ذكرى فيرا لوتار: "أبرز عازفة بيانو في القرن العشرين"
في مساء يومٍ بارد من عام 1950، دخلت امرأة متعبة تنتعل حذاءً من أحذية معسكرات الاعتقال السوفياتية مدرسة الموسيقى في بلدة روسية نائية، تدعى نيجني تاغيل. بلغةٍ روسية ركيكة، طلبت المرأة السماح لها بالعزف على البيانو. بعد حصولها على الإذن، جلست المرأة إلى البيانو، وألقت نظرةً طويلة إلى مفاتيحه البيضاء والسوداء. فجأةً، رفعت المرأة يديها عاليًا، ونزلت بأصابعها تضرب بشغفٍ مجنون، فصدحت أنغامٌ قوية تردّد صداها بروعةٍ لم تعرفها المدرسة يومًا. عندما تناهت الأنغام إلى مسامع المعلمين والطلاب، غادروا الصفوف مذهولين، يتدافعون صوب مصدر الصوت. هناك في الصالة، كانت المرأة الغريبة تعزف موسيقى باخ، وموتزارت، وبيتهوفن، وشوبان، بأصابع قوّسها التهاب المفاصلكانت نظراتها معلقةً في اللانهاية، بينما يتجلّى الإلهام على وجهها. بمجرد انتهاء المرأة الغريبة من العزف، بادرتها مديرة المدرسة بالسؤال:
ــ من أنت؟
“اسمي فيرا لوتار ـ شيفشينكو… وسبق لي أن عزفت الموسيقى لمدة 13 عامًا!”، أجابت المرأة بلغةٍ روسية ركيكة.
في وقتٍ ما، صفقت لها أوروبا وأميركا، ووصفها المسرحي والكاتب الحائز على جائزة نوبل، رومان رولان، بأنّها: “أبرز عازفة بيانو في القرن العشرين”. لم تكن فيرا تهتم بالشهرة والمجد، فقد كانت الموسيقى في حدّ ذاتها الأهمّ بالنسبة إليها. كانت الموسيقى بالنسبة لها تمثّل السعادة، وتعني الحياة، انغمست فيها حتى الثمالة، وجمعت في ذاتها رصانة المعلّم واندفاع التلميذ.
ولدت فيرا لوتار عام 1901 في مدينة تورينو الإيطالية في أسرة عالم رياضيات إيطالي وعازفة بيانو إسبانية. انتقل الأب إلى التدريس في السوربون، فانتقلت الأسرة معه إلى باريس، ولما تبلغ الفتاة السادسة من عمرها بعد. هناك، التحقت فيرا بمدرسةٍ للموسيقى، وفي عمر 12 عامًا كانت تعزف بمفردها في الحفلات. تسلّلت ذات مرةٍ خلف الكواليس في محاولةٍ لمقابلة المايسترو الإيطالي الشهير، أرتورو توسكانيني. سألته الفتاة أن يضمّها إلى فرقته، ولكنّ المايسترو المتطلّب رفض طلبها، فاندفعت فيرا بلمح البصر إلى البيانو، وأخذت تعزف مقطوعة للموسيقار وعازف البيانو الهنغاري ـ الألماني فرانز ليست. عندما سمعها المايسترو راح يذرف الدموع، وضمّها على الفور إلى فرقته، لتجوب معه العالم. بعد عامين، وفي الثامنة عشرة من عمرها، بدأت فيرا تقيم حفلاتٍ منفردة. عزفت فيرا في البيت الأبيض، كما عزفت في قصر بيكنغهام، وجابت بموسيقاها أوروبا وأميركا. أمامها طريق مفروش بالورود والمجد، وبالثروة والمعجبين، وكلّ شيءٍ يمكن أن يتمناه المرء. ولكنّ الحبّ حال دون كلّ ذلك!
