حدّدت الحكومة لنفسها مهمّتين رئيسيّتين، الإصلاح والإنقاذ، وأسمت نفسها “حكومة الإصلاح والانقاذ” نزولاً عند رغبة رئيسها.
لأول وهلة قد نفهم من العنوان أن المهمتين متساويتان من حيث الأهميّة، أو أن الإنقاذ سيتم حكماً عبر الإصلاح. لكن قراءة البيان الوزاري تشير إلى أن الإنقاذ هو الأكثر إلحاحاً وليس بالضرورة عبر الإصلاح. وهذا أمر مفهوم في ظل انهيار على ثلاثة مستويات: المستوى الأمني بعد الحرب، والمستوى الاقتصادي بعد الانهيار المالي، والمستوى الاجتماعي نتيجة كل ذلك. وقد ترافقت الانهيارات الثلاثة مع تعطّل على مستوى المؤسّسات الدستوريّة السياسيّة.
لذلك نلاحظ تخصيص القسم الأكبر من بداية البيان لمسألة الدفاع عن البلاد وأمنها، وتضمين متنِه ضرورة “تعزيز قدرات الخزينة الماليّة بانتهاج سياسة رشيدة لتعزيز الإيرادات وتفعيل الجباية والإصلاح الضريبي والجمركي ورفع نسبة النمو الاقتصادي ودفع مدّخرات المودعين، إضافة “لزيادة الإنفاق الاجتماعي وإنشاء نظم حماية اجتماعيّة شاملة تطال الفئات الأكثر فقرًا وتغطية صحية لجميع المواطنين ودعم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
يمكن وصف هذه المعالجات بالمعالجات الملحّة لأبرز نتائج الانهيارات الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والتي من دونها لن يكون إنقاذًا على المستوى القريب والمتوسط، في حين أن الإنقاذ على المستوى البعيد يحتاج إلى إصلاحات بنيويّة لا إلى معالجات ظرفيّة فقط. وقد لا تكون الإصلاحات البنيويّة في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمتناول الحكومة الحاليّة التي تنتهي مدّة ولايتها بحلول الانتخابات النيابيّة بعد نحو سنة من الآن.
مع ذلك، لافت غياب العمل وعلاقات العمل عن إطار المعالجات الضرورية. صحيح أن البيان الوزاري لمّح إلى مشكلات العمل عن طريق الكلام عن:
ـ هيكلة القطاع العام.
ـ ملء الشواغر على أساس الكفاءة والنزاهة والولاء للدولة وفق آلية تكفل تكافوء الفرص.
ـ خلق فرص عمل جديدة للشباب.
ـ وضع اتّفاقيّة الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة موضع التنفيذ، والالتزام بأن تكون المشاريع الحكوميّة والبرامج الرسميّة دامجة لهم.
وصحيح أيضًا أنها جرت الاستفاضة بضرورة إصلاح معظم القطاعات الاقتصادية والخدماتية بالتوازي مع تعيين الهيئات الناظمة وتفعيل الإدارات، لكن كلّ ذلك من دون الإشارة إلى العاملين وظروفهم في هذه القطاعات.
وصحيح أيضاً وأيضاً أن البيان نصّ على “تمكين الهيئة التعليميّة وتحسين ظروف عملهم”. وهي المرّة الوحيدة التي يجري فيها ذكر “ظروف العمل” في البيان.
يبدو أن الحكومة تتوخّى الاستمرار في معالجة قضايا العمل، أجوراً وظروف عمل وعلاقات مع أصحاب العمل ومع الدولة، بالطريقة السابقة: “مساعدات وبدل إنتاجيّة” من خارج الأجر بدل مقاربة سياسة الأجور مع إغفال تام للالتفات إلى ظروف العمل، فضلاً عن إغفال ضرورة إصلاح وتفعيل مؤسّسات الحوار الاجتماعي ومحاكم العمل.
إقرار سياسة للأجور في مرحلة النهوض يفترض تفعيل “لجنة المؤشّر” التي اقتصر عملها في المرحلة الأخيرة -هذا إن اجتمعت- على إقرار “المساعدات” على الأجر بدل مناقشة مؤشرات الغلاء وإقرار ما يلزم بشأنها، والأهمّ من كلّ ذلك بدل مناقشة وإقرار سياسة للأجور، وهو من أهدافها الأولى.
