لم أتصوّر أن نحتاج يوماً إلى خوض حوار حول ضرورة استصدار قانون يجرّم “الأسدية”، لأنني بكلّ بساطة وبكلّ سذاجة لم أتوقّع أن يُنكر جرائم النظام أحد بعد رحيل الأسد عن السلطة!
تتعالى الأصوات منذ سقط نظام الأسد في سوريا، من أجل استصدار قانون يجرّم “الأسدية” وإنكار جرائم النظام السوري السابق، وقد صدر الإعلان الدستوري، وتضمّن في مادّته التاسعة والأربعين بنداً يجرّم “تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، ويعدّ إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها، جرائم يُعاقب عليها القانون”، وتبدو هذه المادّة صادرة إرضاء للرغبة الشعبية، وتماشياً مع الحملات التي أُطلقت في سبيل إسكات أصوات قضت سنوات طوالاً، وهي تدافع باستشراس عن المقتلة الأسدية.
يمكن تفهّم دعوات وحملات تجريم الأسدية في ظلّ ما تعرّض له الشعب السوري الثائر من فظائع، بالإضافة إلى ما طلع علينا من تصريحات لشخصيات كانت تدعم الأسدية، ما زالت تبرّر وتشكّك في جرائم كبرى، كاستخدام السلاح الكيماوي، وقتل مئات الآلاف تحت التعذيب في المعتقلات، ورمي البراميل المتفجّرة عشوائياً على المناطق المدنية الآهلة بالسكان.
دفعتني هذه الدعوات إلى البحث قليلاً في تاريخ تجريم إنكار الإبادة النازية، لكي أفهم أكثر، وأحدّد موقفي من تجريم الإنكار.
فرنسا وألمانيا هما البلدان الأوروبيان الوحيدان اللذان يجرّمان إنكار المحرقة بحقّ اليهود، ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن القانون الفرنسي وُلد في سياق خاص، بعد شهرين من تخريب مقبرة يهودية، وبهدف وقف خطابات الكراهية، ومعاداة اليهود السافرة، ففي صيف 1990، صدر قانون فرنسي يجرّم مُنكري الإبادة بحقّ اليهود في الحرب العالمية الثانية، تمّ تبنّي القانون واسمه “قانون غيسو”، نسبة إلى جان كلود غيسو النائب الشيوعي الذي اقترحه.
ومنذ تبنّيه، طرح الكثير من التساؤلات والاحتجاجات، وعلى رأسها سؤال: هل حدّ هذا القانون من انتشار الإنكار؟، صحيح أن بعض حَمَلة هذا الخطاب حوكم معظمهم بغرامات مالية، وقلّة منهم بالسجن، لكن هذا الخطاب لم يتوقّف عن الانتشار في المجتمع الفرنسي، وقد سمح ظهور الإنترنت بتوسّع نطاقه، وبتزايد وقاحة حامليه متخفّين وراء الأسماء الوهمية.
واجه طرح القانون معارضات عديدة، بدايةً، اعترض بطبيعة الحال حَمَلة خطاب إنكار المحارق النازية، وكانت “الجبهة الوطنية الفرنسية” بقيادة جان ماري لوبن، الجهة السياسية الوحيدة التي عارضت استصدار القانون علناً، وكانت حجّة هؤلاء الدفاع عن حرية التعبير.
بعد تبنّي القانون، ظهر نقد جديد في البرلمان ومجلس الشيوخ وبين النخب الثقافية والمؤرّخين، لأنهم وجدوا أن مهمّة القانون لا تشمل تعريف الحقائق التاريخية، فتلك مهمّة المؤرّخين والناس الشرفاء، وبرأيهم لا يُكتب التاريخ في قاعات المحاكم. كما عبّر البعض عن خشيتهم من تحوّل المحاكَمين وفق هذا القانون إلى أبطال. بالمقابل أشاد البعض بالقانون ووجدوه ضرورة لحماية مشاعر الضحايا، وقد أشار البعض إلى أنه بمجرد رحيل آخر من عايش المجزرة، يمكن رفع هذا القانون، لكنه ضرورة رأفة بالناجيات والناجين.
يُقال إن بياناً صدر عن مفكرين ومثقفين لمعارضة القانون، وقّعه أحد الناجين من المحرقة، ولعل هذا الشخص هو النموذج الذي علينا تأمّله جيداً والتفكّر فيه، الشخص المستعدّ للدفاع عن حرية التعبير حتى على حسابه الشخصي، الشخص الذي يتسامى عن آلامه الشخصية وعن فقده للأحبة في سبيل أن يعبّر الجميع، بخاصة من يختلفون معه في رأيهم.
منذ قرأت ملخّص استصدار القانون وأنا أفكر في واقعنا السوري، ما المشترك بيننا وبين سياق استصدار “قانون غيسو”؟ المشترك الأول والأساسي هو الناجون والناجيات من الضحايا، ويكاد لا يخلو بيت من متأثرين ومصابين إلا في الفئة الأسدية، التي لم تُمسّ حياتها الشخصية واليومية بما يكفي، لجعلها تكفّ عن الإنكار. المشترك الثاني الأساسي هو رغبة عميقة من الضحايا في حماية الحكاية، التي تعرّضت وما زالت تتعرّض للتشويه والتلاعب.
