اليوم، وبينما يتصاعد الخطاب العنصري في دول الغرب، وتحديدًا في أميركا، حيث يتجدد خطاب التفوق الأبيض، ليس ضد السود وحسب، إنما أيضًا ضد العرب والفلسطينيين، تبدو استعادة الكاتب الأميركي جيمس بالدوين جيدة في سياق الأدب الذي كٌتب ضد العنصرية، وفي سياق تحليل العنصريّة وفهمها.
“سأصبح حرًا وكاتبًا”
جيمس بالدوين (1924 ـ 1987) هو روائي وكاتب مقالات وكاتب مسرحي أميركي من أصل أفريقي، وأحد أبرز كتاب القرن العشرين، ركز عمله على استكشاف القضايا العرقية والاجتماعية، وحياة السود في أميركا.
أظهر بالدوين شغفًا مبكرًا بالقراءة، وبدأت موهبة الكتابة لديه بالظهور خلال سنوات دراسته. في طفولته، أبعدته الحياة الدينية التي عاشها في ظل زوج والدته عن الصراعات العرقية، وعاش بسلام غير مدرك لما يحصل تمامًا في الخارج، لكن بعد تخرجه من المدرسة الثانوية في عام 1942، اضطر إلى تأجيل دراسته الجامعية بسبب الحاجة إلى إعالة عائلته، ولذلك عمل في أكثر من مهنة، ومن بين الأشغال التي جربها العمل في السكك الحديدية، وكانت هذه البداية لاشتباكه مع مفهوم العنصرية القاسي، ليواجه العنصرية والتمييز، إذ طُرد من المطاعم والمقاهي والمؤسسات الأخرى، لأنه أميركي من أصل أفريقي.
تعرّف لاحقًا على الكاتب ريتشارد رايت، وأصبح صديقًا له، وهو من ساعده في الحصول على زمالة في عام 1945 لتغطية نفقاته. وهنا كانت بداية التحول في حياته، الذي اكتمل بعد ثلاث سنوات بانتقاله إلى باريس للالتحاق بزمالة أخرى، حيث انغمس أكثر في الكتابة انطلاقًا من حياته الشخصية وتجربته المريرة مع العنصرية، والتي منحت كتابته زخمًا وتأثيرًا واسعًا على القراء. يقول بالدوين في حوار معه: “عندما تركت أميركا، بدأت أرى أنها محاولة لخداع الذات، الخوف من النظر بشكل أعمق إلى نفسي. لقد قلت لنفسي إنني سأصبح حرًا ـ حرًا حتى من اللون ـ وسأكون كاتبًا جيدًا قدر استطاعتي”…
أعمال تواجه العنصرية البغيضة
نشر بالدوين روايته الأولى “أعلنوا مولده فوق الجبل” في عام 1953، وهي سيرة ذاتية لشاب نشأ في حي هارلم (نيويورك)، وعاش صراعًا مع قضايا الأب والدين. في هذا الكتاب، يمكن فهم عقلية بالدوين في الكتابة، إذ يؤمن أن السيرة الشخصية وأدب الاعتراف هما بوابة الكتابة عن العنصرية في أميركا في ذلك الوقت. يقول: “كان علي أن أتعامل مع أكثر ما يؤلمني، كان علي أن أتعامل، قبل كل شيء، مع والدي”.
ركز بالدوين على حياته الخاصة، وبالغوص فيها ألقى الضوء على حياة السود في أميركا من خلال أعمال مثل “ملاحظات ابن أصلي”، و”لا أحد يعرف اسمي”، الذي وصل إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، حيث بيع منه أكثر من مليون نسخة. ومن بين كتبه الأكثر تأثيرًا أيضًا “النار في المرة القادمة” الذي سعى من خلاله إلى إخبار الأميركيين البيض حول معنى أن تكون أسودَ، بالإضافة إلى أنه قدم إلى القراء البيض رؤية لأنفسهم من خلال عيون المجتمع الأميركي الأفريقي.