يجب أن يترافق ذلك مع إعادة إحياء -فهي شبه ميتة- للمؤسسة الوطنيّة للاستخدام، فمن مسؤوليتها وضع سياسة للاستخدام، ولا تنمية اقتصادية من دون ذلك، ومعالجة مسألة العمالة الأجنبيّة عوضاً عن تركها رهينة للاعتبارات السياسيّة.
كما أن “دعم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”، الثلاثي التمثيل، يجب أن يسبقه انتخاب هيئة جديدة لمجلس إدارته، بعد أن عُطِّل الانتخاب لسنوات لأسباب سياسية وطائفيّة.
المؤسسة الوحيدة للحوار الاجتماعي التي تطرق إليها البيان هي “المجلس الاقتصادي والاجتماعي”، وقد دعا إلى “تعزيز دوره في صياغة السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للدولة”، مع العلم أن هذا المجلس تحوّل إلى ما يشبه المنبر، يستقبل شخصيات سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، فيما عمله هو تنظيم التفاوض بين أعضائه على السياسات الاجتماعية والاقتصادية وتقديم ما يتوصل إليه إلى الحكومة. وللأسف، بحسب قانون هذا المجلس، يُحظَّر عليه مناقشة المسائل الماليّة وموازنة الدولة.
بعد الانهيار المالي وتراجع النمو الاقتصادي، وتدنّي معيشة الأجراء، ومرور نحو سبعين سنة على إقراره في ظروف جدّ مختلفة، بات لزامًا طرح موضوع تعديل قانون العمل، الذي يرعى علاقات العمل، على بساط البحث الجدّي.
منذ أكثر من عقد ومشاريع تعديل قانون العمل تتدفّق من وزارة العمل دون جدوى. اليوم هناك محاولة جديدة يقودها “المركز اللبناني لحقوق العمّال والموظفين”، بالتعاون مع بعض النقابات وبعض الجمعيات المدنية المهتمّة بقضايا العمل، لصياغة مشروع قانون جديد وطرحه للنقاش على المؤسّسات الدستوريّة. وعلى الحكومة تلقّف هذه “الفرصة الشعبية” لإعطاء الموضوع الأهميّة التي يستحقّها في الحكومة والمجلس النيابي.
إن حكومة تضع في أولوياتها إعادة بناء دولة القانون والإصلاح، لا يمكنها أن تستثني قوانين العمل وما يتّصل بها. وكما تتصرّف مع القوى السياسيّة التي لا ترغب في تطبيق القوانين ولا إجراء الإصلاحات اللازمة، خوفاً على مصالحها، عليها أن لا تنتظر مبادرات تأتيها من الاتّحاد العمّالي العام للقيام بعملها، لأنّ الاتّحاد، منذ زمن بعيد، أصبح تابعاً لمجموعة من أحزاب السلطة التي أدّت سياساتها إلى الانهيارات الحاصلة اليوم.
لا أريد أن أتكهّن حول أسباب عدم مقاربة الحكومة بشكل مباشر لقضايا العمل التي تحتاج مؤسّساتها المعنيّة لإصلاحات جذريّة. ولا أريد أن أفترض أن وزير العمل، ولأنه طبيب، وليس ملمًّا بعد بقضايا العمل والعمال، قد فاته أن يضع في البيان الوزاري ما يجب أن يكون من أولويات وزارته، كما أنّي لن أتسرّع وأتّهم الحكومة بتبني سياسات اجتماعيّة أقرب إلى ما يقتضيه تطبيق السياسات النيولبراليّة التي قد يتبناها قسم لا بأس به من الوزراء، نظراً إلى خلفيّاتهم المهنيّة. لكنني بالمقابل، ومع بداية مناقشة البيان الوزاري، ولثقتي الخاصة برئيس الحكومة ونائبه، أنبّه إلى هذا النقص الكبير في فقرات البيان، هذا النقص الذي لا يسدّه قول البيان مثلاً، وعلى عجل، بضرورة أن “تستفيد مختلف الفئات الاجتماعيّة من النمو الاقتصادي”، ولا القول بضرورة “زيادة الإنفاق الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعيّة”، فالعدالة الاجتماعيّة لا تقوم فقط على مستوى تقديم الخدمات العامّة الصحيّة، والتعليميّة والاجتماعية وغيرها، بل على مستوى العمل وظروفه وعلاقات العمل، وتوزيع الأرباح أو الخسائر بشكل عادل.