تُخلّف مآسي الإبادة الجماعية، القائمة على أساس عرقي أو إثني أو ديني، آثاراً اجتماعية وثقافية ونفسية عابرة للأجيال، فإلى جانب الجيل، الذي شهد أعمال القتل والتهجير بشكل مباشر، تنشأ أجيال تتعرّف على الإبادة من المرويات، الشفهية غالباً، المنقولة إليها من ذويها وأفراد مجتمعها، أو بقاياه، ما يخلّف رضّاً نفسياً، «تأسيساً» إن صح التعبير، لدى تلك الأجيال، يبني جانباً مهماً من فهمها لذاتها، وثقافتها، بل حتى لأصل وطبيعة وجودها في هذا العالم. وبالطبع، لا تتسم المرويات الشفهية بالدقّة، وتختلط فيها عيوب الذاكرة؛ مع الصدمات التي تعرّض لها الراوي؛ والانطباعات المتغيّرة عبر الزمن؛ وأشكال التهويل أو التهوين أو الأسطرة، التي ترافق انتقال الرواية من شخص إلى آخر. ولذلك، فإن كثيراً من الدول، التي شهد تاريخها جرائم إبادة جماعية، تعمل على نوع من «تثبيت الرواية»، عبر تدوين معياري، تقوم عليه مؤسسات معيّنة، وغالباً ما يدخل في أنظمة التعليم والإعلام والقانون، كي لا تؤدي سيولة المرويات الشفهية إلى تصاعد الحقد والنزعات الثأرية في المجتمع، أو خلق جماعات معزولة. كما تُعتبر تلك الرواية اعترافاً رسمياً بمعاناة الجماعة التي تعرّضت للإبادة، ما يساهم بإعادة إدماج أفرادها، وتصفية الذاكرة الجمعيّة.
يثير تدوين رواية الإبادة بدوره كثيراً من المشاكل، حول دقتها، وشمولها، والسلطة المؤسساتية وراءها، ومغزاها السياسي في الحاضر، إلا أن التدوين المعياري والاحترافي، مع فتح إمكانية نقده، يبقى، في معظم الأحوال، أفضل من ترك هذه المسائل الاجتماعية والتاريخية الحساسة بيد أفراد ومجموعات، قد تحوي كثيراً من المتطرفين، وأشباه الأميين، من الناشطين والمحرّضين العرقيين والإثنيين.
ربما يكون كل هذا «قضايا عالم أول»، بحسب العبارة الساخرة الشهيرة، فعلى الرغم من أن دولاً عالمثالثية كثيرة، اعتمدت التدوين الرسمي، وتثبيت الرواية، للتعاطي مع ماضيها الدموي، إلا أن الحال في المنطقة الناطقة بالعربية، خاصة في المشرق، بعيد جداً عن مثل تلك التجارب، والنزاعات حولها: يبدو غالباً أن هنالك نوعاً من التطبيع مع مجازر الإبادة الجماعية، ولا يقتصر التطبيع على رفض أغلبية أشباه الدول في المنطقة، أو إهمالها، لمسائل التدوين المعياري والاعتراف، بل في ممارسات خطابية، يشارك بها «نخب» وناشطون، ونعاصرها اليوم بكل وضوح، لأقلمة الإبادة. ونعني بـ»الأقلمة»، توطين الممارسات المروّعة، بما يرافقها من خطابات الكراهية، والصور، والمقولات الأيديولوجية، في قلب الثقافة السائدة، ما يجعلها جزءاً مقبولاً واعتيادياً من لغتنا، وثقافتنا السياسية، ونظامنا الرمزي، وتصوراتنا عن العالم. ليست عملية الأقلمة هذه وليدة اليوم، بل يمكن تتبّع أصولها عميقاً في تاريخ الدول القومية لما بعد الاستقلال، بل وقبل هذا بكثير، ولكنها الآن تجري بأسلوب يبدو أقلّ إتقاناً، وتماسكاً أيديولوجياً، ما يجعلها أقرب لاحتيال صريح.
قد تكون محاولة تتبع آليات هذا الاحتيال، وبعض جذوره، أجدى حالياً من التساؤل عن دوافعه، فهي قد تعين على تخفيف الدائرة المفرغة للهمجية، التي تمرّ بها مجتمعات كثيرة، وخاصة المجتمعات السورية. فليكن السؤال إذن: كيف تعوّدنا على أقلمة الإبادة، لدرجة أن ينطلي على كثير منّا احتيال خطابي، لا يمكن وصفه إلا بالرديء؟
جُمَل كاذبة
يمكن رصد ثلاث آليات واضحة للاحتيال الخطابي الحالي، أولها التواطؤ على قص واقتطاع وتشويه الجُمل الصحيحة، التي قد تعبّر عن الإبادة الجماعية، لدرجة الوصول إلى جُمل وعبارات، لا يمكن وصفها إلا بالكاذبة، وليس الخاوية من المعنى. وذلك التواطؤ جماعي، يدرك معظم ممارسيه ما يفعلون.
