– بعد سقوط الطاغية وهروبه خارج سوريا، سادت أجواء إيجابية عموماً بين السوريين تتحدث عن إعادة إعمار البلاد وعن محاولة إنقاذ سوريا والشعب السوري. لكن هذه الفترة كانت قصيرة للأسف واصطدمت بالواقع.
– جميع الأطراف في سوريا، بدون استثناء، خائفة ومتوجسة من بعضها. السنة قلقون من فقدان زمام الحكم بعد 54 عاماً من حكم الأقليات. الأٌقليات (الدينية والعرقية) بدورها خائفة من استئثار السنة بالحكم ومن الخلفية السلفية الجهادية لأهل الحكم اليوم. مخاوف الجميع محقة من وجهة نظرهم وغير محقة من وجهة نظر الآخرين!
– المؤسف أن هؤلاء الفرقاء جميعاً لم يتحاوروا حتى الآن بشكل مباشر وعلى أرضية وطنية ترعى مصلحة سوريا والسوريين. الحوار بين الشرع ومظلوم عبدي حصل بوساطة غربية مثلاً. الحوار مع الدروز لم يحصل حتى الآن، مجرد تبادل مواقف عبر وسائل الإعلام بين جميع الأطراف. تغريدة للشيباني باللغة الكردية ترد عليها إلهام أحمد بمطالب سياسية للأكراد، وهكذا.
– هل من الممكن رأب الصدع السوري اليوم؟ الحقيقة، نعم. لا يزال ذلك ممكناً، رغم صعوبة ومشقة مثل هذه المهمة على الجميع. أولى الشروط اللازمة هي حوار وطني حقيقي يشمل جميع الأطراف، لا يكرر المسرحية الهزلية التي جرى عقدها الأسبوع الماضي.
– جرى تفريغ الحوار من مضمونه قبل إنطلاقه. أولاً عبر الإصرار على دعوة المشاركين بصفتهم الشخصية، لا التمثيلية السياسية، وثانياً، عبر تحويل الحوار إلى “عرس وطني” لا يختلف كثيراً عن سلوكيات النظام السابق. انعكس ذلك بشخصيات اللجنة التحضيرية، الوقت القصير الذي عقد خلاله مثل هذا الحوار الهام. آلية اختيار المشاركين، وصولاً إلى بيان ختامي مكتوب مسبقاً قبل عقد يوم الحوار (وفقاً لأحد المشاركين، أن مجموعة العدالة الانتقالية وضعت عشرات النقاط والملاحظات في نقاشها ولم تسلم ورقتها إلا قبل كلمة السيدة هدى الأتاسي بعشرين دقيقة، شأنها شأن باقي المجموعات. تفاجئ الحضور ببيان ختامي المفترض أنه يعكس الملاحظات التي تم تسليمها من قبل جميع المجموعات تمت قراءاته خلال دقائق بعد انتهاء جلسات النقاش، الأمر المستحيل فعلياً قراءة وتلخيص هذه النقاط في البيان الختامي).
– الإصرار السوري على وحدة سوريا ووحدة ترابها جيد. لكن هل سوريا فعلاً “مدرسة في العيش المشترك” كما تحدث الشرع في خطابه؟ الحقيقة لا. العنف الشديد والممنهج خلال سنوات الثورة لم يكن إلا إنعاكساً لفقدان أرضية للعيش المشترك بين مكونات الوطن السوري.
– اليوم سوريا مكشوفة على أعدائها الخارجيين. تعاني من وضع داخلي هش ومفكك وغير مضمون على أفضل تقدير. تصلّب المواقف من الجميع قد يعني ببساطة أن نخسر بلدنا، أو أن ندخل أتون حرب أهلية لا تبق ولا تذر، أو أن نتحول لمجموعة من الكانتونات المتجاورة شديدة العداء والكراهية (جمهوريات يوغسلافيا السابقة مثالاً).
– هناك أسئلة وطنية جوهرية ملحة، ومحقة بدون شك، كان من الممكن التوافق حولها والخوض في تفاصيلها والتوصل إلى تفاهمات وطنية مشتركة بخصوصها خلال مؤتمر الحوار الوطني، لكن تم القفز عليها خلال المؤتمر المذكور وتجاهلها. والحقيقة أن “حلحلة” ما قد تحصل بعد التوافق على هذه الملفات:
1- طبيعة نظام الحكم. من الذي سيقرر طبيعة نظام الحكم في سوريا الجديدة؟ النظام الرئاسي سيء. خبرناه جميعاً كسوريين. يركز السلطة في يد شخص واحد لا شريك له. في حين أن النظام البرلماني ممكن أن يقدم صيغة أفضل للتشاركية السياسية تشعر الشركاء في الوطن بمشاركتهم ودورهم.