يبقى النقاش حول آلية كتابة التاريخ شرعياً، فهل نكتب تاريخنا بأن نحصره بيد الدولة؟ أم نسلّمه للمختصّين بكتابته؟ تضعنا هذه الأسئلة في مواجهة مع مبدأ الحقيقة الذي يصرّ كثيرون على أنها غير موجودة أصلاً اليوم، في ظلّ انتشار الأخبار الكاذبة ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن المجتمعات تمتلك حقائق متعدّدة ووجهات نظر مرتبطة بتموضعها من هذه الحقيقة، بينما يصرّ الضحايا على أن حقيقة واحدة حصلت ولا بد من توثيقها والاعتراف بحدوثها.
من ناحيتي، أعلم أن عالم اليوم يخلط الحقائق ويتلاعب بها، بالمقابل يفاجئني أن تكون حوادث غير قابلة للنكران بحاجة إلى النقاش، على سبيل المثال، أعتقد أن اعتقال مئات آلاف السوريين والسوريات في مسالخ بشرية، لا يحتاج إلى إثبات يفوق فتح أبواب هذه السجون، وشهادات آلاف الناجين والناجيات، ووثائق عن موت آلاف في غياهب السجون الأسدية. لذا لم أتصوّر أن نحتاج يوماً إلى خوض حوار حول ضرورة استصدار قانون يجرّم الأسدية، لأنني بكل بساطة لم أتوقّع، بكل سذاجة، أن يُنكر جرائمها أحد بعد رحيل الأسد عن السلطة.
تستمرّ أزمة عشتها منذ اندلاع الثورة السورية، وهي عجزي عن فهم عقلية المدافعين الشرسين عن النظام الأسدي ونفسيتهم، عجزت عن فهمهم في حينها وما زالوا قادرين على إدهاشي، وأتذكّر دوماً نقاشاً خضته مع أحد موالي الأسدية بعد مجزرة الكيماوي، التي ارتكبها النظام الأسدي بحقّ مدنيي الغوطة، حين أصرّ أن النظام لم يرتكب المجزرة، وأن السيناريو السوريالي الذي أتحفتنا به بثينة شعبان هو الحقيقة، أي أن إرهابيين سرقوا السلاح الكيماوي من الجيش، وقاموا بنقل مدنيين من محافظة أخرى وقصفوهم بالكيماوي لاتّهام الدولة.
وحينها كان جوابي أن السيناريو الذي تصفه يُدين هذا النظام أكثر، ويجب أن يدفعنا إلى المطالبة باستقالة كل من فيه إن صحّت هذه الرواية، فالروايات التي دافع بها النظام الأسدي عن نفسه، كانت تضعه أكثر في دائرة الاتّهام كنظام فاشل مسؤول عن مقتل المدنيين، بسبب عجزه عن ضبط البلاد. وعلى النسق نفسه، تُخبرنا ممثلة أنها لجأت إلى قائد الفرقة الرابعة وشقيق بشار الأسد لحل مشكلة فنية واجهتها، من دون أن تجد غضاضة في أن الدولة السورية كانت تسيّر بهذا الشكل المعيب، فهي لا تلجأ إلى نقابة الفنانين ولا إلى القضاء لتحصيل حقوقها، إنما تلجأ إلى العائلة الأسدية.
لم أتصوّر أننا سنخوض نقاشاً بخصوص إنكار المقتلة الأسدية عندما تتحرّر سوريا من حكم الأسد، ولدى الأمم المتحدة قوائم بنصف مليون شهيد موثّق من قتلهم، ولدى المؤسسات الدولية شهادات يشيب لها شعر الرأس عن المعتقلات، ويبحث مئات الآلاف عن أهلهم المفقودين في السجون، ويصبح متاحاً لنصف سكان البلد أن يعودوا يوماً ما إلى منازلهم.
لم يخطر لي حاجتنا للمطالبة بقانون كهذا، لأنني ببساطة لم أتخيّل أننا سنحتاج إلى ذلك، كما لم أكن أتصوّر في أبشع كوابيسي أن تكون مأساتنا اليوم، مرة أخرى، إنكار تعرّض المدنيين للانتهاك والقتل في الساحل!
لم أتخيّل أن نُعيد كل ما عشناه، وأن يواجهنا من يخبرنا أن الفيديوهات القادمة من الساحل السوري غير موثوقة، وأن المدني المقتول قد لا يكون مدنياً، وأن يعود الاستقطاب، ويصل إلى حدّ إنكار حق أمّ في رثاء أبنائها، أو إنكار حقّ أبناء القرى في العيش فيها آمنين، والأعجب أن الإنكار استمرّ حتى مع اعتراف الدولة وتشكيلها لجنة للتحقيق.
جلّ ما أتمنّاه اليوم هو أن تنهار ممالك الإنكار، من دون الحاجة إلى قوانين، وأن يكفّ المدافعون عن الأسدية وغيرهم من المنكرين من أنفسهم عن الإنكار، خجلاً وأدباً وتواضعاً أمام الضحايا، من دون أن نحتاج إلى قوانين رادعة. لكن يبدو أنني حالمة. على كلِّ، أفضّل العيش في أحلامي على العيش في عالم بشع، ينظر في أعين الضحايا وينكر عليهم حقّهم البسيط في رواية حكاياتهم كما عاشوها.