–
الآن، حقّاً، ينفتح الجرح السوري من جميع الجهات. بدأ هذا الانشقاق في نسيج جسمه عام 1970، مع الانقلاب العسكري لحافظ الأسد وجماعته، وحين استولوا على الحكم مؤسّسين سلطة الحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي هيمن على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد وأماتها حتى عام 2024. راح ذلك التمزّق الأوّلي للجرح يزداد عُمقاً واتساعاً، ولم يتوقّف عن النزيف. حافظ عليه حافظ الأسد (القائد الوحيد والأوحد إلى الأبد) من دون أن يبرأ؛ احتكر وعائلته البلاد، وصادر الحياة البرلمانية والسياسية، ووضع البلاد كلّها في إناء واحد. قسّم المجتمع بين قسمين: القائد – السلطة، من جهة، والشعب من جهة ثانية، ليفرز بين منطقَين مُغلقَين: السلفية (تهمة تُوجّه إلى كلّ من يُعارض استبداده) والبعثية. كانت الأخيرة باسم عروبة عرجاء جوفاء مجدوعة الأنف، قمعت الحرّيات ووقفت ضدّ أبسط حقوق الإنسان، مرسّخةً الانشقاق والتفرّق باسم الوحدة، والجمود باسم التطوّر، والجهل باسم العِلم. هكذا أقام الأسد الأب سلطةً تبرع في الاحتكار والاستئثار والاتّجار، سلطة العذاب والمرارة، سلطة الانحدار، وصولاً إلى توريث بلاد كاملة (كأنّها مزرعة له) لابنه. ومع توريث الحُكم للأسد الابن، كان النسيج السوري قد تلف، وانبثّت جراثيم النظام البعثي الأمني في طبقات ذلك النسيج بشكل كامل: الفساد، الشعارات الفضفاضة، التخوين، السجون، الطائفية، العشائرية، القبلية، التبعية، القبضة الأمنية وما ارتبط بها من حياة ثقافية واجتماعية تبشيرية ودعائية. ومع هذا كلّه، ازدادت شهوة السلطة التسلّطية تكالباً عند الابن، واستفاقت شهوات جديدة أكثر تكالباً، شهوات المال والتجارة التي احتكرتها عائلته، مؤسّسةً بذلك دستوراً من الامتيازات والانتهاكات والاحتكارات، يرعاها الولاء، وإلا القتل أو السجن.
في عام 2011، حاول الشعب بشكل سلمي أن يعالج هذا الجرح، وخرج إلى الشوارع، محتلّاً الساحات ومطالباً بشيء واحد لا غير: الحرّية. لكنّ الديكتاتور الابن، شأنه كشأن أبيه، زاد هو نفسه من ورم الجرح، ودفع سورية عبر سياسته الأمنية والعسكرية والطائفية إلى حرب دامت 14 عاماً، انتهت أخيراً بفراره وسقوط نظامه. فرار وسقوط يستدعيان تأمّلاً عميقاً، لا في طريقة الهرب وحدها، بل في البنى التاريخية والسياسية والدينية والثقافية والاجتماعية التي أدّت إلى هذه الظاهرة الديكتاتورية واستمرارها، ثمّ سقوطها بهذا الشكل. لم تتأخر القوات التي أسقطت الأسد في دخول قصر الحكم. كان في رأسها أبو محمّد الجولاني، الذي صار يُعرف عربياً وعالمياً، في ليلة وضحاها، باسم أحمد الشرع، لتبدأ معه مرحلة جديدة من تاريخ سورية أكّد فيها، هو نفسه، “ضرورةَ المصالحة الوطنية، وصياغة دستور جامع، وملاحقة مرتكبي جرائم النظام لضمان العدالة، وحماية الأقلّيات، وتشكيل لجنتَين لاختيار مجلس تشريعي ومؤتمر للحوار الوطني، وإعلان دستوري يكون مرجعاً قانونياً، وتحقيق السلم الأهلي ومحاربة الفساد”.
السلطة القائمة في سورية تعتبر نفسها سلطةَ الجماعة “الأكثر” و”الأقوى” و”الأحقّ”، وعلى هذا الأساس تعاملت مع البقية
وفي أول خطر يتعرّض له السلم الأهلي الهشّ، خصوصاً بعد محاولاته خياطة الجرح الذي ورثه عن نظام البعث الديكتاتوري، لم تتأخّر السلطة الحالية القائمة في سورية بتمزيق هذا السلم مجدّداً، لتشقّه في جميع الجهات، مُرتكبةً عبر فصائل تابعة لمؤسّسة الدولة الأمنية والدفاعية (التي يُفترض أن تدافع عن الأرض والمواطنين) ممارسات تُعيد البلاد إلى جحيم القرون الوسطى، وتطمس مفهوم المواطنة، بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، وترسّخ مفهوم الطائفية بأبشع أشكاله، عبر قتل أبناء طائفةٍ محدّدة وكأن لا قيمة لهم، لمجرّد الانتماء إلى طائفة.. مجرّد الانتماء لا غير. بدا واضحاً من هذه الممارسات، ومن المعجم اللغوي الذي رافقها وصدر عنها، أن السلطة القائمة تعتبر نفسها سلطةَ الجماعة “الأكثر” و”الأقوى” و”الأحقّ”، وعلى هذا الأساس تعاملت مع البقية، لا بوصفهم مواطنين يتساوون في المواطنة، بل بوصفهم “أقلّيات دينية” لا يخضعون لسلطة الجماعة، وبالتالي وجب عليها بوصفها “أكثرية دينية” قتالهم ومحاربتهم وذبحهم. اليوم، بعد تلك الأحداث في الساحل السوري، والانتهاكات والمجازر التي ارتُكبت بحقّ المواطنين العُزّل، أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً، والتي تُذكّرنا بمجازر نظام الأسدين (الأب والابن)، سواء بمدينة حماة في ثمانينيّات القرن المنصرم، أو غيرها من المدن السورية طيلة العقد الماضي، يحقُّ لنا أن نسأل: إلى أين تمضي سورية؟ إلى دولة القانون التي تحترم المواطن بوصفه إنساناً، بغض النظر عن انتماءاته ومذهبه ودينه وطائفته أم إلى دولة “الشرع” التي لا تقيم وزناً لحرّية الفرد، ولتجربته الإنسانية، وترفض الآخر المختلف عنه تكفيراً أو قتلاً؟ وهل يقبل شرع الله تكفير الناس وقتل الأطفال والنساء والشيوخ في بيوتهم وحرقها بجثثهم؟ وهل قتل الأبرياء بدم بارد يمتُّ بصلة لشرع الله؟ أيّ دولة إذاً، هي تلك البلاد التي تُدعى سورية اليوم؟ أيّ دولة إن لم تكن دولة القانون والمواطنة والإنسان الحرّ، إن لم تكن دولة شرع الله؟… هل هي إذاً، “دولة” أبو محمّد الجولاني؟
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News