لعل المثال الأشهر، وربما التأسيسي في التاريخ السوري، هو عبارة «أحداث حماة»، التي درجت للتعبير عن مجزرة الإبادة الجماعية، التي شهدتها المدينة عام 1982. «أحداث» مفردة كاذبة في سياق المجزرة، لأنها واسعة الدلالة إلى أقصى حد، فقد تكون «الأحداث» اشتباكات، أو بعض الفوضى، أو مشاجرة جماعية، أو أي شيء آخر، فكل ما يقع في مدينة أو قرية ما، هو «أحداث» في نهاية المطاف. تواطأ أغلب السوريين، بمن فيهم أهل المدينة نفسها، على استخدام تلك العبارة الكاذبة، خوفاً من النتائج الوخيمة، لذكرهم مفردة «مجزرة» أو «إبادة». أما أنصار النظام السوري السابق، فكانوا مرتاحين جداً للعبارة، لأنهم فعلاً يعتبرون ما جرى «أحداثاً»، على طريقتهم في تنظيم الأحداث.
اليوم في سوريا، يتم الحديث عن «تجاوزات وبعض الفوضى»، بحسب تعبير رأس السلطة ، بخصوص مجازر الساحل السوري، التي ترقى لدرجة الإبادة الجماعية، والتطهير الإثني/الطائفي. بعض من يتخذون «مسافة من السلطة» قد يستخدمون مفردتي «انتهاكات» و»جرائم»، وكل تلك العبارات والمفردات كاذبة، إذا اعتمدنا على المعايير الدولية المعتمدة لتعريف الإبادة الجماعية.
تؤدّي الجُمَل الكاذبة وظيفة خطابية وسياسية أساسية، وهي تمرير الممارسات المروّعة بشكل اعتيادي، وغير لافت، في التداول اللغوي ضمن الحيّز العام، «الجرائم» و»الانتهاكات» و»التجاوزات» تجري كل يوم، وبالطبع كلها «أحداث»، وهكذا قد يتساوى قتل عائلات بأكملها على الهوية، مع جنحة سرقة بسيطة، أو جريمة سرقة موصوفة (أي مشدّدة العقوبة لظروفها الخطيرة على أمن المجتمع). في عُرف القانون، الأولى تُصنّف ضمن التجاوزات والانتهاكات؛ والثانية ضمن الجرائم. أما الإبادة الجماعية، فلا يمكن أن تُذكر بوصفها «جريمة» وكفى، بل تُقال وتُكتب بصيغتها الكاملة: «جريمة إبادة جماعية». وبالطبع هذه الصيغة لها تأثير شديد على انتباه المتلقي، يصل لحد التحفيز العصبي، وتؤدّي إلى تغيير كامل في طبيعة التعاطي مع المسألة التي نتكلّم عنها.
تعاني اللغة العربية المعاصرة كلها من مشكلة، يمكن تسميتها «العبارات التي لا تقول شيئاً»، أي المليئة بالتكرار الإنشائي، والمفاهيم غير المنضبطة، والمفردات غير واضحة الدلالة، ما يجعل تلك العبارات أقرب للهراء، إلا أن المشكلة في سياق التعبير عن الإبادة الجماعية ليست الهراء، بل الكذب الصريح. فالمُتكلّم بالهراء لا يهتم أصلاً بصدق أو كذب، فيما الكاذب يعرف حقيقة ما، ويتعمّد إخفائها أو تشويهها.
الابتزاز بـ«الفتنة»
غالباً ما يكون لكل كذبة مبرّر، من وجهة نظر الكاذب، وهذا يقودنا إلى الآلية الثانية للاحتيال الخطابي، وهي الابتزاز بالفتنة، إذ يرى ممارسو ذلك الاحتيال، أن وصف ما يحدث بعبارات صادقة، له نتائج وخيمة، منها تأجيج الأحقاد والصراعات، أي «الفتنة»، وهي مفردة ذات دلالة مترسّخة ووازنة في التراث العربي والإسلامي.
ما يجعل ذكر «الفتنة» ابتزازاً في سياقنا، هو عملية قلب غريبة للعالم، إذا تصبح جريمة الإبادة الاجتماعية نفسها، الأمر المقبول، الذي يجب أقلمته، والذي لا يُسبّب «الفتنة»؛ فيما التعبير الصادق عنها هو المشكلة والجريمة، التي يجب إنهاؤها، لأنها هي «الفتنة». فلتستمر المجازر إذن، ولنعش تحت تهديدها الدائم، الذي يستبطنه أي خطاب مؤيّد للسلطات، فالممنوع ليس القتل الجماعي، بل الحديث عنه. يصمت كثيرون خوفاً من ذلك الابتزاز، إذ قد يجدون أنفسهم في موضع الاتهام، وليس مرتكبو الجريمة، أو مؤيّدوها ومبرروها.