تعرفت فيرا في منتصف الثلاثينات من عمرها على المهاجر الروسي فلاديمير شيفشينكو، عازف الكمان الذي لقّبته باريس بـ”ستراديفاري الروسي”، تيمنًا بصانع الآلات الموسيقية الإيطالي العبقري أنطونيو ستراديفاري. فلاديمير كان أكبر منها عمرًا، ولديه ولدان. ولكن هذا لم يشكّل عائقًا في نظر فيرا، حيث تزوج العاشقان عام 1936. كان فلاديمير يحدثها طويلًا عن روسيا، ويتحرّق شوقًا للعودة إلى تلك البلاد المدهشة، ويتوق إلى أهلها الرائعين. كتب الزوجان التماسًا إلى السفارة السوفياتية، التي وافقت على عودة فلاديمير إلى الوطن، واصطحاب زوجته معه. انتقل الزوجان السعيدان للعيش في مدينة لينينغراد، ولكنّ عام 1937 الرهيب، الذي اعتقل خلاله ملايين المواطنين، كان يطرق الأبواب…

كانت الحياة صعبة على الزوجين. أخذا غرفة في بيت للطلبة، حيث الحمامات والمطابخ مشتركة. بعد شهرين من المعاناة، وبفضل مساعي موسيقيين روس، حصلت فيرا على عملٍ كعازفة في الفرقة الفيلهارمونية في لينينغراد. خيّل للزوجين أن الأسوأ قد أصبح خلفهما. ولكن، وفي إحدى الليالي، وقفت سيارة سوداء أمام بيت الطلبة، واعتقل العملاء فلاديمير بناءٍ على تقرير مخبر. قررت المحكمة سجن فلاديمير لمدة عشر سنوات مع حرمانه من المراسلات.
هبّت فيرا تدافع عن زوجها. تنقلت بحماستها المعهودة من دائرةٍ إلى أُخرى، تشرح للجميع أنّ زوجها يحب روسيا، وأنّه وطني حتى النخاع، ولكن كلّ ذلك لم ينفع. بعد أن نفد صبرها، صرخت فيرا ذات مرّة: “إذًا، اعتقلوني أنا ايضًا”. وكان لها ما أرادت! أثناء التحقيق معها، قام أحد المحققين بكسر أصابعها واحدةً تلو الأُخرى، كي لا تتمكن من العزف ثانية!
أمضت فيرا كامل مدة احتجازها متنقلةً بين ستةٍ معسكرات اعتقال، تنشر الأشجار، تقطع الحطب، وتعمل في المطبخ… أُعدم الزوج، ولكنّ الزوجة لم تعرف بالأمر إلا بعد مرور سنوات. أرسل الأطفال إلى ملجأ أيتام، وقتلت الابنة في قصفٍ نازي على المدينة. لم تستطع فيرا رؤية ابنها الأصغر إلا بعد عشرين عامًا!
أطلق سراحها عام 1950، ولكنّ السلطات منعتها من الإقامة في المدن الكبيرة. لم تهتم فيرا بهذا الحظر، ولأنّها كانت تحلم فقط بالجلوس إلى البيانو، فقد طلبت أن يسمح لها بالعيش في أيّ مدينة تكون فيها مدرسة موسيقية. في مدرسة نيجني تاغيل ستعزف فيرا ساعاتٍ متواصلة، وفي الممر كان المعلمون يصغون إلى عزفها، ويبكون بصمت، لأنّهم كانوا يعرفون كيف حظيت هذه المرأة بحذاء المساجين…
كان تلامذة تلك المدرسة النائية محظوظين بالفعل، فقد كانوا يستمعون إلى العازفة المشهورة مرتين في الأسبوع. ولكن المدرسة لم تكن وحدها المحظوظة، بل المدينة كلّها، لأنّ الفنانة كانت تعزف من دون مقابل في مركز المدينة الثقافي. في البداية، حصلت فيرا على عملٍ في مسرح الدراما في المدينة بصفة منسق موسيقي، ومن ثمّ بدأت تعليم مجموعةٍ من التلامذة. كانت في البداية تستمع إلى عزف الطفل، ومن ثمّ تقول له “يجب العزف على هذا النحو”، وتريه كيف يفعل ذلك. قالت إحدى تلميذاتها لاحقًا: “كانت فيرا تعيش في عالمٍ آخر، ولم تكن تجيد الأعمال المنزلية إطلاقًا. كانت الموسيقى جوهر حياتها، وكلّ سعادتها”.
