يغيب الفن وتغيب الظاهرة الجمالية عن التحليلات السياسية عموماً. كأن ثمة غربة بين الفكر السياسي ومسار الحروب والتحولات والأحداث الكبرى، من جهة، والفن من جهة أخرى. مع ذلك، الفن هو في صلب التحولات المجتمعية، وهو يختصرها ويضيئها بنوره الخاص. وتكفي الإشارة إلى أنه من الفن، انطلق التحوّل الأكبر والأكثر تأثيراً في العصر الحديث: النهضة الأوروبية، نهضة القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التي حققت الانتقال المصيري من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، والتي يستحيل فهم أي شيء في الواقع المعاصر بمعزل عنها. فقد بدأ التحوّل في فلورنسا، مع الانتقال من ألف عام من فن القرون الوسطى المسيحية في أوروبا، المتسمة بـ«جوهرها الماورائي»، إلى فن الأزمنة الحديثة المتسمة بـ«جوهرها البشري». وقد شملت تلك الثورة الفنية، الهندسة المعمارية والنحت والرسم، خصوصاً الرسم، مع دي فنشي، وبوتيتشلي، ورافايلو، وميكل أنجلو، وتيسيانو، وفرا أنجيليكو، وجيوتو، والعديد سواهم ممن «أنسنوا» (نسبة للإنسان) الرسم الديني.
كان انتقال الفن، من «الجوهر المياتافيزيكي» للتاريخ إلى «جوهره البشري»، فاتحة تحولات كبرى متوالية في أوروبا والغرب، تمحورت حول مفهوم التقدّم، لا سيما فكر التنوير، وظهور العقل النقدي، وبروز الطبقة البورجوازية التجارية في وجه الطبقة الأرستوقراطية، والثورة الصناعية، والثورة الفردية (تحول الجماعات إلى أفراد – مواطنين)، والثورة الفرنسية الكبرى التي أسقطت «النظام الأوروبي القديم» برمته، وظهور المنحى التطوري في علوم الحياة أولاً، ثم في مجمل العلوم الإنسانية، وظهور العلم الحديث وما تلاه من اكتشافات وتطبيقات مثيرة. وقد أمّن ذلك للغرب سيطرة طويلة الأمد على مقدرات العالم الحديث والمعاصر، وإن لم تعد أحادية.
من المحزن أن هذا التطور العلمي والتكنولوجي الكبير، لم يواكبه التطور الإنساني المنشود في الذات الفردية والجماعية، ولم يحلّ، بل فاقم مسألة الحرب والسلم. وما نشهده الآن من توحش في حرب غزة وحرب أوكرانيا، أبلغ دليل على الانفصام المريع بين التطوّر العلمي والتخلّف القيمي… مع ذلك يقول دوستويفسكي عبارته الشهيرة: «الجمال سينقذ العالم»! هل قال الروائي الروسي ذلك حقاً؟ وماذا يقصد به؟ يردد الكثيرون هذه العبارة المنسوبة إلى دوستويفسكي من دون أن يعودوا إلى مصدرها. في الحقيقة، وردت هذه الجملة في روايته «الأبله»، الصادرة عام 1869. وقد أتت بشكل سؤال وجهّه أحد أشخاص الرواية، إيبوليت تيرانتياف، وهو شاب ثائر وعليل، إلى الشخصية الرئيسية في الرواية، الأمير ميشكن، قائلاً: «هل صحيح، أيها الأمير، أنك قلت ذات مرة أن الجمال سينقذ العالم؟». لم يتبنَّ دوستويفسكي هذه العبارة بشكل خاص، كما لم يتبنَّ آلاف العبارات الواردة على لسان شخصياته التي لا تحصى. وأنا أفهمها على الوجه التالي: من يصل إلى اكتساب الشعور الجمالي، يتحقق لديه الارتقاء النفسي والروحي والفكري والخلقي الكبير، الذي يرفعه وينقذه. وبقدر ما ينتشر الشعور الجمالي ويترسّخ في النفوس، يتحقق خلاص العالم.