عملياً، يؤدّي الوصف الصادق إلى تخفيف «الفِتَن»، وليس العكس، فهو قد يُسكت المحرّضين على جرائم الإبادة الجماعية، ويعرّضهم لعواقب، في الدول التي تعرف سيادة القانون؛ كما يضع أي جهة تمارس الإبادة في موضع الاتهام، خاصة على مستوى القانون الدولي، ما قد يدفعها إلى تخفيف ممارساتها، ولو بشكل طفيف. وفي كل الأحوال، فإن جرائم الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر عليها، والأيديولوجيات المؤدّية إليها، هي «الفتنة»، وليس توصيف ما جرى ويجري، بأكبر قدر ممكن من الدقّة والصدق.
الابتزاز اللغوي الشامل من مشاكل اللغة العربية المعاصرة أيضاً، ويجعل كثيراً من مستخدميها يميلون إلى تجنّب الصدق، أو التعبيرات المباشرة. وربما أمضينا جانباً كبيراً من حياتنا تحت ضغط الابتزاز.
تنزيه النظام
الآلية الثالثة للاحتيال الخطابي هي «تنزيه النظام»، ولا نعني بـ»النظام» هنا الأنظمة الحاكمة في هذا البلد أو ذاك، بل كامل نظام المجتمع، بما يشمله من أنظمة فرعية، مثل أنظمة السياسة والقانون والأخلاق والدين والإعلام والتعليم، وهي غالباً مرتبطة بالدولة، بمعناها الأعمق، أي مجموعة الأجهزة العنفيّة والأيديولوجية، والمؤسسات البيروقراطية، والسياسات الحيوية، ونمط السيادة، ورواياتها المؤسِّسة. يقوم الاحتيال الخطابي بربط جرائم الإبادة الجماعية بشخصية أو مجموعة شخصيات، ويُسقط عليها كل صفات الشر والفساد، فيبدو الخلاص منها نهاية الشرور، فيما النظام نفسه بريء، ويمكنه أن يستمر بعدها، ليُصلح ويتجاوز «الأخطاء».
تبدو هذه أقرب لحكاية أطفال رديئة، منها إلى فهم الأسباب الفعليّة، المؤدّية لوقوع مجازر إبادة جماعية في بلد ما. بالطبع، لكل جريمة إبادة مسؤول أول ومباشر، من الناحية السياسية والجنائية، هو غالباً رأس النظام، ولكن مجرّد الإطاحة به لا يعني أن النظام نفسه لن يُنتج مزيداً من المجازر.
في الدول، التي ترغب جديّاً بعدم تكرار مآسي الإبادة الجماعية، تسعى النخب الحقوقية والسياسية والثقافية والتعليميّة، إلى إعادة بناء نظام المجتمع بأكمله، بحساسية عالية، قد تصل أحياناً إلى تغيير ما اعتُبر «هوية» بلدانها، أو إعادة تأويلها، وذلك لأن الإبادة لا يمكن أن يرتكبها شخص، أو ميليشيا، أو حتى جيش فحسب، بل محصّلة «ثقافة» كاملة، لا بد من تحليل ما فيها من عوامل بنيوية مُنتجة للمأساة، وبدون ذلك قد يفقد أي تغيير سياسي معناه.
إلا أن المسألة تصير شديدة الإشكالية، مع انهيار أنظمة التحضّر نفسها، وبقاء مخزونها الأيديولوجي والخطابي، كما في حالة معظم دول المشرق. نحن هنا لا نتحدّث جديّاً عن «نظام» متسق، قابل للتفكيك، بل بالأحرى عن «لا نظام»، يمكنه استخدام ما يشاء من عناصر أيديولوجية، بدون أي تماسك منطقي أو سياسي. هكذا قد تجد أية مجموعة من اللصوص، مبرراً لارتكاب مجزرة إبادة جماعية، بناءً على شذرات من هذا الخطاب أو ذاك، مكدّسة فوق بعضها بطريقة مثيرة للعجب.
في نهاية المطاف، توجد جهة مسؤولة عن إدارة أزمة «اللا نظام» هذه، يمكن ويجب محاسبتها بالتأكيد، باعتبارها المسؤول الأول والمباشر عن جرائم الإبادة، ولكن مشكلة كسر دائرة الهمجية نفسها عميقة ومحيّرة فعلاً. كيف يمكن إعادة بناء نظام لمجتمعات دخلت، منذ سنوات طويلة، في أطوار نزع التحضّر، وما زالت تُنتج المآسي بدون توقّف؟
الموضوع أكبر من تقديم إجابات بسيطة، إلا أن أي إجابة أو حل يبدآن بوصف الحالة بعبارات صادقة، قابلة للتحليل والنقد. يجب الخلاص من «الأحداث» والالتفات إلى كارثة نزع التحضّر، التي تؤدي إلى نزع إمكانيات استمرار الحياة نفسها في المنطقة.
كاتب سوري