعش”
من جهتها قالت دوروثي شيا القائمة بأعمال السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن يوم الأربعاء الماضي، إن المساعدات الأميركية لإدارة المعسكرات في شمال شرق سوريا ودعمها، التي تضم سجناء مرتبطين بتنظيم الدولة الإسلامية “لا يمكن أن تستمر إلى الأبد”، مضيفة “تحمّلت الولايات المتحدة الكثير من هذا العبء لفترة طويلة للغاية، وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن تظل المعسكرات مسؤولية مالية أميركية مباشرة”، وفي إشارة إلى مخيمي الهول وروج للنازحين، تابعت “بناء على ذلك نواصل حثّ الدول على استعادة مواطنيها النازحين والمحتجزين، الذين ما زالوا في المنطقة على وجه السرعة”.
هذه التصريحات تضع المنطقة والإدارة الذاتية تحت تأثيرات القرار وتداعياته، حيث من المتوقع أن تتضرر “قوات سوريا الديمقراطية” أيضاً، وهو ما يتطلّب تحركاً دولياً فورياً، لاستعادة الدول المعنية مواطنيها من السجون المخصصة لعناصر “داعش” وقياداته والمخيمات المُقامة لعائلات المقاتلين.
الوضع المعيشي في أدنى مستوياته
منذ اندلاع الحرب السورية وحتى لحظة سقوط النظام السوري السابق، كان الموظف السوري يعيش تحت خط الفقر، وبقاؤه ضمن دوائر المؤسسات الحكومية، ارتبط فقط بغياب البديل وفقدان فرص العمل الأخرى. إذ لا يتجاوز راتب الموظف 20 دولاراً أميركياً شهرياً، ولا يسد هذا المبلغ الضئيل ثمن الحاجات الأساسية.
قالت المدرسة شيرين هشام الدين لـ”درج” :”لم يكن أمامنا سوى البقاء في الوظيفة، فلا بديل ولا راتب إضافي، خصصنا هذا المبلغ الزهيد لتغطية نفقات اشتراكات الكهرباء والهاتف، ولولا مساعدة أخي وشقيق زوجي المقيمين في أوروبا لكان وضعنا كارثي”.
ومع سقوط النظام وسيطرة الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع على البلاد، اتّضح حجم الضغط والأزمات الكبيرة الموجودة، خاصة الاقتصادية والمعيشية. ومع إعلان وزير المالية محمد أبازيد زيادة للرواتب تبلغ 400% لموظفي القطاع العام، ورغم أن القرار كان خطوة مهمة على طريق تحسين شروط المعيشة، فقد عجز عن الوصول بالموظفين والعاملين إلى مرحلة الاكتفاء، فراتب الموظف أصبح يساوي مبلغ 100 دولار أميركي فقط، وفقاً لسعر الصرف المتقلب والمتغير.
يقول إسكان إسكان وهو موظف في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل السوربة في الحسكة “أساساً حالياً كل شيء متوقّف، الخلاف بين الإدارة الذاتية والإدارة العامة الجديدة في دمشق، ألقى بظلاله على مفاصل الحياة ومؤسسات الدولة المختلفة، من تعليم، وهجرة وجوازات، إلى مديرية الشؤون المدنية والنفوس، ومديرية الاتصالات… كما أن الزيادة لم تُصرف بعد، ورواتب موظفي محافظة الحسكة سواء العاملين أو المتقاعدين لم تُصرف منذ كانون الثاني/ يناير الماضي”.
يضيف إسكان :”موظفو الإدارة الذاتية يعيشون ظروفاً صعبة، رواتبهم لا تكفيهم لبضعة أيام، وموظفو الحكومة السورية في أسوأ أيامهم، حيث لم يقبضوا رواتبهم منذ أشهر، ولا أحد يعرف متى يمكنهم قبضها أساساً، ولطالما الخلاف والصراع موجود بين الطرفين فإن المواطن والموظف سيدفعان الثمن”.
من جهته، في حديثه مع موقع “درج” قال ميلاد حسن بائع لحوم في مدينة قامشلو: “إن تأمين اللحوم أصبح أمراً صعب المنال للموظفين وغالبية الناس، وتحوّلت اللحمة إلى رفاهية، من الصعب تأمينها إلا مرة واحدة كل ثلاث أشهر أو أكثر”.
وعن تدهور الوضع الاقتصادي قال عصام طاهر المتخصص في الاقتصاد والتجارة: “إن محافظة الحسكة شهدت تدهوراً اقتصادياً كبيراً منذ بداية الازمة، حيث تضررت الأسواق ومستويات المعيشة، وما ساهم في تمويل الأهالي كانت الحوالات الخارجية، ومع ارتفاع قيمة الليرة السورية، وبقاء الأسعار على حالها، أدى ذلك إلى التقليل من قيمة الحوالات، إذ لا تتجاوز المساعدات الشهرية 200 دولار أميركي في الغالب، ومع حساب فارق الصرف قبل سقوط النظام، إذ بلغت قيمة الدولار الأميركي الواحد 15 ألف ليرة سورية، في حين لا يتجاوز سعر صرف الدولار الأميركي حالياً مبلغ 9 آلاف ليرة فقط، مع بقاء أسعار المواد الغذائية والمستلزمات الضرورية والكماليات بسعرها السابق”.
لا يحتاج المتابع لبذل الكثير من الجهد والعناء، لمعرفة أن الدعم الأميركي شكل العمود الفقري للمعيشة وحركة السوق في منطقة شمال شرق سوريا، في ظل غياب شبه تام للشفافية المالية بالنسبة للواردات والصادرات والاقتصاديات الناشئة وحركة بيع النفط.
وتدير “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا مخيمي روج والهول، ويضم المخيمان نحو 42500 شخص، معظمهم من أفراد عائلات مقاتلي تنظيم “داعش”، ومن بينهم قرابة 18 ألف شخص أجنبي من 60 دولة، وفق تقديرات دولية.
فيما لا يزال أكثر من تسعة آلاف معتقل من أكثر من 50 دولة، متهمين بانتمائهم إلى التنظيم، محتجزين في مرافق تحرسها “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”، ولم يُعرض المعتقلون الأجانب قط على المحاكم، ما يجعل احتجازهم “تعسفياً، وغير قانوني، وغير محدد الأجل” وفق “هيومن رايتس ووتش”.