سبرت أعمال بالدوين الآثار النفسية للعنصرية على كلا الطرفين المُضطهَدين والمضطهدِين، من خلال ست روايات، بالإضافة إلى المقالات، فكشف طبيعة المجتمع الأميركي الذي يغصّ بالزيف والتلاعب بالحقائق. وللمصادفة، هو أمر يشبه ما يحدث اليوم تمامًا، وهو دليل على أن رحلة تخلص أميركا من العنصرية ما زالت طويلة، بعكس ما تروّج له. تمكن بالدوين من ترك أثر ليس في داخل الأشخاص السود وحسب، وإنما البيض أيضًا، إذ كشفت كتاباته ممارساتهم البغيضة، من خلال النبش في ضمائر العنصريين لإظهار أبشع الأفكار والممارسات. يقول: “كل ما لا يعرفه البيض عن السود يكشف، بدقة وبلا هوادة، ما لا يعرفونه عن أنفسهم”.
تجربة بالدوين… تجربة الفرد
حبكات روايات جيمس مختلفة، لكنها تشترك في عدد من المواضيع، وخاصة العنصرية، والطبقية، والامتياز الأبيض، والمثلية الجنسية، والقومية، والاغتراب الاجتماعي، إذ تنقل هذه الأعمال قلق بالدوين من مفاهيم العزلة والانفصال على المستويين الفردي والمجتمعي، قلق لا يمحوه سوى الاقتناع بأن الإنسانية لن تجد أملًا في الشفاء إلا في قوة الحب، ولذلك يحمّل بالدوين الفرد المسؤولية الكاملة عن هويته الأخلاقية، وكيف عليه التصرف تجاه البشر من الأعراق والتوجهات الأخرى.
يقول بالدوين: “إن مسألة اللون تخفي الأسئلة الأكثر خطورة عن الذات، ولهذا السبب يصعب التغلب على الأمر برمته، ولماذا يشكل خطورة كبيرة على مجتمعنا. لقد غادرت أميركا لأنني اعتقدت أنني إذا بقيت على قيد الحياة فسوف أغرق ككاتب في المرارة، أردت أن أكون كاتبًا، وليس كاتبًا أسود، أردت أن أكتشف كيف ربطتني تجربتي بالآخرين، وليس كيف فرقتني عنهم”.
تعترف تجربة بالدوين في ثقافة العنصرية والكراهية بوجود جهات ومؤسسات تعمل ضد معرفة الفرد لذاته، وهذا ما نجده في رواياته التي تحمل كل واحدة منها تعريفات مراوغة تصدرها المؤسسات المختلفة (التعليمية والدينية والاقتصادية)، تعمل هذه المفاهيم على الفصل بين الفرد والآخر، وليس جمعهما كما تدعي، وهذا يعني أنها متحكمة في تجارب الأفراد. ويرى بالدوين أن الإذعان لهذه المفاهيم المصدرة من المؤسسات المختلفة يساهم في كره الفرد لذاته وللآخر. يقول: “في نيويورك كان لون بشرتي يقف بيني وبيني، لكن في أوروبا سقط هذا الحاجز. اكتشفت أن سؤال من أنا لم تتم الإجابة عليه، لأنني أبعدت نفسي عن القوى الاجتماعية التي كانت تهددني، لأن هذه القوى أصبحت داخلية وأخذتها معي. لذا فإن سؤال من أنا كان مجرد سؤال شخصي، ولم أجد الجواب إلا في داخلي”.
لم تستمر حرب بالدوين مع العنصرية بالزخم ذاته، وخفت عمله لاحقًا. يبدو أنه شعر مع بداية السبعينيات باليأس من الوضع العنصري، وما يتعرّض له السود في أميركا، خاصة وأنه في تلك الفترة حصلت اغتيالات عدة بحق شخصيات من العرق الأسود، وهذا ما ظهر في كتاباته، لكن ربما ما لم يعرفه بالدوين أن هذه العنصرية ستتشعب، وتغدو أوسع، وتضم فئات جديدة، كالعرب والفلسطينيين، فلو كان بالدوين بيننا اليوم، ماذا كان سيقول هذه المرة؟…
مصادر مختارة:
Native son: an interview with James Baldwin – archive, 1962 – the guardian
Letter from a Region in My Mind- James Baldwin – November 1962.