على الرغم من نيل الحكومة الجديدة برئاسة القاضي نواف سلام الثقة من المجلس النيابي بـ 95 صوتاً من بينها أصوات كتلة “الوفاء للمقاومة”، إلا أن ما جرى داخل جلسة الثقة وما يجري خارجها على الأرض عدا عن المشكلات الموروثة لا يوحي بأن طريقها سيكون مفروشاً بالورود.
فالأمر يبدو ظاهرياً بأنه عودة بالوضع إلى طبيعته كما في كل بلدان العالم من حيث وجود حكومة إئتلافية تحكم ومعارضة “تراقب وتحاسب”، إلا أن الأمر في حقيقته ليس بهذه “البراءة” – إذا صح التعبير – خصوصاً وأن المتضررين من الأجواء الجديدة كثر، وعلى رأسهم بالطبع سلطة “العصابة” السابقة التي لن تستسلم بسهولة على الرغم من إنحناء بعض رؤوسها للعاصفة، ومحاولة بعضها – مرغماً لا بطل – ركوب موجة المعارضة لما يرى فيها من مردود شعبي هو بأمس الحاجة إليه لا سيما وأن الانتخابات باتت على الأبواب، هي التي كانت تتحكم بأمور البلد أقله منذ العام 2019 عام الانهيار الكبير، الذي واجهته بإنكار وتجاهل أمام الشعب وله ولمطالبه، وبمحاولة ” تذاكٍ” أمام الأشقاء في المنطقة والأصدقاء في العالم الذين كانوا ولا يزالون يطالبون بالاصلاح طريقاً لعودة العلاقات بينهم وبين لبنان إلى سابق عهدها من دعم ومساندة على تجاوز الصعاب.
هذا التجاهل من جهة والتذاكي من جهة أخرى أدى الى أن تهرب هذه “السلطة” عبر مرشدها السياسي “حزب الله” إلى الأمام، عبر الدخول في حرب “الإشغال والمساندة” لغزة عقب عملية “طوفان الأقصى”، التي ربما تكون قد رأت فيها “فرصة” لإعادة التواصل مع الخارج عبر الضغط العسكري، كما سبق ورأى الرئيس السابق ميشال عون – لمن يذكر – في كارثة إنفجار المرفأ “فرصة” لعودة المساعدات والاهتمام الدولي بلبنان، فكانت النتيجة كما هي عليه اليوم من نكبة كبرى حلَّت بالبلد والشعب من جهة، ومن تغييرات سياسية لم تكن في صالحها تمثَّلت في إنتخاب قائد الجيش – الذي لم يكن محل توافق – جوزاف عون لرئاسة الجمهورية، وتكليف القاضي نواف سلام تشكيل حكومة جديدة مهمتها الاصلاح فالإنقاذ من جهة أخرى، وهو أمر لا يمكن أن يتم بآلية الحكم السابقة والتوازنات السياسية نفسها.
من هنا حلّت القوى المسيحية المعارضة سابقاً في الحكومة محل “التيار الوطني الحر” وتيار “المردة”، وهو ما دفع بجبران باسيل إلى “تنصيب” نفسه زعيماً للمعارضة، كذلك حلَّ رئيس الوزراء الجديد نواف سلام بفريق حكمه – إذا صح التعبير – محل الرئيس السابق ممثلاً للسُنة في غياب زعامة سنية واحدة أو كتلة سنية وازنة يمكن أن تدَّعي تمثيلها للطائفة بغياب زعيمها الأكثر تمثيلاً سعد الحريري الذي تكرّست زعامته في 14 شباط الماضي، ما أثار حفيظة بعض النواب السُنة – إن لم يكن أكثرهم ضمناً – تصدرهم النائب نبيل بدر الذي توجه بكلام قاسٍ إلى رئيس الحكومة بعد كلام مماثل وجهه جبران باسيل اليه، ما بدا وكأنه تناغم سواء عن قصد أم عن غير قصد بين الجانبين، الأمر الذي يطرح علامات إستفهام وربما بعض القلق عن الطريقة التي سيقود بها جبران باسيل المعارضة وهو المعروف بمزايداته الطائفية حد الإبتزاز، ولعبه على التناقضات بين الأطراف كافة حتى وهو في السلطة فكيف الأمر وهو خارجها؟
وهنا قد يأتي دور من يعارض من “الداخل” وهو “حزب الله ” الذي يتبنى خطابين متعارضين ويضع رجل في البور وأخرى في الفلاحة كما يقال، وذلك عبر إفتعاله التناقض بينه وبين بيئته، إذ يتحدث بشيء وتفعل بيئته ومؤيدوه شيئاً آخر، سواء على الأرض أو على وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر بعض “أبواقه” الذي يهدد اللبنانيين وحتى الدول الأخرى بالثبور وعظائم الأمور، وهذا ما بدا واضحاً من طريقة إستقبال “الأهالي” للرئيس سلام في زيارته الأولى بعد نيله الثقة الى الجنوب، وهي الزيارة التي كان يُفترض أن تكون موضع تقدير وترحيب لأنها المرة الأولى – على ما أذكر – التي يتوجه فيها رئيس حكومة إلى قرى الجنوب ومواجهة الناس ومعاينة الأوضاع عن قرب.