في تلك الفترة، كانت فيرا تحلم بالصالات الكبيرة، ولكن أقرب مدينة كانت مدينة سفيردلوفسك، حيث عملت هناك في الفرقة الفيلهارمونية لفترة قصيرة فقط، إذ كان العاملون في الفيلهارموني ينظرون بعين الشكّ إلى تلك “الغريبة” و”السجينة السابقة”. أخيرًا، يبتسم الحظ للفنانة، بعد أن زار المنطقة مراسل جريدة “كومسمولسكايا برافدا”، وحضر إحدى حفلات عزفها مصادفةً. صعق الصحافي من براعتها، وفي اليوم التالي عرف الاتحاد السوفياتي كلّه عازفة البيانو فيرا لوتار ـ شيفشينكو.
في السنوات الـ16 التالية، ستعزف فيرا في حفلاتٍ في موسكو، لينينغراد، ولكنّها ستستقرّ في مدينة نوفوسيبيرسك وسط سيبيريا. بذل المعجبون بموهبة فيرا كلّ جهدٍ ممكن، وعملوا بكلّ الوسائل لتأمين شقةٍ صغيرة من غرفتين تسكنها، واشتروا الأثاث، وكذلك بيانو “بيكيت”. كان باب الشقة يترك مواربًا على الدوام، ليستمع الجيران من خلاله إلى عزفها جلوسًا على السلالم.
في نهاية الستينيات، وصلت رسالة من السفارة الفرنسية تدعوها إلى العودة إلى بلدها فرنسا. تضمنت الرسالة عروضًا باستعادة نشاطها الفني، وتنظيم جولاتٍ فنية تعزف خلالها في أوروبا وأميركا. كما وعدت الرسالة بتأمين ظروف حياة لائقة ومكافآت مجزية لا تقارن بما تحصل عليه في الاتحاد السوفياتي. رفضت فيرا العرض، وكتبت: “سيكون رحيلي خيانة بحقّ تلك النسوة اللاتي ساعدنني في أحلك الأوقات على تخطي ظروف المعتقلات”. في الحفلات التي كانت تقيمها فيرا، لم تكن بطاقات الصف الأول تعرض للبيع أبدًا، إذ أبقتها الفنانة محجوزة كي تستطيع النساء اللاتي كنّ معها في المعتقل حضور حفلاتها مجانًا.
أحيانًا، كانت فيرا ترغب في بعض المرح، فتذهب برفقة أصدقائها بعد انتهاء الحفلة لتشرب الشمبانيا، وتعزف على البيانو. يذهب بهم سائق التاكسي إلى حانة قذرة، معظم روادها رجال من العامّة بلحًى غير حليقة، وملابس رثة، يتبادلون الشتائم بكلمات نابية… بعد دخولها الحانة، صرخت فيرا: “ليس هناك بيانو هنا”، وأمرت بزجاجتي فودكا، قدمتهما إلى بعض الرجال، الذين طلبت منهم جلب بيانو ما إلى الحانة. بعد ساعةٍ، كان البيانو في المكان، وكان المدمنون واللصوص والسجناء السابقون يستمعون بصمت، وقد خلعوا قبعاتهم، إلى موسيقى موزارت، بيتهوفن، وباخ..
توفيت فيرا في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1982، ودفنت في إحدى مقابر نوفوسيبرسك. سارت المدينة كلّها وراء نعشها، وعلى القبر وضعوا لوحة من الرخام، نقشت عليها كلمات فيرا نفسها: “مباركة هي الحياة، التي فيها باخ”.