2- شكل الدولة، من الذي قرر أن سوريا ستبقى دولة مركزية، شديدة المركزية. لماذا لا نخوض نقاشاً تقنياً في مزايا وعيوب الفدرالية أو اللامركزية الإدارية أو النظام المركزي. ما حصل هو تحشيد الرأي العام ضد الفدرالية بوصفها مشروعاً انفصالياً. بعض أقوى دول العالم وأثراها تحكم بنظام حكم فدرالي (الولايات المتحدة، كندا، استراليا، ألمانيا، الهند، سويسرا…إلخ).
3- المشاركة السياسية والمشاركة في الحكم، لا تعني هنا التنازع على منصب الرئاسة بالضبط، لكن تعني تشكيل الأحزاب وإطلاق عملية سياسية بانتفاح مطلق تشجّع السوريين على النقاش والخلافات والتنافس وتطلق عملية صياغة لدستور جديد يقدم عقداً اجتماعياً جديداً للسوريين. الوضع اليوم أن السيد أحمد الشرع سيعين لجنة لتصيغ إعلاناً دستورياً وفقاً لمؤتمر الحوار الذي لم يشارك فيه أحد (الأكراد، الدروز، العلويين، المسيحيين، وباقي الأقليات)، والقوى السياسية المدنية، النقابات والمجتمع المدني. (نعم تمت دعوة أفراد منفردين من كل هذه الخلفيات للزعم بصدقية الحوار الوطني، لكن النتيجة كما نرى في أكثر من منطقة على الأراضي السورية).
لا بديل عن حوار وطني حقيقي، يفتح الموضوع الأساسي العالق بين السوريين اليوم، نظام الحكم القادم وشكل الدولة والدستور الجديد والعملية السياسية والشراكة في الحكم. دونها، سيقى الشرع يحكم بدلالة توافقات إقليمية وترحيب أوروبي بالاستقرار السوري، ستبقى الدول العربية داعمة كلامياً دون أي استثمار اقتصادي، سيبقى باقي الشركاء في الوطن في وضع متوتر غير راضين عما يحصل، وستبقى سوريا مكشوفة على الجميع وفي وضع أضعف بكثير عما يمكن أن تكون عليه.
الحقيقة ليس فقط أن حافظ الأسد وبشار الأسد كانا جزارين وحكما الشعب بالحديد والنار لأنهما دمويين؛ الواقع أن هذه هي الطريقة التي تحكم فيها السلطة المطلقة والمستبدة الغير موافقة على إشراك الآخرين. سينتفض الشعب ويعبر عن عدم رضاه (حماة 82، القامشلي 2004، ثم ثورة الكرامة 2011) وسيقمع بالحديد والنار وصولاً إلى أن ينتصر طرف ما. لذلك لا بديل اليوم عن إشراك الجميع في الحكم في سوريا والوصول إلى صيغة وطنية ترضي جميع الأطراف.
هل هناك من سيتشدد بمطالبه؟ طبعاً، بدون شك. سواء عن بلاهة وافتقار لقراءة عوامل قوته أو عن شعور بالقوة كون سوريا تحت مراقبة دولية شديدة، أو حتى بدلالة تصريحات دول إقليمية تطالب بحماية الأقليات.
لكن في حال كان الحوار الوطني والشراكة السياسية مقنعة وعادلة للجميع، ستفقد الشخصيات المتطرفة أي أرضية شعبية وقد تنقلب حاضناتها الشعبية عليها في حال استمرت في التعنت في مواقفها. وستخسر الدول الإقليمية أوراق ضغط تمارسها على سوريا اليوم يعلم القاصي والداني أنها مجرد ذرائع لإبقاء سوريا دولة منهكة ومفككة.
بدلاً عن مطالبة الشرع بتوقيع اتفاقية الدفاع المشتركة مع تركيا لحماية سوريا من إسرائيل، ممكن أن نطالب بحوار وطني حقيقي، وإعلان دستوري وعقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة فيها نظام حكم رشيد، تعكس المزيد من التكاتف والتعاون وشد الأزر. سوريا اليوم في مرحلة حرجة كما تحدث الشرع، وتتطلب قرارات جريئة. ربما انفتاح وطني شامل ومفاجئ سيغير موازين القوى داخلياً ويلقم حجراً لأعداء سوريا في الخارج.
من نافل القول أن الحل العسكري ضد أي طرف سوري سيكون مصيبة وخيمة على سوريا وعلى الجميع، لكن الاستمرار في الاستعصاء السياسي الحالي سيؤخر أي فرص استثمار ودعم مالي حقيقي لسوريا ولشعبها.
#للحديث_تتمة