من هنا تبدو طريق الحكومة – على الرغم من الزخم العربي والدولي الذي يدعمها – مليئة بالألغام كسابقاتها خصوصاً حكومات الرئيس سعد الحريري التي ومع أنها كانت نتيجة تفاهمات وتسويات داخلية وليس تغييرات إقليمية حادة كما هو الحال اليوم، إلا أنها لم تكن قادرة على الإنتاج نتيجة إستحواذ قوى 8 آذار السابقة بقيادة “حزب الله” على مفاتيح السلطة والادارة، وهو ما قد يتكرر اليوم عبر تفاهمات ومساومات قد تتم تحت الطاولة بين مكونات 8 آذار السابقة لوضع العصي في دواليب العهد والحكومة من داخل الحكومة وخارجها، وهو أمر يراه البعض “مشروعاً” في السياسة اللبنانية التي إعتادت فعل الشيء ونقيضه، وهذا ما يتطلب من الحكومة ورئيسها الكثير من الحنكة والحكمة والصبر والارادة والجهد الجبار من العمل الجاد كي تتفادى مفاعيله، إضافة طبعاً إلى إستمرار الدعم العربي والدولي ومواكبة عملها عن قرب، وهذا عمل اللجنة الخماسية السياسية العربية والدولية، كما بالضغط على إسرائيل لاحترام وقف إطلاق النار والإنسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية، وهو دور يقع على عاتق اللجنة الخماسية العسكرية، والذي للأسف يبدو – حتى الآن على الأقل – وكأنه يتلقى التعليمات الاسرائيلية ونتائجها الميدانية، بدل المتابعة والمواكبة للخروق – إن وجدت – من الجانبين على الأرض وحل الاشكالات قبل تفاقمها، لتكون اللجنة بذلك وكأنها مع إسرائيل تسلب الحكومة اللبنانية أحد أهم مصادر قوتها وهو التعهد بالعمل على تأمين الإنسحاب الاسرائيلي عبر الديبلوماسية والتواصل مع المجتمع الدولي، وهو ما قد يسحب ذريعة مقاومة الاحتلال والاحتفاظ بالسلاح في أيدي “حزب الله”.
فهل يستمر هذا الزخم العربي والدولي في دعم المرحلة الجديدة في لبنان خصوصاً في ظل التطورات المتسارعة في المنطقة والتغول الاسرائيلي سواء في لبنان أم غزة والضفة الغربية أو حتى في جنوب سوريا وصولاً إلى جرمانا بريف دمشق ومحاولة اللعب بالورقة الدرزية في سوريا؟ أم أن العالم سينشغل بما هو أهم في أوروبا الناجم عن تطورات أزمة أوكرانيا ولا سيما بعد الذي حصل في البيت الأبيض بين “سيده” دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما قد يمهد لمساومات جديدة وتبادل مصالح بين القوى المتصارعة قد يدفع ثمنها صغار اللاعبين أمثالنا؟ أسئلة مشروعة ومقلقة في عالم يتغير بسرعة، بينما يبدو أننا في لبنان بغالبيتنا لا نغيِّر ولا نتغير للأسف.