ما الذي يبقى من توالي الحروب والتحولات والانقلابات والكوارث والمآسي وصعود الدول والممالك واندثارها، في كل زمان ومكان، وفي يومنا الحاضر؟ إذا طرحنا هذا السؤال الكبير، على الفرنسي كلود ليفي – ستروس، أهم علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في القرن العشرين، الذي أمضى أعوامه المائة في دراسة الحضارات، والمقارنة بينها، وفي تحليل الطبيعة البشرية، نلقى الجواب الآتي: لا يبقى إلا الفن.
في الصفحة الأخيرة من آخر مؤلفاته، الذي عنوانه «أن ننظر، أن نصغي، أن نقرأ»، وفيما يشبه الخلاصة النهائية التي وصل إليها في ختام مسيرته الطويلة في علم الحضارات، وفيما يناقض تماماً الفكر التطوري، يكتب ليفي – ستروس ما يأتي: «حين ننظر على مدى آلاف السنين، نجد أن النزعات البشرية تتشابه تماماً. لا يضيف الزمن ولا ينقص شيئاً، من حالات الحب وحالات البغضاء التي يشعر بها البشر، ولا من التزاماتهم، وآمالهم: الأمس واليوم هما نفسهما على الدوام»، ثم يضيف هذه الفكرة المذهلة: «إذا حذفنا بصورة عشوائية بضعة قرون من التاريخ، فلن يؤثر ذلك كثيراً على معرفتنا بالطبيعة البشرية. الخسارة الوحيدة التي لا تعوَّض هي خسارة الأعمال الفنية التي رأت النور في تلك القرون. فالبشر لا يتمايز بعضهم عن بعض، ولا وجود لهم حتى، إلا بهذه الأعمال». إنه لرأي بالغ الأهمية والدلالة.
إذا أخذنا بعض الأمثلة على ذلك، من حضارات وحروب مختلفة، فماذا نجد؟ نجد أن ما بقي من آلاف الأعوام من مرحلة ما قبل التاريخ، ومن التحولات والكوارث والأحداث المهولة التي شهدتها هو، بصورة أساسية، تلك الرسوم الجدرانية داخل الكهوف، التي يلتئم فيها البعد الجمالي بالبعد الطقسي السحري، والتي تجسد الصراع من أجل البقاء ومثول الجماعات البدائية أمام أسرار الطبيعة والكون.
وإذا توقفنا عند نحو ثلاثة آلاف عام من الحضارة الفرعونية، وكل ما عرفته من حروب وتحولات، نجد أن ما بقي أساساً منها هو الأهرام، هذه الصروح الهندسية العظيمة، وكل ما تجمّع في داخلها من كنوز وجماليات ومعارف وكتابات وأسرار وألغاز، متمحورة حول السر الأكبر: الموت، والحياة ما بعد الموت.
وحين ننظر أيضاً إلى ألف عام من القرون الوسطى الأوروبية، وكل حروبها ومآسيها وأوبئتها، ندرك أن ما بقي حقاً منها هو الكاتدرائيات القوطية والأديرة السيسترسية والكنائس الرومانية، بزجاجياتها وتماثيلها وأرغناتها وأناشيدها الغريغورية.
ومن كان ليحفظ حملة بونابرت على روسيا عام 1812، بكل أهوالها، حيث سقط أكثر من خمسمائة ألف قتيل من الجانبين خلال ستة أشهر فقط، إضافة إلى مئات آلاف الجرحى والمفقودين والأسرى، لولا ليون تولستوي الذي جسّدها في روايته «الحرب والسلم»، علماً بأنه لم يعش تلك الحرب، إذ ولد بعدها بستة عشر عاماً، وتعرّف إليها عبر ذاكرة عائلته، وصدر مؤلفه عنها بعد أكثر من نصف قرن. ما بقي من حملة بونابرت على روسيا هو رواية «الحرب والسلم».
وهل من تجسيد أمثل للحرب الأهلية الإسبانية، التي وقعت بين 1936 و1939، والتي سقط فيها خمسمائة ألف إسباني، إضافة إلى مئات آلاف الجرحى، ومئات آلاف الهاربين إلى الخارج، ونصف مليون من ضحايا الأوبئة والمجاعة، أكثر من لوحة بابلو بيكاسو، «غيرنيكا»، التي ترمز إلى هجوم طيران الجنرال فرانكو على مدينة غيرنيكا الباسكية. غابت الحرب الأهلية الإسبانية وبقيت لوحة «غيرنيكا».